إعلان

فرانسيس فوكوياما: الولايات المتحدة ضد العالم؟ أمريكا ترامب والنظام العالمي الجديد

03:35 م السبت 12 نوفمبر 2016

تحدث فوكوياما عن النظام العالمي القائم والتغيرات ا

كتب - سامي مجدي:
أحدث فوز دونالد ترامب المفاجئ في انتخابات الرئاسة الأمريكية زلزالا في شتى أنحاء العالم. فطوال الحملة الانتخابية كانت استطلاعات الرأي ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الغربية تتنبأ بفوز الديمقراطية هيلاري كلينتون ابنة المؤسسة السياسية الأمريكية، على رجل الأعمال النيويوركي القادم من خارج السياق السياسي في الولايات المتحدة.

كثيرة هي التحليلات التي خرجت بعد ظهور النتيجة. من بينها ذلك المقال الذي كتبه العالم السياسي فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير في 1992، تحدث فيه عن النظام العالمي القائم والتغيرات المحتملة عليه جراء فوز ترامب وظهور الشعبوية في العالم الغربي.

المقال نشرته صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية يوم الجمعة تحت عنوان ''الولايات المتحدة ضد العالم؟ أمريكا ترامب والنظام العالمي الجديد''.

وإلى نص المقال:

فرانسيس فوكوياما: الولايات المتحدة ضد العالم؟ أمريكا ترامب والنظام العالمي الجديد

تُمثل الهزيمة التي ألحقها دونالد ترامب، بهيلاري كلينتون نقطة تحول ليس فقط للسياسات الأمريكية بل للنظام العالمي كله. يبدو أننا ندخل عصرًا جديدًا من القومية الشعبوية، يتعرض فيه النظام الليبرالي المهيمن الذي تم بناءه منذ خمسينات القرن الماضي لهجوم من الأغلبيات الديمقراطية النشطة والغاضبة. الخطر من الانزلاق إلى عالم من القوميات المتنافسة الغاضبة بقدر متساوٍ كبيرٍ، وإذا حدث هذا فإنه يمثل منعطفًا بالغ الأهمية مثلما كان سقوط جدار برلين في 1989.

تُعري الطريقة التي انتصر بها ترامب أسس الحركة الاجتماعية التي حرَكها. فنظرة إلى خريطة التصويت تظهر أن دعم كلينتون تركز جغرافيا في المدن على طول السواحل، مع تصويت المناطق الريفية والمدن الصغيرة بقوة لصالح ترامب. التحولات الأكثر إثارة للدهشة كان في تسلله إلى بنسلفانيا وميشيغان ويسكونس، ثلاث من الولايات الصناعية الشمالية التي كانت ديمقراطية وبقوة في الانتخابات الأخيرة والتي لم تكلف كلينتون نفسها عناء تنظيم حملة في الولاية الأخيرة. فاز بمقدرته على الفوز بسبب العمال النقابيين الذين تضرروا من عدم التصنيع، واعدًا إياهم بـ''جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى'' من خلال استعادة وظائفهم التصنيعية التي فقدوها.

لقد رأينا هذه القصة من قبل. هذه هي قصة البريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، حيث تركز الناخبون المؤيدون للخروج بشكل مماثل في المناطق الريفية والبلدات والمدن الصغيرة خارج لندن. هذا الأمر صحيح أيضًا في فرنسا، حيث الناخبون من الطبقة العاملة الذين اعتاد آبائهم وأجدادهم على الأحزاب الشيوعية أو الاشتراكية يصوتون للجبهة الشعبية التي تتزعما ماريان لوبان.

غير أن القومية الشعبوية ظاهرة أوسع بكثير من ذلك. ففلاديمير بوتين لا يزال غير شعبوي فيما بين الناخبين الأكثر تعليمًا في المدن الكبيرة مثل سان بطرسبرغ وموسكو، لكن لديه قاعدة دعم كبيرة في بقية البلاد. الأمر نفسه صحيح بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يحظى بقاعدة دعم حماسية فيما بين الطبقة المتوسطة الدنيا المحافظة في البلاد، أو رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان الذي يتمتع بشعبية في كل مكان عدا بودابست.

الطبقة الاجتماعية، التي تعرف اليوم بمستوى المرء التعليمي، يبدو أنها باتت الشرخ الاجتماعي الأكثر أهمية في عدد لا يحصى من الدول الصناعية والأسواق الناشئة. في المقابل، كان ذلك مدفوعًا بالعولمة والمسيرة التكنولوجية التي سهلها النظام العالمي الليبرالي الذي خلقته بشكل كبير الولايات المتحدة منذ 1945.

عندما نتحدث عن نظام عالمي ليبرالي، فنحن نتحدث عن نظام تجارة دولية قائم على قواعد، كان ذلك النظام وقودا للنمو العالمي في السنوات الأخيرة. هذا هو النظام الذي سمح بتجميع أجهزة آيفون في الصين وشحنها إلى المستهلكين في الولايات المتحدة وأوروبا في الأسبوع الذي يسبق أعياد الكريسماس. كما أنه سهل حركة ملايين البشر من بلدان أفقر إلى بلدان أكثر ثراء، حيث استطاعوا العثور على فرص أكبر لأنفسهم ولأطفالهم. هذا النظام عمل كما هو مُعلن، بين 1979 والأزمة المالية الأمريكية في 2008، وأدى إلى إنتاج عالمي من البضائع والخدمات بمقدار 4 أضعاف، وأخرج مئات الملايين من الناس من الفقر، ليس فقط في الصين والهند، لكن أيضا في أمريكا اللاتينية ودول الصحراء الكبرى الأفريقية.

لكن كما يدرك الجميع بشكل مؤلم الآن، لم تتغلغل عوائد هذا النظام إلى السكان كافة. فالطبقات العاملة في العالم المتقدم رأت وظائفها تختفي مع اعتماد الشركات على التوظيف من الخارج وتقلصت الكفاءة ردا على التنافس العالمي الذي لا يرحم.

لا تزال تداعيات أزمة الرهن العقاري الأمريكي قائمة حتى اليوم (أ ف ب)

هذه القصة طويلة الأمد تفاقمت بشكل كبير جراء أزمة الرهن العقاري الأمريكي في 2008، وأزمة اليورو التي ضربت أوروبا بعد بضع سنوات. في الحالتين، انهارت النظم التي صممتها النخب - الأسواق المالية الليبرالية في الحالة الأمريكية، والسياسات الأوروبية مثل نظام اليورو ونظام الشنغن للاندماج الداخلي - بشكل مأسوي أمام الصدمات الخارجية. تحملت الطبقة العاملة مرة أخرى كلفة تلك الانهيارات أكثر من النخب نفسها. لذا لا يجب أن يكون السؤال الحقيقي لماذا ظهرت الشعبوية في 2016، لكن لماذا استغرقت وقتا طويلًا حتى تصبح واضحة بصورة جلية.

في الولايات المتحدة، كان هناك فشلًا سياسيًا بقدر ما، لأن النظام لم يمثل الطبقة العاملة التقليدية بما يكفي. فالحزب الجمهوري هيمنت عليه الشركات الأمريكية وحلفاءها الذين استفادوا بشكل رائع من العولمة، فيما بات الحزب الديمقراطي حزب سياسات الهوية: تحالف النساء والأمريكيين الأفارقة واللاتينيين وحماة البيئة ومجتمع المثليين - الذي فقد تركيزه على القضايا الاقتصادية.

انعكس فشل اليسار الأمريكي في تمثيل الطبقة العاملة، على فشل مماثل في أنحاء أوروبا. فالديمقراطية الاشتراكية الأوروبية صنعت سلامها مع العولمة قبل عقدين من الزمان، في شكل الوسطية البليرية (نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير) أو ذلك النوع من الليبرالية الإصلاحية الجديدة التي هندسها الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة جيرهارد شرودر مطلع الألفية الجديدة.

لكن الفشل الأوسع لليسار كان هو نفسه الذي أدى إلى 1914 والحرب الكبرى (الحرب العالمية الأولى)، كما ظهر في العبارة الملائمة التي صاغها الفيلسوف البريطاني التشيكي، إرنست غيلنر، في خطاب أرسله صندوق بريد حمل عنوان ''طبقة''، وأرسل بالخطأ إلى شخص اسمه ''أمة'' والأمر تقريبا ظهر على هذه الطبقة لأنها قادرة على الاستفادة من مصدر الهوية القوي، والرغبة في الاتصال مع مجتمع ثقافي عضوي. هذا الشوق إلى الهوية يظهر الآن في شكل اليمين الأمريكي البديل، وهو يتألف من جماعات سابقة تتبنى القومية البيضاء بشكل أو بأخر. لكن حتى المواطنين الأمريكيين العاديين بدأوا في التساؤل: لماذا امتلئت مجتمعاتهم بالمهاجرين، ومن الذي أذن بنظام اللغة السياسية الصحيحة؛ تلك اللغة التي لا يمكن للمرء الشكوى من مشكلة ما من خلالها. هذا سبب حصول ترامب على عدد كبير من أصوات الناخبين الأفضل تعليما والناخبين الأكثر رغدًا في العيش، وهم ليسوا من ضحايا العولمة لكنهم لا زالوا يشعرون بأن بلادهم أخذت منهم. غنى عن القول، أن هذه الدينامكية هي الأساس التي قام عليها البريكسيت.

لذا ما هي العواقب الملموسة التي سيشكلها فوز ترامب بالنسبة للنظام الدولي؟ خلافًا لمنتقديه، لدى ترامب موقف فكري ثابت: إنه قومي فيما يخص السياسة الاقتصادية، وعلى علاقة مع النظام السياسي العالمي. أشار بوضوح إلى أن سوف يسعى لإعادة التفاوض حول الخروج من اتفاقات تجارية مثل النافتا ومنظمة التجارة العالمية على ما يفترض. إذ لم يحصل على ما يريد، فهو على استعداد للتفكير في الخروج منها (هذه الاتفاقيات). وكان قد أعرب عن إعجابه بالزعماء ''الأقوياء'' مثل الرئيس الروسي بوتين الذي لم يحصل على رغم ذلك على نتائج ملموسة من تصرفاته الحاسمة. في المقابل هو أقل إعجابًا بحلفاء الولايات المتحدة التقليديين مثل هؤلاء في الناتو أو اليابان أو كوريا الجنوبية، الذين اتهمهم باستغلال القوة الأمريكية بشكل مجاني. هذا يشير إلى أن دعمهم سيكون مشروطًا بإعادة التفاوض على ترتيبات مشاركة التكلفة القائمة في الوقت الحالي.

من المستحيل تحديد مخاطر هذه المواقف على الاقتصاد العالمي ونظام الأمن العالمي. العالم اليوم ممتلئ بالقومية الاقتصادية. على نحو تقليدي، يعتمد النظام التجاري والاستثماري المفتوح على القوة الأمريكية المهيمنة حتى يبقى طافيًا على السطح. فإذا بدأت الولايات المتحدة تتصرف بشكل آحادي لتغيير شروط التعاقد، فإن الكثير من اللاعبين النافذين حول العالم سوف يكونوا سعداء بالانتقام، وتذكيرنا بدوامة الهبوط الاقتصادي في ثلاثينات القرن الماض (الكساد العظيم)

أعرب ترامب في أكثر من مناسبة عن إعجابه بالرئيس الروسي بوتين (أ ف ب)

والخطر على نظام الأمن الدولي كبير. لقد بزغت روسيا والصين في العقود الماضة كقوى استبدادية عظمى رائدة، وكليهما لديه طموح إقليمي. موقف ترامب من روسيا على وجه الخصوص يثير للمشاكل: لم يلفظ بكلمة نقد تجاه بوتين، وأشار إلى أن استيلاءه على شبه جزيرة القرم قد يكون مبررا. بالنظر إلى تجاهله العام لمعظم جوانب السياسة الخارجية، تشير خصوصيته الثابتة تجاه روسيا إلى أن بوتين لديه بعض النفوذ الخفي عليه، ربما في شكل ديون لمصادر روسية تبقي إمبراطورتيه التجارية واقفة على قدميها. أول ضحية لأي محاولة ترامباوية ''لوضع أفضل'' مع روسيا سوف تكون أوكرانيا وجورجيا، فالبلدان يعتمدان على الدعم الأمريكي للحفاظ على استقلالهما كديمقراطيتين ناشئتين.

على نطاق أوسع، سوف تكون رئاسة ترامب علامة على نهاية حقبة كانت فيها أمريكا رمزًا للديمقراطية نفسها عند الشعوب التي تعيش تحت حكومات استبدادية فاسدة حول العالم. دائما ما كان التأثير الأمريكي يعتمد على ''قوته الناعمة'' أكثر من التوقعات المضللة للقوة مثل غزو العراق. إن الاختيار الأمريكي الثلاثاء الماضي يدل على التحول من المعسكر الليبرالي الأممي إلى المعسكر الشعبوي القوموي. ليست صدفة أن يلقى ترامب دعما قويًا من زعيم حزب الاستقلال البريطاني نياجل فراج وزعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية ماريان لوبان، التي كانت أول من هنأه بالفوز.

خلال العام الماضي، ظهر ترامب كقومي شعبوي جديد، شاركه من يحملون نفس أفكاره ودعموه عبر الحدود. كان الرئيس الروسي بوتين أحد المشاركين الأكثر حماسة في تلك الحالة، ليس بسبب حرصه تحرص على الهوية القومية للشعوب، لكن ببساطة لأنها مدمرة. إن الحرب المعلوماتية التي شنتها روسيا - عبر اختراقها البريد الإلكتروني للجنة الوطنية للحزب الديمقراطي - كان لها تأثيرا هداما كبيرا على المؤسسات الأمريكية، ويمكننا توقع أن يستمر ذلك.

تبقى هناك بعض الشكوك الكبيرة فيما يتعلق أمريكا الجديدة. ففي الوقت الذي يعد فيه ترامب قوميًا متسقًا في قرارة نفسه، فهو أيضا شديد الحب لابرام الصفقات. ما الذي سوف يفعله عندما يكتشف أن البلدان الأخرى لن تُعيد التفاوض حول الاتفاقات التجارية القائمة أو ترتيبات التحالف بشروطه؟ هل سيقبل بأفضل اتفاق يمكنه الحصول عليه أم ببساطة يخرج؟ لقد كان هناك الكثير من الحديث حول مخاطر وضع أصبعه على زناد السلاح النووي، لكن شعوري أنه أكثر انعزالية في قلبه من كونه شخص حريص على استخدام القوة العسكرية حول العالم. عندما يواجه حقيقة التعامل مع الحرب الأهلية السورية، ربما ينتهي به الأمر بأخذ صفحة من قواعد اللعبة التي أرساها أوباما، أو ببساطة يواصل السير وفق القواعد القائمة.

أحدث فوز ترامب زلزالا في الأوساط السياسية الأمريكية والعالمية (أ ف ب)

تلك هي النقطة التي تتدخل عندها مسألة الشخصية في اللعبة. مثل كثير من الأمريكيين الآخرين، أجد صعوبة في تصور شخصية أقل ملائمة ليكون قائدًا للعالم الحر. هذا لا ينبع فقط في جزء منه من مواقفه السياسية، بقدر ما ينبع من غرور وحساسية شديين للإزداء الظاهر. الأسبوع الماضي عندما كان على المسرح مع حاملي أوسمة الشرف، بادر بالقول إنه أيضا شجاع، ''شجاع من الناحية المالية.'' لقد أكد أنه يريد الثأر من كل أعدائه وناقديه. عندما يواجه قادة العالم الأخرين الذين سوف يزدرونه، هل سيتصرف مثل زعيم مافيا أم مثل رجل أعمال يحب الصفقات؟

اليوم، التحدي الأكبر للديمقراطية الليبرالية لا يأتي كثيرا من القوى الاستبدادية مثل الصين، كما من داخل تلك الديمقراطية الليبرالية. في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا ومجموعة كبيرة من البلدان الأخرى، الجزء الديمقراطي في النظام السياسي يعلو في مواجهة الجزء الليبرالي، ويهدد باستخدام شرعيته الظاهرية، بتمزيق القواعد التي قيدت حتى الآن سلوك (الجزء الليبرالي)، وعطلت ترسيخ عالم منفتح متسامح. إن النخبة الليبرالية التي خلقت النظام بحاجة الآن إلى الاستماع إلى الأصوات الغاضية خارج الأبواب والتفكير في المساواة والهوية الاجتماعية كقضايا رئيسية بالغة الأهمية والتي لابد من معالجتها. بطريقة أو بأخرى، نحن ذاهبون إلى طريق وعر خلال السنوات القليلة المقبلة.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان