سياسة "المسار المزدوج" .. هل تحسم الخلاف بين واشنطن وبكين في بحر الصين الجنوبي؟
القاهرة - (أ ش أ)
من جديد طفت على سطح الأحداث السياسية أزمة بحر الصين الجنوبي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وتبادل الطرفان التهديدات واشتعل الموقف بشأن قضية السيادة على بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه بين الصين وجيرانها فى جنوب شرق آسيا، والتي تعتبر فى الأساس قضية صراع لفرض الهيمنة والنفوذ بين واشنطن وبكين على منطقة محورية بالنسبة للبلدين وهى منطقة آسيا - المحيط الهادي.
ومنذ عام 2014، دخلت الصين في مشاورات ومفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف بهدف تسوية النزاعات الإقليمية بطريقة مرنة وبراجماتية، تماشيا مع سياسة "المسار المزدوج" التي تنتهجها بكين في معالجة النزاعات الثنائية من قبل الدول المعنية مباشرة عبر التفاوض الودي، مع ضرورة حفاظ الصين ودول آسيا بشكل مشترك على السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي.
ولكن هذه السياسة الصينية "المسار المزدوج" تتعرض هذه المرة لاختبار صعب، بعد تصريحات بكين القوية في وجه واشنطن أثناء انعقاد قمة أمنية بسنغافورة، بأن الولايات المتحدة تدار بعقلية الحرب الباردة، وأن بكين ليست متحمسة لأداء دور فى فيلم من إخراج أمريكي، وشددت على أنها لا تخشى مواجهة المشاكل فى منطقة بحر الصين الجنوبي ولن تخضع للضغوط.
وجاءت تلك التصريحات ردا على تهديدات علنية ومباشرة أمريكية من قبل وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر بتحذير الصين من مواصلة أنشطتها التوسعية فى بحر الصين الجنوبي لأن انتهاج بكين لأي سلوك استفزازي سيتسبب فى رد من الولايات المتحدة.
وفى مزيد من التصعيد الأمريكي، حث وزير الخارجية الأمريكي جون كيرى بكين على عدم إقامة منطقة للدفاع الجوى فوق بحر الصين الجنوبي كما فعلت فوق بحر الصين الشرقي عام ٢٠١٣، واعتبر كيرى أن إقامة مثل هذه المنطقة سيكون عملا استفزازيا ومزعزعا للاستقرار وسيثير الشكوك بشأن تعهد بكين بحل النزاع دبلوماسيا.
هذا التصعيد الأمريكي يأتي في إطار سياسة إثارة الفوضى الخلاقة، فواشنطن لا تشاطئ الصين في البحر ولكنها تمارس ضغوطاً عليها من خلال تصريحاتها أنها تحمي الأمن الإقليمي لدول الآسيان، في نفس الوقت الذي تتخلى فيه عن أزمات الشرق الأوسط وتنتهج سياسة التشاركية أو تقاسم المسؤوليات في مواجهة مشاكل وأزمات المنطقة.
الأهمية الاستراتيجية للمنطقة
تضم منطقة بحر الصين الجنوبي، الفلبين وفيتنام ولاوس وكمبوديا وتايلاند وبروناي وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا، والخلاف بين هذه البلاد يتجلى في مسألة السيادة على بحر الصين الجنوبي والنزاع على جزره بالإضافة إلى مضيق "ملقة" وحرية الملاحة والصيد.
هذه المنطقة تعتبر امتدادا للمحيط الهندي الذي تقع على سواحله الشمالية بورما وبنجلادش والهند حتى تصل إلى باكستان التي هي أقرب لبحر العرب والذي هو امتداد للمحيط الهندي ومن ثم يأتي خليج عُمان ليصل إلى منطقة الخليج وإلى الجنوب تمتد إلى خليج عدن فباب المندب ليصل البحر الأحمر الذي يعبر منه إلى البحر المتوسط.
وهي جزء من منطقة آسيا - المحيط الهادئ التي تشمل منطقة بحر الصين الجنوبي، كما تشمل منطقة بحر الصين الشرقي والتي تضم اليابان والصين وتايوان والكوريتين الشمالية والجنوبية بالإضافة إلى سواحل المحيط الهندي الشمالية.
وتعتبر هذه المنطقة محل تنافس بين أمريكا والصين فتحاول الأولى تحجيم الثانية إقليميا ودوليا، وفيها ممرات دولية مهمة كممر "سوندا" الذي يصل جنوب شرق آسيا بأستراليا وممر "لومبوك" الذي يربط إندونيسيا بالمحيط الهندي، وممر "ملقة" الأكثر أهمية يربط المحيط الهادئ بالهندي ويمتد لمسافة 800 كم بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة الإندونيسية وتمر منه حوالي 40% من البضائع العالمية و50% من تجارة النفط والغاز العالمية، وهو مهم بالنسبة للصين والهند لعبور البضائع شرقا وغربا، فهذا المضيق ذو أهمية اقتصادية واستراتيجية.
فضلا عن الأهمية الاستراتيجية لبحر الصين الجنوبي، تحتل جزر"سبراتلي"، في هذا البحر مكانة جوهرية، وهي محور الخلاف بين الدول المطلة عليه، وخاصة الصين والفلبين وفيتنام وماليزيا، تضم هذه الجزر مصايد أسماك غنية، وكميات كبيرة من النفط والغاز، فحسب تقرير لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية في عام 2011، ربما يحتوي بحر الصين الجنوبي على نحو أحد عشر مليار برميل من النفط، ومائة وتسعين تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.
بيد أن الأهمية الاستراتيجية لجزر "سبراتلي" بالنسبة للصين أبعد كثيرا من تلك الثروات الطبيعية، فهذه الجزر تبعد عن جنوب شرقي مقاطعة هاينان الصينية 180 ميلا بحريا، وعدم سيادة الصين على تلك الجزر تعني أن مياهها الإقليمية تبدأ من ساحل هاينان الشرقي، في حين أن تأكيد سيادتها على "سبراتلي" يجعل مياهها الإقليمية تبدأ من "سبراتلي". فإذا كان النزاع حول مياه بحر الصين الجنوبي بالنسبة لدول آسيان يتعلق في المقام الأول بالمصالح الاقتصادية، فإنه بالنسبة للصين يرتبط باستراتيجية أمنها الوطني.
وسائل الضغط الأمريكي
ضمن الأساليب الأمريكية لممارسة النفوذ على القوى الأخرى، ادعاء حماية الأمن والسلم في العالم ومنه طبعاً حماية منطقة الآسيان من التهديدات الصينية رغم أن الصين عضو في هذه الرابطة، فأمريكا تعمل على تطويق الصين بواسطة الدول المحيطة بها وفي المحيط الهادئ وخاصة في بحري الصين الشرقي والجنوبي، فتبني أشكالا من التحالفات والتكتلات وتعزز العلاقات مع الدول هناك لهذا الغرض، وهي تغذي الخلافات والتوترات في وجه الصين، من خلال متابعة ملفات هذه الخلافات والنزاعات عن كثب والادعاء أنها تريد حماية الأمن فيها للحفاظ على مصالحها ونفوذها في المنطقة، وتدير مؤتمرات آسيان أي رابطة الدول الأسيوية الواقعة على بحر الصين الجنوبي.
وهي تغذي هذه الخلافات لتجعل هذه الدول بحاجة إليها، فتخيفها من تفوق الصين ومن تداعيات التوتر مع كوريا الشمالية، فتستفيد أمريكا من كل ذلك في مواجهة الصين وفي جعل هذه الدول ترتمي بأحضانها.
وقد بدأ ذلك منذ أكثر من عقد من الزمان، وبشكل جدي عندما رأت أمريكا أن سياسة الاحتواء للصين وصلت إلى النهاية أو لحد الإشباع، أي أنها لا تستطيع أن تحتوي الصين أكثر مما احتوتها، فقد تقربت إليها بإدخالها في منظمة التجارة العالمية، وازدادت العلاقات التجارية معها، ولم يعد الحوار الاستراتيجي الأمريكي مع الصين حساساً كما كان من قبل، ومع ذلك فلم تصبح الصين في فلك أمريكا، ولا حليفة لها حسب تلك السياسة.
ولذلك ستواصل أمريكا سياستها المتبعة حاليا ضد الصين وسوف تبحث عن أساليب جديدة لزيادة الضغط عليها واستفزازها لتجعلها في حالة توتر دائمي، وتبقيها في حالة توجس من اندلاع حرب فعلية لا تريدها، فتجعلها في حالة اللاحرب واللاسلم.
وإذا كانت تلك هي مرامي السياسية الأمريكية ضد الصين في بحر الصين الجنوبي، فإنه في حالة نشوب النزاعات، يؤكد خبراء القانون الدولي، أن الوسيلة المثلى لفض منازعات بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي تتمثل في الأمور التالية:
أولاً: إن مسألة احتلال اليابان لجزر المحيط الهادي في بحر الصين الشرقي أو بحر الصين الجنوبي قد حسمت بإعلان القاهرة 1943 بين أكبر قوتين في العالم، وهذا معناه أن جزر بحر الصين الجنوبي أو بحر الصين الشرقي هي أراض صينية، وانسحبت منها اليابان ومن ثم تعود لأصحابها وعلى الآخرين احترام ما تم الاتفاق عليه.
ثانياً: ضرورة احترام المياه الإقليمية والجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة وفقاً لقانون البحار والتخلي عن السعي والسيطرة.
ثالثاً: إن اللجوء للتحكيم الدولي كوسيلة لفض النزاعات يقتضي وفقاً لقواعد التحكيم الدولي الاتفاق بين الأطراف ولا يمكن لدولة أن تذهب بمفردها دون الطرف الآخر، وإلا فإنه يعتبر باطلاً والقاعدة القانونية تقول إنه "ما بني على باطل فهو باطل".
رابعاً: إنه هناك تسلسلية لوسائل فض المنازعات، وهي المفاوضة، فالمساعي الحميدة فالوساطة فالتوفيق، وبعده الانتقال للتحكيم أو القضاء، بالشروط التي أوضحتها نصوص النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، أو قواعد التحكيم الدولي.
خامساً: إن الصين وقعت في 20 يوليو 2002 مع "الآسيان" ميثاق شرف لتسوية المنازعات بالطرق السلمية في بحر الصين الجنوبي، ولكن فيتنام والفلبين رفضتا الانضمام له، وقام عدد من نواب البرلمان الفلبيني في يوليو 2011 أي بعد 9 سنوات بالسفر لجزيرة "تشونج يه داو" في بحر الصين الجنوبي، ورفعوا العلم الفلبيني على الجزيرة بدعوى سيادة الفلبين عليها وهو ما أثار الصين واعتبرته انتهاكاً لسيادتها وسلامة أراضيها مؤكدة حقوقها في بحر الصين الجنوبي والجزر الواقعة في محيطه.
سادساً: إن بحر الصين الجنوبي تمر به معظم التجارة الدولية لمنطقة شرق آسيا وفي مقدمتها الصين ومن ثم فإن التحريض واضح ضدها بما يتعارض مع الإعلان العالمي للعلاقات الودية والتعايش السلمي بين الدول الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1970، كما إنه يعد انتهاكاً لحرية الملاحة، وتهديداً لها بإثارة توتر أو نزاع في هذه المنطقة الحساسة من العالم، وعلى جميع الدول أن تحترم الاتفاقات والمواثيق الدولية.
ويبقى القول أن سياسة "المسار المزدوج" التي تنتهجها الصين ربما تكون قادرة على حسم الخلاف بين واشنطن وبكين في بحر الصين الجنوبي، بشرط الالتزام الأمريكي بقواعد القانون الدولي والمواثيق والأعراف الدولية ومقررات القانون الدولي للبحار.
هذا المحتوى من
فيديو قد يعجبك: