50 عامًا من الاحتلال... ميلاد حركة الاستيطان الإسرائيلية من رحم الحرب
تل أبيب - (د ب أ):
دانيل بار-تال كان ضابطًا شابًا في إحدى كتائب المدرعات الإسرائيلية عندما اشتعلت التوترات على نحو سريع مع الجارة المصرية عام 1967. "في نهاية مايو كانت هناك تعبئة ضخمة لجنود الاحتياط وكان من الواضح أنه لا مفر من الحرب"، هكذا يتذكر البروفيسور في علم النفس بار-تال 71 عاما.
في ذلك الحين اندلع النزاع المسلح الثالث بين إسرائيل والدول العربية المجاورة في الخامس من يونيو عام 1967، بعدما أغلقت مصر طرقا بحرية إسرائيلية ونقلت قواتا إلى شبه جزيرة سيناء. في هذه الضربة الاستباقية دمرت إسرائيل خلال فترة وجيزة أجزاء كبيرة من السلاح الجوي لمصر والأردن وسورية.
وخلال هذه العاصفة شاهد العالم في ذهول كيف احتلت القوات البرية الإسرائيلية الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والقدس الشرقية وهضبة الجولان. نحو ربع مليون شخص فروا من المناطق الفلسطينية، وبلغت حصيلة القتلى في التحالف العربي أكثر من 15 ألف شخص، مقابل نحو 700 قتيل من الإسرائيليين.
انتهت الحرب في العاشر من الشهر نفسه، لكن آثارها لا تزال ملموسة حتى يومنا هذا. جزء كبير من المناطق الفلسطينية يقع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 50 عاما. حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية مقيدة بالجدار العازل ونقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية. قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس محاصر منذ عشرة أعوام. المفاوضات الرامية نحو حل سلمي للنزاع الدموي تبوء بالفشل باستمرار.
شارك بار-تال عبر كتيبته في المعارك التي جرت على أرض شبه جزيرة سيناء وتذوق نشوة النصر مع كافة الإسرائيليين عقب ستة أيام من بدء المعارك. يقول بار-تال: "لقد فاق الفوز كافة التوقعات، ما كان لأحد أن يتخيل أن إسرائيل ستتمكن من احتلال كل هذه الأراضي في غضون ستة أيام... في ذلك الحين كان يسود شعور بأننا منعنا وقوع كارثة كبيرة وحققنا نصرا كبيرا".
هذا النصر كان لحظة ميلاد حركة الاستيطان الإسرائيلية التي يزداد تأثيرها على مصائر إسرائيل حتى اليوم. المستوطنة الأولى "كفر إتزيون" تأسست عام 1967 في الضفة الغربية على بعد نحو عشرة كيلومترات من بيت لحم. أقيمت هذه المستوطنة على أنقاض تجمع سكني يهودي دُمر خلال حرب الشرق الأوسط الأولى عام 1948 على يد الجيش الأردني.
ويعتبر الكثير من الإسرائيليين الاستيطان في الضفة الغربية، التي يطلق عليها الإسرائيليون أيضا اسم يهودا والسامرة، عودة إلى أرض الميعاد وبداية لحلم "إسرائيل الكبرى"، بينما يحذر متشككون من أن تصبح تلك المستوطنات نذير شوؤم على إسرائيل ويحثون على إبرام السلام سريعا مع الدول العربية وإعادة الأراضي المحتلة في المقابل.
يقول بار-تال إن مجموعة صغيرة من المثقفين حذرت في ذلك الحين من "كارثة" على المجتمع الإسرائيلي إذا ظل محتلا لشعب آخر على الدوام. ولم تمر فترة طويلة بعد الحرب حتى نما الشك أيضا بداخل بار-تال، ما دفعه بعد ذلك إلى تأسيس منظمة مناهضة للاحتلال.
الخسائر الفادحة التي تكبدتها إسرائيل في حرب السادس من أكتوبر عام 1973 (يوم كيبور) أثبطت نشوة نصرها في 1967. وخلال محادثات السلام مع مصر عام 1978، التي انتهت بإعادة شبه جزيرة سيناء، تأسست المنظمة الإسرائيلية (السلام الآن) التي تتبنى مبدأ "الأرض مقابل السلام" مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة.
يقول بار-تال إن قطاعا عريضا من الرأي العام لم يبدأ في استيعاب الاحتلال على أنه مشكلة إلا عقب انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وأضاف: "كان ذلك نقطة تحول، بل يمكن وصفه بزلزال سياسي".
وعقب اتصالات سرية طويلة اتفقت إسرائيل وسلطة التحرير الفلسطينية عام 1993 على اتفاقية سلام تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وفي عام 2005 انسحبت إسرائيل من قطاع غزة.
لكن المساعي الرامية إلى تسوية سليمة للنزاع لم تؤت بثمارها حتى الآن، بل على العكس. الأوضاع تبدو أكثر صعوبة من أي وقت مضى وعدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية ارتفع إلى نحو 600 ألف مستوطن. ومنذ أكتوبر عام 2015 وقعت هجمات فلسطينية متكررة، وسط تراجع في عدد من يعتقدون من الطرفين بأنه لا يزال من الممكن تحقيق فصل سلمي بين إسرائيل والفلسطينيين.
وتعتبر القدس من أكثر القضايا الشائكة في هذا النزاع. ففي عام 1967 احتفى الإسرائيليون باحتلالهم للقدس الشرقية كمعجزة، وصارت صورة لجنود مظلات إسرائيليين على حائط البراق (المبكى) رمزا للنصر. بعد 50 عاما على الحرب تحتفل إسرائيل بـ"توحيد" القدس التي تزعم أنها عاصمتها الأبدية، وهو ما لم يتم الاعتراف به دوليا مطلقا.
لكن ما تراه إسرائيل سببا للاحتفال يثير الحزن والغضب لدى الفلسطينيين. تقول الفلسطينية المسيحية نورا كورت متسائلة: "كيف يمكن الشعور بالوحدة إذا كان يتم النظر إلينا كغرباء وليس كمواطنين؟". كورت 54 عاما تدير في القدس الشرقية متحفا داخل مبنى تابع للكنيسة اليونانية-الأورثوذكسية.
تشكو كورت، التي فقدت عائلتها ممتلكاتها في القدس خلال حرب الشرق الأوسط الأولى عام 1948، من عدم تمتع الفلسطينيين بنفس الحقوق التي يتمتع بها اليهود في القدس. ومثل معظم الفلسطينيين في القدس الشرقية حصلت كورت على حق في الإقامة لكن بدون حمل الجنسية الإسرائيلية.
الفوارق بين الأحياء اليهودية والعربية في القدس شديدة البروز: في القدس الشرقية تزداد القمامة في الشوارع وتقل المساحات الترفيهية ويتسم نظام النقل بالحافلات بالرداءة. يقول الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين بمناسبة الاحتفال بمرور 50 عاما على الحرب: "بين غرب مدينة (القدس) وشرقها لا تزال هناك فجوة واسعة بين فروق لا تحتمل في معدلات الفقر والبنية التحتية نتاج إهمال طويل".
تتمنى كورت أن تعامل الحكومة الإسرائيلية الفلسطينيين بمساواة مع الإسرائيليين، وتقول: "سيغير ذلك كل شيء"، لكن بار-تال يرى أن المجال لإحداث تغييرات لا يزال ضيقا، حيث يقول: "لدينا جيلان نشآ الاثنان في واقع يخلو من خط حدودي"، مضيفا أن كلا الطرفين لم يتلق تربية حقيقية لتعزيز السلام، موضحا أن أطفال المدارس الإسرائيليين والفلسطينيين يحصل كل منهم على خريطة مختلفة خالية من الحدود، وقال: "كل طرف يدعي لنفسه كل شيء، كل طرف ملتصق بنظرته التاريخية".
يحذر بار-تال من عواقب الاستيطان، ويقول: "الاحتلال لا يضر فقط الفلسطينيين بطريقة وحشية، بل يضر أيضا بالمجتمع الإسرائيلي".
سياسة الحكومة الإسرائيلية لها تأثير مفسد على كافة المؤسسات في الدولة. أما عن فرص التوصل إلى تسوية سلمية تحت رعاية الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، قال بار-تال: "للأسف أنا فعلا لست متفائلا بذلك".
فيديو قد يعجبك: