لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

فن البوح في "اتجاه عكسي"

د. ياسر ثابت

فن البوح في "اتجاه عكسي"

د. ياسر ثابت
07:01 م الخميس 29 فبراير 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

«غريبة هي الحياة، تفاجئنا كل مرة بخطةٍ بديلة» (ص 25).

بهذه العبارة الدالة المُربكة، تروي بطلة «اتجاه عكسي» (المحرر، 2024) للأديبة نسرين البخشونجي، حكايتها التي تتأرجح في الهواء كثيرًا وطويلًا. والحكاية هنا غارقة في التفاصيل الأنثوية الدقيقة، التي تصنع منها في النهاية رحلة بوحٍ عظيمة.

في هذه الرواية الإنسانية التي تغوص في أغوار النفس ببراعة، ندرك خطورة المتاهة، التي تتكئ على القلق وتقود إلى الحيرة. هذا هو الانطباع الأول الذي تخرج به فور قراءتك روايةً تمثل نموذجًا لذلك التوق الحَييّ الغريب الذي يحلم بأن يحظى بفرصة.

ربما كانت مشكلة البطلة هنا تكمن في رأي طبيبها النفسي، الذي يقول لها: «ما يؤلمكِ حقًا هو خوفكِ من المستقبل وغضبكِ من الماضي، ونسيتِ أن تعيشي حاضركِ» (ص 57).

رمزية المتاهة والقلق لا تقف عند حدود القرارات والعلاقات، وإنما تمتد لتشمل جغرافيا الأماكن:

«أتوه في منطقة وسط البلد، مثل سندريلا لديَّ موعد لا بدَّ من أن أعود بعده إلى البيت، قبله بساعة ونصف أبدأ في الشعور بالقلق والتوتر، وكلما اقترب الموعد أفقد تركيزي وقدرتي على الحوار» (ص 15).

تخيّل أن تكون المتاهة من نصيب امرأةٍ مجهولة (تكاد تكون الوحيدة في الرواية التي بلا اسم)، وحيدة، متزوجة من «متنمر كبير» (ص 55)، لكنها تدرك مشكلتها جيدًا:

«تعودتُ ألا أستعدي أحدًا وأن أظل دائمًا في المنطقة الرمادية خاصة مع أفراد الأسرة، حيث يُسمح لي بأن أكون الابنة، الأخت والزوجة المحبوبة بشروط، فتعودتُ أن أسمعهم دون تعليق وتمرنت على أن تبقى ملامحي محايدة تمامًا. الآن أقول لك، أنا وحيدة لأني قررتُ أن أسكن المنطقة الرمادية» (ص 15).

في الرواية التي تقع في 127 صفحة، إيقاع هادئ وسرد عذب؛ إذ نحن أمام امرأةٍ أحد مفاتيح شخصيتها هو ما قالته لصديقتها «إيمان» ذات يوم: «أريدُ أن أحتفظ بلذة الأمل» (ص 12).

المرأة التي فاجأت الآخرين في صباها بسؤالٍ وقرار، حين قالت للأخصائية الاجتماعية في المدرسة «هل لا بدَّ لي أن أتزوج وأنجب؟ أنا لا أريد أن أتزوج ولا أريد أن أنجب!» (ص 20)، «كتبتُ في أجندة تخصني صفحة كاملة عن مخاوفي، البند رقم واحد كان الزواج والإنجاب» (ص 20).

وبينما تقر بأحاسيسها دفعة واحدة، في اعترافها: «أشعرُ كثيرًا بأني أريد أن أتكوّر، أن أختبئ من الجميع، ومن نفسي، ربما» (ص 12)، وكذا قولها «أتخذُ كثيرًا وضع الجنين، أفكر كيف أعيد أطفالي إلى داخل رحمي» (ص 33)، تُخرج هذه الأربعينية كل مشاعرها تجاه زوجها من غضبٍ وحُبٍّ وثورة في خطابات تعلمُ مسبقًا أنه لن يرد عليها أحد.

اختارت نسرين في روايتها الجديدة تقنية الرسائل لصديقة غائبة، حيث تكتب بطلة الرواية رسائلها فتبدو الرسائل أقرب لبوح داخلي وتدفق للذكريات، وتبدو ظاهريًّا وسيلة تواصل أو طريقة للخروج من متاهة الذات، في حين أنها في حقيقة الأمر نقرات استغاثة، رغبة أن تفهم نفسها ويسمعها أحد، حيث تعاني البطلة الوحدة، حتى أنها تهتف في الرواية «أنا وحيدة يا الله.. أنا وحيدة» (ص 14).

تقول البطلة في مفتتح الرواية:

«سافرتُ اليوم إلى الإسكندرية بعدما أصابتني نوبة بكاء عنيف ليلة أمس، حضّرتُ شنطة سفر صغيرة لي وأخرى للأولاد. قبل أن أخرج من باب الشقة أرسلتُ لأحمد المسافر في مهمة عمل رسالة قصيرة لأخبره بقرار سفري ولم أنتظر منه ردًا. تقتلني حالة البين بين، أب حنون صديق لأولاده يمنحهم كل ما يستطيع وزوج أناني لا يهتم إلا بتحقيق أهدافه التي وضعها لنفسه دون أن يفكر إذا كانت تناسبني كزوجة أم لا؟» (ص 9).

تُلقي الرواية ظلالًا على حياة امرأة مُثقلة بالحزن والفقد، تمضي في متاهة بحثًا عن طريق للخروج، تروي في رسائلها عن طفولتها وعلاقتها بأمها وجسدها، عن أمومتها والخيارات المرعبة التي تضطر كل يوم أن تواجهها لتنجو بأطفالها، عن الحبيب الذي بدا نافذة للحرية لكنه كان هو الآخر قيدًا مُحكمًا للروح.

كما تتناول الرواية فترة الوباء والإغلاق التام لأنوار الحياة داخلها وحولها، وعن محاولاتها المستمرة لحماية أطفالها من الألم رغم مكر الحياة وقدرتها على الوصول لقلوبهم الصغيرة.

تقول البطلة:

«أصبح عالمي هو ذاته عالم «ياسين» و«مسك»، رغم أنني قبل الوباء اعتدتُ أن ألتقي صديقاتي صباح كل خميس، ذلك اللقا الذي وعدتِتني أكثر من مرة أن تنضمي له، ولم يحدث أبدًا أن جئتِ» (ص 13).

ولأن الوباء ترك أثرًا عميقًا في حياتنا، تقول:

«منذ ظهور الوباء لم نعد نلتقي، سنوات مرت وأنا في انعزال تام، أمارسُ فعل الصمت، حياة سرقها كائن متناهي الصغر من عمري دون رحمة» (ص 16).

وتحكي البطلة في رسائلها عن الفقد الذي يبدو حاضرًا ومهيبًا، في حكايتها عن الجارة التي ماتت وبيت قديم اعتادت أن تراه كل صيف، وبشر مروا في حياتها تسببوا في جروح غائرة ثم غادروا.

ولا يفوتها أن تتطرق إلى مشكلات العصر، من انشغال ابنها بالأجهزة الإلكترونية الحديثة لساعات، إلى إدانتها «مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت مثل اليد العنيفة التي تنبش»، مرورًا بتراجعها اقتناعًا منها بأن «مواقع التواصل الاجتماعي هي تاريخنا الذي نكتبه بأيدينا» (ص 24)، قبل أن ترمي في وجوهنا بقنبلتها: «الاكتئاب يقتلنا ببطء، بعلمنا أو دونه» (ص 23).

عند هذه النقطة تحدث المواجهة مع النفس: «منذ فترة أدركتُ أني بالفعل مريضة بالاكتئاب، والآن بعد أن تحسنت حالتي شعرتُ بأنني لم أعد أرغب في أن أكمل حياتي بهذا الشكل» (ص 23).

رواية نسرين البخشونجي، وهي ثالث رواياتها بعد «عطر شاه»، و«غرف الحنين»، تُقدِّم رحلة امرأة تشبه نساء كثيرات يمتلئن بالحيرة، ويغمر الضبابُ الأفق الذي يمررن عبره نحو المستقبل.

تحاول بطلة الرواية أن تنجو بدورها كأم وألا تخفق كحبيبة وصديقة وأن تمضي في رحلة الماضي ربما تتصالح مع كل ما أوجعها لتجد طريقًا نحو النهار الذي تنتظره بأمل.

والحقيقة أن قراءة نص «اتجاه عكسي» تضعنا على تماس مع شؤون المرأة وشجونها.

«وحيدة أبكي، لم تعد لديَّ رغبة في الحديث أو لقاء أحد. صديقاتي بالكاد يلتقينني. أشعر أني حبيسة غرفة مظلمة أو بئر أريد أن أخرج منها ولكن اليد الوحيدة التي ستساعدني هي يدي أنا. أنظر كثيرًا للخلف، أشم رائحة الزمن الذي لا يتوقف. الحنين للماضي يفتح بوابة الفقد، ذلك الشعور المباغت الذي يقتل إحساسي بالأمان. ومع آخر نَفَس في حياة شخص أحبُّه، تنطفئ نقطة نور في روحي. لذا أغبط من لديهم القدرة على التخلي ولا تتوقف حياتهم على شخص، زمان أو مكان. كل تغيير يحدث حولي يُشعرني بالقلق والحزن، إلا حلم تغيير الوطن، ذلك الحلم الوردي البعيد الذي أود أن ألمسه بيدي! » (ص 54-55).

في دورة الحياة، تفاجئها الابنة ذات يوم بجملةٍ مهمة في حياتها «جسدي بدأ يتغيّر» فما كان من الأم إلا أن «حضنتها بقوة وأنا غير مصدقة أن نبتة الحياة بدأت تظهر في جسدها الصغير، ستصير ذات يوم شجرة» (ص 31).

قد نجد شفرة ما في ملف كثرة تنقل الابن والابنة بين المدارس، والصدمة من تغيير أسماء المدارس ومجالس إدارتها، وقد نحكم بأن الرواية سكندرية المكان والطابع إلى حدٍ بعيد، وربما تكون هذه الرواية عن فترة الوباء والإغلاق، أو العلاقة بين الإساءة وفكرة التسامح، لكننا نتصور أن من أهم مداخل هذه الرواية فقرة يقول يقول فيها الطبيب النفسي لمريضته: «إن الأنثى تبقى على طبيعتها حتى يُغيّرها المجتمع بعاداته وأفكاره، فتتحول من أنثى حقيقية إلى مزيفة» (ص 83).

ومع هذه التحولات، نتعاطف مع بطلة نسرين البخشونجي، حين تنهشها جملة جارحة من زوجها «أحمد»، إذ تصف حالها بالقول: «أبدو أمام الجميع مكتملة وتبدو علاقتنا مثالية. بينما تلح عليّ جملة من أغنية «شيكا بيكا» لصلاح جاهين: «أنا راح مني كمان حاجة كبيرة، أكبر من إني أجيب لها سيرة! » (ص 89).

وهذا بالضبط ما نضمره نحن الضحايا، في زمن الوباء!

إعلان

إعلان

إعلان