لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"أحاديث الجوى" والقاهرة التي اختفت!

د. ياسر ثابت

"أحاديث الجوى" والقاهرة التي اختفت!

د. ياسر ثابت
07:00 م الثلاثاء 06 فبراير 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يستحق كتاب "أحاديث الجوى في اقتفاء أثر القاهرة" (دار الرواق، 2024) للباحث حامد محمد حامد، القراءة والاحتفاء به؛ إذ يجمع بمهارة بين التعمق في تاريخ القاهرة المنسي والأسلوب الأدبي رفيع المستوى.
يتساءل الشاعر إبراهيم ناجي على لسان أم كلثوم في أغنية "الأطلال":
كيف ذاك الحب أمسى خبرًا .. وحديثًا من أحاديث الجوى؟
في هذا الكتاب الذي يقع في 192 صفحة من القطع المتوسط، نقف على أطلال القاهرة لا لنبكيها، بل لنطمئن أنفسنا أنه حتى لو زالت صروحها وبادت رسومها، فإن الحكايات قادرة دومًا على أن تحييها من جديد، لنراها رأي العين، ولو كانت عين الخيال.
يقول حامد محمد حامد في مفتتح في الكتاب:
"دعنا نتفق على أنك لم ترَ أيًا من الأماكن التي سيرد ذكرها في هذا الكتاب من قبل، والمؤسف أنك على الأغلب لن تستطيع أن تراها أبدًا!
"فهذا الكتاب يتحدَّث عن طبقة من طبقات القاهرة لم يعد لها وجودٌ فعلي اليوم. طبقة بادت كوردة جفت أوراقها وتساقطت ولم يبقَ منها سوى بقية من عبقها القديم مبثوثة في بطون الكتب وعلى ألسنة الرواة هنا وهناك" (ص 7).
الكتاب رحلة في دروب القاهرة العامرة، يصحبك فيها المؤلف عبر 26 واقعة تاريخية، منها: كُتيفات وفرصة تغيير العالم، حارة واحدة ويانسان، رحلة أبي ركوة من الأندلس للحسينية، معركة الفرخ والفرُّوج، في الجوذرية سوف ترى، البحث عن صاحب الكبش، ديك الجمالية، لغز السيد الخشَّاب.

ولعل أول واقعة في الكتاب، وهي تحمل عنوان "عن بهادر وما جرى له" تعطي فكرة عن مضمون هذا الكتاب الممتع؛ إذ إنه يوضح للقارئ أن "البراح الذي ظننت أنه الأصل في جامع الإمام الحسين لهو حادث طارئ عليه، وأن الجامع الحالي قد التهم -ليصل إلى براحه الحالي- دورًا وخططًا لا يعلمها إلا الله، بل والتهم قبورًا عامرة بسكانها أيضًا، فالجبرتي يُخبرنا عرضًا أن الأمير علي بك الحسيني توفي في شهر رجب سنة 1206 للهجرة بالطاعون، ودُفِن بالمشهد الحسيني بمقابر القضاة" (ص 13).

ويتحدَّث الباحث عن الموضع الذي كانت تشغله دار سيف الدين بهادر، رأس النوبة، وهي إحدى الوظائف العسكرية المرموقة، التي كان صاحبها يرأس المماليك السلطانية كلها، ويُنفذ أوامر السلطان فيهم.

يقول المؤلف:

"وتلك الدار ستصير جزءًا من جامع الإمام الحسين. ومع أن وجوه الأماكن قد تبدلت عبر القرون، إلا أن عنوان دار بهادر المفترض ظل محفوظًا مع ذلك في خطط المقريزي: درب جُرجي المقابل للأبارين" (ص 14).

وتستدعي دار بهادر واقعة شهيرة، هي اغتيال السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، الذي يقول عنه الذهبي: "وكان منهمكًا في اللذات لا يعبأ بالتحرز لفرط شجاعته، ولم أحسبه بلغ ثلاثين، ولعل الله -عز وجل- قد عفا عنه وأوجب له الجنة لكثرة جهاده وإنكائه في الكفار"!

كان سيف الدين بهادر أحد الذين شاركوا في اغتيال الأشرف خليل، بل إنه تعامل مع الجثة بوحشية، ومارس طريقة الخوزقة التي أصبحت شائعة بعد ذلك أيام العثمانيين.

بعد واقعة الاغتيال، اختفى بهادر ورفيقه أقوش الموصلي الحاجب حتى يهدأ الحال، إلى أن عثر عليهما زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وبعث لهما بالأمان، وأرسل يستدعيهما إلى قلعة الجبل. "وهناك، لم تكد تقع أعين المماليك الأشرفية -أي مماليك الأشرف خليل- عليهما إلا وقد بادروهما بالهجوم فذبحوهما على الفور دون انتظار أوامر السلطان الطفل الناصر محمد بن قلاوون أو نائبه ومدبر مُلكه، قبل أن يُعلَّق رأس بهادر على باب بيته، ربما هاهنا موضع جلوسك!" (ص 16).

بعد قطع الرأسين، أُحرِقتْ الجثتان في "قمين جير" كما يذكر ابن تغري بردي، وهي تفصيلة على بساطتها تدعو إلى التمعن.

ومع ذلك، نفهم من المقريزي أن الجثمانين لم يحترقا تمامًا؛ إذ إن رفاتهما قد رُبط من أقدامهما وجُرَّ إلى الكيمان المحيطة بالقاهرة، أي تلال القاذورات والمزابل!

ينتهز المقريزي الفرصة ليحكي أن بهادر وقت حفر أساس داره وجد قبورًا كثيرة، فنبشها وبعثر عظامها، وحين بلغ الخبر قاضي القضاة تقي الدين بن العيد، أرسل إلى بهادر ينهاه عن نبش القبور ورمي العظام، ويحذره من مغبة ذلك، فأجابه بهادر مستهينًا: "إذا متُ يجرُّوا رجلي ويرموني"، وهوما كان! (ص 17).

يعيد حامد محمد حامد النبش في طبقات المدينة التاريخية بحثًا عن قصصها المنسية. فهو لا يتوقف مع الآثار الباقية عن القرون الخالية، والتي تراها العين مبهورة في شوارع المُعزية الآن، بل أنه يميط اللثام عن الآثار المندثرة التي لم تصل إلينا بسبب عوامل الزمن والبشر.

ففي فصل تحت عنوان "حكايات من خط الأبارين" ينقل لنا عن المقريزي معلومة أن الخلفاء الفاطميين كانوا إذا ما أرادوا أن ينتقلوا من القصر الشرقي الكبير إلى الجامع الأزهر، خرجوا من باب الديلم حيث المشهد الحسيني الآن، وساروا عبر سبع خوخ متتالية كانت تفصل بين باب الديلم ورحبة الجامع الأزهر.

والخوخة هي الباب الصغير، ووصف "الصغير" يُقصد به بالمقارنة بأبواب القاهرة مثل باب الفتوح وباب النصر.

أما الخوخ السبع فهي خط مشهور بالقاهرة فيما بين إسطبل الطارمة والجامع الأزهر، كان يتوصل منه الخلفاء الفاطميون حين يخرجون من باب الديلم الذي هو باب المشهد الحسيني الآن إلى الجامع الأزهر، ولم يكن مسلوكًا للناس، وكان يُعرف بخط الشريف عقيل؛ أخي العزيز بالله الفاطمي؛ ثم عُرف بعد انقضاء الدولة الفاطمية بخط السبع خوخ؛ ويعرف في زمن المقريزي بالأبارين؛ حيث أصبح مساكن وسوقًا يباع فيه الإبر والمسلات -وهي الإبر الكبيرة- التي يخاط بها.

ويحكي لنا الباحث عن بيت في الأبارين ارتبط بالأمير فخر الدين أبان الزاهدي، وأغلب الظن أن أبان هو المنشئ الأول للبيت. أبان الزاهدي، الذي نفهم من اسمه أنه كان أحد مماليك الصالح نجم الدين أيوب، شخصية مجهولة بالنسبة إلينا، وقد آل البيت بعد ذلك بطريقة لا يعلمها إلا الله للطواشي بشير الجمدار. والأخير هو من أتمَّ رخام مدرسة السلطان حسن بعد اغتيال السلطان (ص 22).

تخبرنا المصادر أن بشير الجمدار كان تقيًا مستقيمًا، ليس فقط للمنشآت الدينية التي أقامها مثل مدرسته الصغيرة، أو التي تطوّع لترميمها وإصلاح جدرانها وسقوفها وتبليط أرضيتها وتوسعتها مثل الجامع الأزهر، ولا حتى بسبب الدرس الذي رتّبه في الحرم المكي بحيث تتولى أوقافه الإنفاق عليه.

تُخبرنا المصادر مثلًا عن سعد بن عبد الله الحبشي البشيري، أن سيده بشير الجمدار قد "اعتنى به وعلَّمه القرآن".

يحدث هذا رغم أن وظيفة الجمدارية في حد ذاتها كانت مثيرة للريبة، فقد امتلأت كتب الحسبة بالتحذير من تخنُّث الجمدارية الذين كان يتم اختيارهم عادة من الشباب المُرد حسني الهيئة أو من الطواشية –أي الخصيان- والتشديد عليهم في عدم التشبه بالنساء (ص 22).

إلا أن المقريزي يروي لنا أن السلطان حسن بلغه أن مملوكه المقرَّب يلبغا العمري الخاصكي يتآمر عليه ويريد قتله، وأنه يُخفي سلاحه تحت ملابسه وهو في مجلس السلطان. أمر حسن بالقبض على يلبغا في حضرته وخلع ثيابه عنه، فلم يُعثر على شيء، فاعتذر له السلطان وطيّب خاطره. وخرج يلبغا من المجلس وهو يتميز غيظًا.

بعدها بثلاثة أيام، بلغ السلطان حسن أن يلبغا قد أظهر العصيان وجهَّز مماليكه للقتال، فقرر الناصر حسن أن يباغته، ولكن يلبغا عرف بنيَّة السلطان مِن بشير الجمدار!

وكان ما كان وقُتِلَ السلطان حسن قبل طلوع الشمس.

يرجح المؤلف أنه لو صح أن الجمدار هو من نقل إلى يلبغا العمري عزم السلطان على إمساكه، فإن هذا قد يكون بدافع من حُسن النية لا غير، ورغبةً في حقن دم يلبغا العمري ورجالته. ويقول حامد محمد حامد: "وغالبًا لم يخطر ببال الجمدار أن وشايته تلك ستتسبب في مقتل السلطان وإخفاء جثته إلى الأبد" (ص 24).

"أحاديث الجوى" كتاب مترابط الفصول، تكاد كل قصة تاريخية تُسلمك إلى ما بعدها، دون أن يفقد المؤلف الدقة التاريخية أو أن يحيد عن خط الباحث المتمكن الذي يسرد الوقائع التاريخية، ويشتبك معها فاحصًا ومدققًا إذا لزم الأمر.

إعلان

إعلان

إعلان