أخطاء السعودية وأمريكا.. كيف أصبحت إيران قوة عظمى بالشرق الأوسط؟
كتب: محمد الصباغ:
قالت مجلة "كريستيان ساينس مونيتور"، إن إيران أظهرت نفوذًا واسعًا تنافس به أي قوة إقليمية أخرى خلال النصف قرن الماضي. وجعلها ذلك تخلق تحديات جديدة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والسعودية، حيث قوضت هيمنتهم السابقة.
واستعرضت المجلة الأمريكية في عددها في الأسبوعي خلال هذه الشهر كيف باتت إيران قوة إقليمية عظمى جديدة بالشرق الأوسط، وكيف ثبتت أقدامها في المنطقة، وماذا يعني ذلك؟
بالمفروشات الرغدة وأفضل كؤوس المياه البلورية في بغداد، تُظهر المكاتب الجديدة للمليشيات الشيعية المدعومة من إيران المال والقوة، وهو المطلوب بالتحديد. بنهاية إحدى غرف الاجتماعات هناك مكان مجهز للقاءات التلفزيونية، مع كراسٍ مطلية بالذهب وخلفية فيها أعلام العراق والمليشيات.
في الغرفة المجاورة، هناك صورة ضخمة للمرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، في دليل على أن حركة النجباء واحدة من 44 مليشيا شيعية – من بين 66 ينشطون في الخطوط الأمامية العراقية- موالية للقيادة في إيران.
وبات سائدًا وبقوة- ومقبول بشكل كبير في بغداد- أن التدخل الإيراني الفوري في يونيو من عام 2014 أوقف التقدم السريع لتنظيم داعش وأنقذ العاصمة العراقية، بينما الولايات المتحدة تحدثت كثيرا وأجلت ردها لأشهر، وتخلت عن العراق في لحظة الحاجة إليها.
ويقول هشام الموسوي، المتحدث باسم حركة النجباء، إنه "لولا وجود الأسلحة الإيرانية، لكان تنظيم داعش يجلس على هذه الأريكة"، مشيرًا إلى نحو أريكة بجواره، في وقت يقدم فيه أحد المساعدين حلوى إيرانية.
وتابع الموسوي: "انتصارنا على داعش انتصار للبشرية كلها".
هو أيضًا انتصار لإيران، التي بزغ نجمها من مواقع المعارك ضد داعش في العراق وسوريا، وما بعدهما كقوة عظمى إقليمية تمتلك قوى ناعمة وأخرى قاسية تشكل بها الأحداث في الشرق الأوسط، بشكل أكبر مما كانت عليه في السابق.
قبل هذه الأيام، حققت إيران الشيعية نجاحا محدودًا في محاولتها لبسط نفوذها في أغلب الدول السنية في العالم الإسلامي، وذلك على الرغم من الدعوة التي تعود إلى عقود مضت بتصدير الثورة، والتي أطلقها الإمام الخميني في أعقاب الثورة الإسلامية في عام 1979.
لكن حاليًا، وانطلاقًا من سنوات تدخلت فيها المليشيات الإيرانية لقتال داعش ودعم حلفائهم في الخارج، وسنوات من تراجع القيادة الأمريكية، والخطوات غير الذكية والاستعراضية من منافسها الإقليمي الرئيسي (المملكة العربية السعودية السنية)، ظهرت إيران كقوة مهيمنة في المنطقة.
إيران حاليًا حققت نفوذًا ملحوظًا نافس قدرة أي قوة إقليمية أخرى في النصف قرن الماضي. وتمثل طهران الآن تحديًا لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والسعودية حيث تقوض هيمنتهم السابقة. وفي منطقة تترنح بالفعل بفعل الحروب متعددة الأطراف، يبقى السؤال الجوهري هو: إلى أي مدى يمكن لإيران أن توسّع نفوذها؟
لسخرية القدر، كانت الخطوات الأولى لطهران نتيجة لتصرفات أمريكية، أطاحت القوات الأمريكية بطالبان من أفغانستان في عام 2001، وأزاحت صدام حسين من العراق في 2003، وهما العدوّان الاستراتيجيان لإيران من شرقها وغربها.
وبدأت إيران في تحركاتها في عام 2011، بمزيج من إسراع حلفائها نحوها وخصوصا روسيا، وانصراف أعداءها، ما أدى إلى موقفها الإقليمي الحالي.
مساعدتها في هزيمة داعش كان لحظة الفرحة العارمة للدولة الدينية. فطالما اتهمت إيران الولايات المتحدة بصناعة داعش بالمقام الأول، وبنت حجتها على تصريحات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية بأن الرئيس السابق باراك أوباما هو "مؤسس" المنظمة الإرهابية.
مع إعلان النصر على داعش في أواخر نوفمبر، وصف خامنئي الأمر بأنه انتصار "إلهي" لمحور المقاومة بقيادة إيران. بينما صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني في 23 أكتوبر بأنه "بدون إيران.. لم تكن هناك خطوة حاسمة ستتخذ في العراق أو سوريا وشمال إفريقيا والخليج الفارسي".
لا شك في أن التحالف بقيادة أمريكية وأكثر من 25 ألف ضربة جوية ساهمت بشكل كبير في سحق داعش وإجباره على الخروج من العراق وسوريا، بجانب وجود 3 آلاف مستشار عسكري أمريكي يساعدون في بناء الجيش العراقي. ولا شك أيضًأ في أن القوة الجوية الروسية كانت حاسمة في بقاء حليف إيران المحاصر، بشار الأسد.
لكن إيران وبشكل درامي أعادت تشكيل قواعد بناء القوة الإقليمية لصالحها من خلال مجموعة من الخطوات البرجماتية والخطيرة. تدور أغلبها حول صناعة مجموعة مسلحة بالوكالة وفي الأغلب شيعية من مقاتلين بعضهم من باكستان للقتال في معاركها على الأراضي الأجنبية.
يعطي ذلك طهران تفوقًا على منافسيها مثل السعودية، والتي فشلت في محاولاتها دفع تمدد النفوذ الإيراني. أطلق ولي العهد السعودي الشاب محمد بن سلمان على خامنئي "هتلر الجديد في الشرق الأوسط"، لكن المملكة كانت غير قادرة على إبطاء الصعود الإيراني.
وفي هجماتها المضادة الأخيرة، على سبيل المثال، صممت السعودية الاستقالة المباغتة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في نوفمبر الماضي، وهو السياسي السني الهام الذي يمثل حصنًا ضد قوة حزب الله الشيعي–وراعيته إيران- في الحكومة اللبنانية.
وقال الحريري في نص استقالته –الذي يُعتقد أن أيادٍ سعودية خطته- إن "إيران لا تحل في مكان إلا وتزرع فيه الفتن والدمار والخراب. يشهد على ذلك تدخلاتها في الشؤون الداخلية للبلدان العربية". وأضاف أن أذرع إيران سوف تُقطع.
ثم عاد الحريري بعد أسابيع إلى بيروت وتراجع في الاستقالة.
كما أن هناك مثال آخر في اليمن، حيث شنت السعودية حربًا منذ عامين ونصف العام بدعم عسكري أمريكي ضروري، لـ"ردع المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران". وإلى الآن، النتائج هي مقتل 10 آلاف شخص، وتحول مستشفيات ومناطق تاريخية إلى خراب، وتسبب الحصار السعودي في انتشار الأوبئة وبات اليمن الدولة الأفقر في العالم على حافة مجاعة.
ترى إسرائيل أيضًا أن تهديد القوات الموالية لإيران بدأ يزداد على حدودها. وبات حزب الله الذي صنعته إيران خلال غزو لبنان عام 1982، مثالًا تحتذي به القوات الجديدة التي تحارب بالوكالة لصالح إيران والتي أصبحت أكثر قدرة على القتال خلال الحرب الأهلية السورية.
ويقول فواز جرجس، باحث في شئون الشرق الأوسط في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية: "بالمصطلحات التاريخية، لم تكن إيران في مثل هذا الموقف القوي".
وتابع صاحب كتاب "داعش: تاريخ": إيران اتخذت قرارا مقصودًا بالاستثمار في الدماء والثروة، وخصوصا في سوريا، وكانت التوقعات ضد النفوذ الإيراني.
وأضاف جرجس: "الجميع وأنا بينهم، اعتقدنا أن إيران صنعت خيارات خاطئة، وأن إيران سوف تخسر.. وأنها كانت تسعى لإحياء نظام ميت. في الواقع، بمصطلحات النفوذ الجيواستراتيجي، كان استثمار إيران في سوريا –مليارات الدولارات ومئات القتلى- هو رأس الحربة الذي سمح بانتشار النفوذ الإيراني".
كان الثمن باهظًا سواء على إيران أو مرتزقتها. فأكثر من 500 شخص من الحرس الثوري لقوا مصرعهم خلال القتال في سوريا منذ عام 2012، بينهم قادة كبار، بحسب المحلل العسكري علي ألفونيه، المقيم في واشنطن. كما فقد حزب الله 1200 من مقاتليه، وقُتل 800 أفغاني.
تعرضت صورة إيران لهزة أيضًا. فهي تدعم النظام السوري المتهم بارتكاب جرائم حرب، بداية من استخدام أسلحة كيميائية إلى قصف الأهداف المدنية بالبراميل المتفجرة. وبشكل عام، أسفر الصراع عن مقتل حوالي 470 ألف شخص، ونزوح أكثر من نصف سكان سوريا البالغ عددهم قبل الحرب 22 مليون نسمة.
استخدام إيران لقوات تعمل بالوكالة يعود إلى عام 1982. آنذاك شكلت طهران المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وفصائل بدر المسلحة التي بلغ قوامها 10 آلاف مقاتل. قاتلت هذه المجموعة ضد صدام حسين خلال حربه مع إيران في الثمانينيات، وكانت شريكة في الانتفاضة الشيعية الفاشلة في العراق عام 1991.
ومع تغير الأنظمة تبدلت الأهداف. بداية من عام 2004، فقاتلت المليشيات الشيعية المدعومة من إيران ضد القوات الأمريكية في العراق. وتسببوا في خسائر ثقيلة في صفوف القوات الأمريكية، لكن تلاشى ذلك مع انسحاب القوات الأمريكية من العراق في عام 2011.
عادت المليشيات الشيعية العراقية إلى النشاط منتصف عام 2014 لمواجهة تنظيم داعش. وأصدر المرجع الشيعي علي السيستاني فتوى تطالب كل القادرين على حمل السلاح على مواجهة تنظيم داعش.
وتحركت إيران سريعًا في ذلك التوقيت، وبحسب محللين، توسعت شبكتها من المليشيات الشيعية الممولة جيدًا والتي يبلغ قوامها حاليًا 150 ألف مقاتل. وزودتهم طهران أيضًا بالسلاح والملابس العسكرية بعد تهريبه إلى العراق، ووصلت قيمة ما أنفقته إيران على ذلك في عام 2014 فقط حوالي 10 مليار دولار أمريكي.
عادة ما يتم النظر إلى هذه المليشيات على أنها أدوات للنفوذ الإيراني، على الرغم من أنهم يعملون تحت مظلة الحشد الشعبي التي أقر البرلمان العراقي في ديسمبر الماضي أنها ضمن القوات العراقية الأمنية. ومع حملهم لدوافع دينية مشابهة لإيران، عادة ما تحمل هذه المليشيات عند دخولها المعارك رايات تحمل صورة الأئمة الإيرانيين وقاداتها العسكريين.
وقال وزير الخارجية الأمريكية ريكس تيليرسون في أكتوبر، إنه مع اقتراب نهاية المعركة ضد داعش، "على المليشيات الإيرانية الموجودة في العراق أن تعود إلى وطنها". وحينها رد وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، قائلًا: "بالتحديد، إلى أي دولة يجب أن يذهب العراقيون الذين تربوا على الدفاع عن أرضهم ضد داعش".
وقال المحلل العسكري العراقي، هشام الهاشمي، من بغداد: "لا يوجد جزء واحد في العراق لا تتواجد فيه إيران. تجد إيران في كل التفاصيل".
تمتلئ المتاجر بالبضائع الإيرانية، وملايين الإيرانيين يشاركون في الحج السنوي إلى الأماكن المقدسة الشيعية في العراق. وعلى الرغم من منع البرلمان العراقي للمليشيات من المشاركة في الحياة السياسية، إلا أن 28 حزبًا سياسيًا يمتلكون مجموعات مسلحة سجلوا في انتخابات عام 2018.
وهناك إشارات إلى أن إيران ساعدت في التنسيق للإطاحة بوزير المالية العراقي هوشيار زيباري في الخريف الماضي، لأنه كان قريبا من الولايات المتحدة الأمريكية. وأشار الهاشمي إلى أن الإيرانيين متداخلون بشدة في الأمن العراقي، والسياسة والاقتصاد، وذلك بجانب نفوذها عبر أكثر من 58 قناة تلفزيونية ومحطات إذاعية وصحف.
وقال: "أرادت إيران أن تجعل العراق بهوية واحدة، شيعية فقط. من يدير العراق الآن؟ فقط الشيعة. هذا انتصار كبير."
لا يبدو النفوذ الإيراني أوضح في أي مكان بالعراق أكثر من مقرات المجموعات المؤيدة لإيران مثل حركة النجباء. ويظهر أن المجموعة المكونة من 10 آلاف مقاتل تدين بالولاء لخامنئي أو ولاية الفقيه في إيران، وذلك يختلف عن الولاء لإيران نفسها.
تمتلك حركة النجباء قناتها الفضائية الخاصة، ووسائلها الدعائية ومقاطع الفيديو الخاصة بها التي تنشر لقطات من عملياتها القتالية في سوريا حول مدينة حلب. وكان قائدها أكرم كعبي، قد حضر احتفالا به في طهران، وتعهد باستمرار القنال بعد داعش صد إسرائيل.
يقول الموسوي، المتحدث باسم النجباء: "لا ننتمي لإيران. لو اتبعت نظام ولاية الفقيه فهذا ليس جرمًا".
وقارن الأمر بوضع البابا فرانسيس، الأرجنتيني الجنسية. وقال: "هل من يتبعون البابا عملاء للأرجنتين؟" وتابع: "لو اتبعت البابا والفاتيكان، هل سيقول مواطنو دولتك إنك خائن؟"
كما نستمع إلى مثل هذه الآراء في مكاتب مجموعة مسلحة أخرى تسمى "سرايا الخراساني". تقاتل هذه الوحدة أيضًا ضد داعش في سوريا، بطلب من إيران. لكن أفرادها يعتبرون أنفسهم عراقيي الجنسية، بحسب ما ذكره خضير الإمارة، القيادي في حزب الطليعة الإسلامي.
ويقول الإمارة: "ليس من المفترض أن يتبع كل الأعضاء ولاية الفقيه، كلهم موحدين للدفاع عن العراق، وضحايا الظلم. يعتقدون أن الحرب في سوريا، هي نفس الحرب في العراق".
وتابع: "لو سألتني، ثورة الخميني وإيران نجحت في تصدير الثورة. حزب الله وأتباعه يؤمنون بهذه الثورة... يمكنك القول أننا (المجموعات المسلحة العراقية) نشبه حزب الله حاليًا – لكن نحن عراقيون".
لكن توجد حدود للنفوذ الإيراني في العراق. فرحب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بالدعم الإيراني لكنه اختار مسارًا قوميًا يحتضن التحالف بقيادة أمريكية أيضًا. وفي منتصف عام 2015، رفض العبادي عرضًا للعراق بأن تنضم لإيران في تحالف بقيادة روسيا يحمل اسم "التحالف 2".
يقول محلل عسكري عراقي عمل في السابق مع وزارة الدفاع العراقية: "إيران أنقذتنا. أرسلوا إلينا الفاتورة بعد ذلك، لكنهم أنقذونا. أرسلوا فاتورة بالأسلحة والطلقات والذخيرة التي زودونا بها خلال قتال داعش، والتي أثبتت للناس أن إيران لا تتطلع لمصالح شيعية. إيران تبحث عن المصالح الإيرانية."
كما أن المليشيات الشيعية حصدت أكثر مما تستحق فيما يخص الانتصارات. وتابع المحلل، أنه حينما زار الفلوجة على سبيل المثال في منتصف 2016، لم يجد أي إشارة للمليشيات. لكن بعد ذلك، يقول: "لم أر أحد غير الحشد، وملصقاتهم، وأعلامهم. هم جيدون في الدعاية، ربما تعتقد أنهم حرروا المكان".
لكن لم يكن دائمًا مرحبا بالأعلام. وبحسب المحلل العسكري: "نحتفظ في عقولنا بتاريخ ثماني سنوات من الحرب ضد إيران"، وأضاف أن العراقيين "لا ينسون".
تلعب الولايات المتحدة إلى الآن دورا بارزا في العراق. منحت واشنطن بغداد في عام 2016 فقط حوالي 5.3 مليار دولار كمساعدات، كما فقدت في العراق حوالي 4500 جندي. يلتقي السفير الأمريكي مع وزير الدفاع العراقي أسبوعيًا تقريبًا. كما أن الموقع الرسمي للعبادي مليء بصور لقاءاته مع كبار المسئولين الأمريكيين. والإيرانيون غائبون.
ويتابع المحلل العسكري حديثه: "لا يمكن إنكار القومية العراقية، وخصوصا بعدما ضحى الآلاف –مليشيات وجيش ووزارة داخلية- بأرواحهم لصالح الدولة. يقول الناس إن عليك النظر إلى ما تفعله إيران مع حزب الله، في سوريا. لكن لا، إيران تهتم بنفسها بالمقام الأول، وكذلك أمريكا. وعلينا فعل ذلك أيضًا".
فيديو قد يعجبك: