"روح" زعيم تركي مات شنقًا تطارد "أردوغان"
كتبت – رنا أسامة:
وسط أسوار القرون الوسطى، على طول الجزء الشمالي من المدينة القديمة، تقع قبور ثلاثة رجال ماتوا شنقًا، بداخل المِقبرة الواقعة في المنتصف يرقد عدنان مندريس، رئيس الوزراء التركي السابق، الذي تم الإطاحة به على يد المجلس العسكري عام 1960، ثم أُعدِم في وقت لاحق، جنبًا إلى جنب مع وزيريّ المالية والخارجية، الذين يرقدون الآن بجانبه.
انطوى تاريخ تركيا الحديث على الكثير من الأحداث التي غلُب عليها الطابع الدرامي، والفوضوي المُضطرب، إثر موجات الاضطرابات السياسية قد عصفت بالبلاد، وسط تمرّد الانفصاليين الأكراد، منذ عقود طويلة، فضلًا على تهديد الجماعات الإسلامية المتطرّفة، ومحاولاتهم العديدة للانقلاب وقلب نظام الحُكم، بما في ذلك، محاولة الانقلاب الفاشل التي اندلعت في الخامس عشر من يوليو، وأسفرت عن سقوط مئتي قتيل، ما دفع الحكومة لإجراء "عملية تطهير" لم يُسبق لها مثيل في مؤسسات الدولة.
غيرَ أن بعض الأتراك يترسّخ في عقولهم الاعتقاد بأن حُكم الإعدام الجائر الذي طال مندريس- أول زعيم جمهوري مُنتخب في انتخابات حرة- يُمثّل نوعًا من "الخطيئة"، و"المأساة" التي شكّلت أرضية ما تلاها من أحداث فوضوية، وما يُتوقّع أن يشهده المُستقبل من أزمات واضطرابات في البلاد.
على خلفيّة تلك الأحداث التاريخية، رأت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن الرئيس رجب طيب أردوغان، استدعى ذاكرة مندريس، كجزء من إرثه السياسي، على مدى سنوات حُكمه التي بلغت عقدًا ونِصف.
وكان أردوغان الصغير قد أورد أنه شاهد أباه، أحد البحّارة المتواضعين في مِنطقة البحر الأسود، يبكي لحظة إعلان الحُكم بإعدام مندريس، وقال حينها إن "الحزن الذي خيّم عليه في تلك اللحظة كان ذريعته للتحوّل نحو السياسة".
"نحن نُدرك حلم مندريس"، قالها أردوغان خلال حملته الانتخابية التي أُجريت في 2014، مُتابعًا: "رُبما أعدموه، ولكنه لن يُنسى، سيبقى في قلوبنا دائمًا".
دعم قوي
يقول أستاذ التاريخ في جامعة سابانجي في اسطنبول، خليل بيركتاي: إن المصير الذي لحِق بمندريس في أعقاب مُحاولة الانقلاب الفاشلة، والقبول الضِمني الشعبي الصامت لانقلاب 1960، والمُحاكمة الصورية التي أعقبته، ما هي إلا "وصمة عار" على جبين الأتراك.
"يحق للمواطنين التعبير عن رأيهم وإبداء وجهات نظرهم المُعارضة في أي نظام ديمقراطي، إلا أن رد فِعل حكومتنا على محاولة انقلاب 15 يوليو الفاشلة، أثبتت أن مبادئ الديمقراطية والحرية وسيادة القانون (غير قابلة للتفاوض) في تركيا"، هكذا كتب ابراهيم كالين- المتحدث باسم اردوغان في مقال عمودي له.
وبالرغم من أن محاولة الانقلاب العسكري التركي الأخيرة تُعتبر الأكثر دموية على مدى تاريخ طويل من التدخّلات العسكرية ومحاولات قلب نظام الحكم التي شهدتها السياسة التركية، مع قيام جنود انقلاب 15 يوليو بفتح النار على المتظاهرين المدنيين، وتفجير البرلمان، إلا أن هزيمتهم في نهاية الأمر ساهمت في تأجيج المشاعر القومية، ودفعت أردوغان إلى كسب قدر أكبر من التعاطف، من قِبل قاعدة جماهيرية عريضة من المؤيّدين، لا تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت تدعم "مندريس".
قال كاتب العمود التركي الليبرالي، مصطفى أكيول: "خرج إلى الشوارع أحفاد مَن بكوا لـ مندريس، مُستخدمين مواقع التواصل الاجتماعي في تنظيم انقلاب 15 يوليو".
تمامًا كما أردوغان، فقد تمتّع مندريس بشعبية كبيرة من قِبل تيار يمين الوسط، ساعدته في الدفع نحو تحرير الإصلاحات الاقتصادية، وسط مناخ مشوب بعلمانيّة الدولة الصارمة، مُحاولًا خلق قدر أكبر من المساحة لمُمارسات المُسلمين.
ولفت بريكتاي إلى أن مندريس، الذي ينتمي إلى قاعدة الأثرياء، ذوي التعليم العالي، نجح في الوصول إلى السلطة وتولّي مقاليد الحُكم، بفضل أصوات قاعدة المُسلمين السُنّة، الفقيرة، المُهملة إلى حد كبير، قائلًا إن: "فوزه في الانتخابات عام 1950 مثّل انطلاقته وأولى مُحاولاته للاستيلاء على مركز السياسة التركية.
بالمِثل، رأى أردوغان نفسه يسير على خُطى مندريس، مُستحضرًا تاريخه؛ لإظهار أن خطابه ذي الطابع الإسلامي "له جذور، وجزء من تقليد سياسي أكثر عراقة وقدامة"، حسبما قال الصحفي والمستشار السابق لحكومة أردوغان أتيان ماهكبيان.
علاوة على ذلك، لا يتوانَ أردوغان عن الادعاء - مرارًا وتكرارًا- بمحاربته لذات القوى التي كانت سببًا في القضاء على مندريس، بما في ذلك: الجيش العلماني، ومّخططات "الدولة العميقة"، والأفكار التركية المُرسّخة في بيروقراطيّة الدولة رغم مُناهضتها للديمقراطية بشكل واضح.
قلق عميق
تقول السلطات التركية إن محاولة الانقلاب قد نفذت بمؤامرة على صلة برجل الدين، فتح الله كولن، والذي يعيش في منفى اختياري بالولايات المُتحدة الأمريكية، ويرأس شبكة عالمية مُعقدة من المدارس والشركات والجمعيات الخيرية.
في سنواته الأولى من تقلّد السلطة؛ تعاون حزب أردوغان الحاكم، العدالة التنمية (AKP)، ومسؤولون على صلة بكولن، في إطار البيروقراطية الحكومية، لتنحية العناصر المنافسة جانبًا، بما في ذلك كبار ضباط الجيش العلماني بالبلاد؛ ولكن إبان السنوات الأخيرة، شهد المعسكران حربًا مفتوحة مع بعضهما البعض.
شبّه أردوغان جهود كولن الرامية إلى توريطه وحلفائه في قضايا فساد مثيرة للجدل بما أسماه "المحاكم الصورية" التي أُعدت للإيقاع بمندريس.
في هذا الشأن، يقول الكاتب أكيول "الإطاحة بمندريس من قِبل قوى تآمرية شائنة في السابق، يُشابه في جوهره وأسلوبه محاولة الانقلاب الفاشلة التي أجراها مجموعة المتآمرين الذين أرادوا تحدي الغالية العظمى من الشعب 15 يوليو الماضي"، مُضيفاً أن "أنصار كولن هم عنصر جديد فحسب في نفس التقليد القديم لمدبري الانقلاب التركي".
وفي أعقاب محاولة الانقلاب- المُزعم تدبيره وقيادته من قِبل ضباط الجيش التابعين لكولن- علّق أكيول، قائلًا "إنها مُصادفة تاريخية أكثر ملائمة".
فمنذ إحباط مُحاولة الانقلاب؛ تعرض العشرات من ضباط الجيش، والقضاة وضباط الشرطة، والمعلمين وغيرهم من الموظّفين المدنيين الذين يُعتقد أنهم على صلة بحركة كولن، إما للقبض عليهم أو اعتقالهم أو الإبعاد عن مؤسسات الدولة.
كما صدرت أوامر باعتقال عشرات الصحفيين الذين يُعتقَد ارتباطهم بأنصار كولن، فضلًا عن إغلاق أكثر من 100 وسيلة إعلامية جراء تلك العلاقات المزعومة مع حركة كولن.
الأمر الذي دفع الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، للإعراب عن "قلقله العميق"، في مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية التركي، حيال عمليات التطهير، وحث أنقره على "التمسك بالتزاماتها المتعلّقة بمجال حقوق الإنسان".
وهنا، يظهر عبق الماضي، إذ يقول نيكولاس دانفورث، الباحث بشؤون تركيا لدى مركز سياسة الحزبين في واشنطن، والخبير في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا خلال الحرب الباردة، إن "الأحداث التي أحاطت سقوط مندريس، بما في ذلك: حالات الاستقطاب المَضطربة في السياسة التركية، تململ الجيش الذي يعتبر نفسه حامي حِمى البلاد، التوترات الناشئة بين المحافظين المُسلمين والعلمانيين، بدأت تتكرّر، وتلوح في الأفق مرة ثانية في عهد أردوغان".
وأردف قائلًا: "في السنوات الأخيرة من حكم مندريس، أصبح استبداديًا على نحو متزايد، فضلًا عن انتهاجه سياسات الوحشية والتخويف ضد معارضية، في ظل اعتقال الصحفيين المُعارض، وإغلاق الصحف المُناهضة لنظامه".
وختامًا حذّر دانفورث من أن "جهود أردوغان الرامية لتجنّب مصير مندريس، رُبما تدفعه للوقوع في ذات الفخّ".
فيديو قد يعجبك: