إعلان

يا موتانا.. ذكراكم قوت القلب ..!

د. أحمد عبد العال عمر

يا موتانا.. ذكراكم قوت القلب ..!

د. أحمد عبدالعال عمر
07:01 م الأحد 22 سبتمبر 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمجيد الأسلاف ضرب من الطقوس والعبادات الدينيّة التي كانت حاضرة في المجتمعات البدائيّة وبعض المجتمعات المتقدمة حضاريًا، وقد تأسست على الاعتقاد في امتداد تأثير أرواح الأجداد الموتى في مجرى حياة الجماعة البشريّة، وأن لهم قدرة على نصيحة وحماية الأبناء والأحفاد وتقديم العون لهم في مواجهة صعوبات وتحديات ومخاطر الحياة. وقد ساعد هذا الاعتقاد على ربط الأبناء بالأجداد والآباء المؤسسين والأرض والجذور، وفي تحقيق تواصل ثقافي بين الأجيال المختلفة، وفي توفير التماسك والترابط الأسري والعائلي والمجتمعي.

ويُقال إن الأحلام كانت هي السر في نشأة هذه الاعتقاد عند القدماء؛ لأن الإنسان البدائي فوجئ بحضور أسلافه الموتى في أحلامه، وكان في تلك الأحلام يدخل في حوار معهم، ويتلقى النصائح والإرشادات منهم حول بعض ما يهمه في حياته، ولهذا حرص على حماية وصيانة قبورهم وتقديم القرابين والرحمات لهم، لاسترضائهم وضمان توفير التواصل الدائم بينهم.

وأظن أن هذا الملمح الديني والثقافي كان حاضرًا بقوة عند المصريين القدماء، وقد امتد حضوره وتأثيره في الأرواح والعقول المصرية عبر العصور المختلفة، وعبر الأديان المختلفة التي اعتقد فيها المصريون. وهذا الاستمرار من أهم مظاهر التواصل الثقافي في الحياة والحضارة المصرية التي لم تعرف الصدامات والانقطاعات الثقافية الحادة بين عصورها ومراحلها المختلفة.

ويكفينا لإثبات ذلك ملاحظة عمق ارتباط المصريين دائمًا بمقابر عائلاتهم وأسرهم، وحرصهم على زيارتها والعناية بها في المواسم والمناسبات المختلفة والدخول في حوار دائم مع الأموات. ويمكننا أيضًا لإثبات ذلك قراءة قصيدة "زيارة الموتى" للشاعر العظيم الراحل صلاح عبد الصبور (1931- 1981) التي قال فيها:

زرنا موتانا في يوم العيد وقرأنا فاتحة القرآن

ولملمنا أهداب الذكرى

وبسطناها في حضن المقبرة الريفية وجلسنا

كسرنا خبزاً وشجوناً وتساقينا دمعاً وأنيناً

وتصافحنا وتواعدنا وذوي قربانا

أن نلقى موتانا في يوم العيد القادم.

يا موتانا

كانت أطيافكم تأتينا

عبر حقول القمح الممتدة

ما بين تلال القرية حيث ينام الموتى

والبيت الواطئ في سفح الأجران

كانت نسمات الليل تُعيركم ريشاً سحرياً

موعدكم كنا نترقبه

في شوق هدهده الاطمئنان

حين الأصوات تموت

ويجمد ظل المصباح الزيتي على الجدران

سنشم طراوة أنفاسكم حول الموقد

وسنسمع طقطقة الأصوات كمشي ملاك وسنان

هل جئتم تأتنسون بنا؟

هل نعطيكم طرفاً من مرقدنا؟

هل ندفئكم فينا من برد الليل؟

نتدفأ فيكم من خوف الوحدة

حتى يدنو ضوء الفجر،

ويعلو الديك سقوف البلدة

فنقول لكم في صوت مختلج بالعرفان

عودوا يا موتانا

سندبر في منحنيات الساعات هنيهات نلقاكم فيها

قد لا تشبع جوعا أو تروي ظمأ

لكن لقم من تذكار حتى نلقاكم في ليل آت.

مرت أيام يا موتانا مرت أعوام

يا شمس الحاضرة الجرداء الصلدة

يا قاسية القلب النار

لم أنضجت الأيام ذوائبنا بلهيبك

حتى صرنا أحطاب محترقات

حتى جف الدمع الديان

على خد الورق العطشان

حتى جف الدمع المستخفي في أغوار الأجفان

عفواً يا موتانا

أصبحنا لا نلقاكم إلا يوم العيد

لما أدركتم إنا صرنا أحطاباً في صخر الشارع ملقاة

أصبحتم لا تأتون إلينا رغم الحب الظمآن

قد نذكركم مرات عبر العام

كما نذاكر حلماً لم يتمهل في العين

لكن ضجيج الحاضرة الصخرية

لا يعفنا حتى أن نقرأ فاتحة القرآن

أو نطبع أوجهكم في أنفسنا ونلم ملامحكم

ونخبئها طي الجفن.

يا موتانا.. ذكراكم قوت القلب

في أيام عزت فيها الأقوات

لا تنسونا .. حتى نلقاكم

لا تنسونا .. حتى نلقاكم.

في النهاية، رحم الله موتانا جميُعا، ورحم الله الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور.

إعلان