لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

قصص مأساوية من الحرب والفقد.. كيف تحوّلت أرامل أفغانستان إلى ممتلكات؟

07:05 م الخميس 06 ديسمبر 2018

أرامل أفغانستان

كتبت- رنا أسامة:

مع حلول كل مساء في العاصمة الأفغانية، كابول، يشعر بنيامين ذو الـ3 أعوام بأنه صار لِزامًا على والده أن يعود إلى المنزل، لكنه لا يعلم أن والدته تُخفي عنه أن صار يتيمًا، وأنها باتت واحدة من أرامل أفغانستان الشابات اللائي يواجهن الحياة في بلد يصعب العيش فيه حتى للرجال.

تقول صحيفة نيويورك تايمز في تقرير مُطوّل عبر موقعها الالكتروني، إن والد بنيامين ويُدعى ساباون كاكار، لقي حتفه منذ عدة أشهر برفقة 8 صحفيين أفغان آخرين في أحد التفجيرات بكابول.

يبكي بنيامين ويهز والدته، ماشال السادات كاكار، ويسألها: "أين أبي؟ متى سيعود أبي إلى المنزل؟".

ولكن كيف يُمكن أن تُفسّر الموت لطفل لا يتعّدى عمره الـ3 أعوام؟ تقول الصحيفة إن السيدة ماشال، التي كانت تحمل طفلتها الرضيعة سارفارز الأصغر بين ذراعيها، تحاول أن تُشتّت انتباه بنيامين ببعض الألعاب في كل مرة يسأل عن والده.

غير أنه حينما يواصل البكاء، تنقله والدته إلى الشُرفة وتشير إلى ألمع نجم ساطعٍ في سماء كابول الملوثة، وتقول له: "والدك هناك".

تُشير النيويورك تايمز إلى أن الحرب في أفغانستان تودي بحياة عدد هائل من الشباب، تاركة وراءها جيلًا بأكمله من الأرامل والأبناء اليتامى الذين يدفعون ثمن الحرب من خلال هذا الفقد.

بعض الأطفال -مثل بنيامين- لن تكون في مخيّلتهم سوى ذكريات مبكرة عن آبائهم، وسيُشكِّل الموت حياتهم مع تلاشي الذكريات الحقيقية. أما الأطفال الرُضّع -كما سارفارز- فستكون لديهم ذكريات أقل عن آبائهم الذين وافتهم المنيّة قبل أن يروهم أو يعرفوهم.

كل ذلك العبء يقع على كاهل عشرات الآلاف من الأرامل اللائي خلّفتهن الحرب منذ اندلاعها عام 2001، شأنهُن في ذلك شأن السيدة ماشال، التي وجدت نفسها تُعيل أسرة بأكملها داخل بلد يعاني قلة الفرص الاقتصادية وتفتك به حرب تُسقِط كل يوم 50 قتيلًا من أبنائه.

1

الأسوأ من ذلك، كما تقول الصحيفة، أن الأرامل الأفغانيات تُدركن بطريقة مؤلمة أن مجتمعهن يعتبرهن "ممتلكات"؛ إذ يجب على المرأة بمجرد أن تُصبح أرملة أن تعتمد كليًا في كثير من الأحيان على عائلة زوجها الفقيد، والتي قد تُطالبها بالزواج من أخيه أو أحد أقربائه.

وعادةً، لا يؤخذ رأي هؤلاء الأرامل في مصيرهن، مع أن بعضهن يحاولن المقاومة، وفق النيويورك تايمز.

على مدى عدة أشهُر من العام الجاري، ومع دخول الحرب الأفغانية الطويلة في مرحلة أشد فتكًا، تابعت الصحيفة قصص العديد من الشابات اللائي يعيشن مُعاناة بعدما أصبحن من أرامل أفغانستان.

تقول الصحيفة إنه بين عشيّة وضحاها، تحوَّلت حياة هؤلاء الأرامل إلى معاناة حرمتهن حتى من فرصة الحزن. فبالنسبة لبعضهن، وبينهن السيدة كاكار، كانت أحزانهن تتخللها آلام الولادة التي أنجبن فيها أطفالًا إلى عالم أنهكه اليأس. وأصبحت ذكرى أحبائهن المفقودين هي ملاذهن في عالمهن الجديد المضطرب.

وعندما وضعت ابنتها، سمّتها العائلة شمسية، نسبة إلى والدها الذي لن تلتقيه أبدًا.

وقالت رحيلة "لقد فقدت حبيبي وصديقي ووالد ابنتيّ. الجميع يقولون لنا كونوا أقوياء، لكن لا أحد يقول لنا كيف نفعل ذلك"، بحسب الصحيفة.

وأضافت "أشعر أن كل شيء انتهى، لكنني أحاول أن أبقى صامد لأنني وعدته أن اعتني بطفلتينا".

2

"الحب والفقد"

تُشير الصحيفة إلى أن كل أرملة من الأرامل التي روت قصتها قالت إنها وجدت الحب في الزواج، حتى لو استغرق ذلك بعض الوقت، لا سيّما في ثقافة يظل يظل فيها الزواج التقليدي هو القاعدة الأساسية المُتعارف عليها.

تروي رحيلة أنها كانت طالبة في الصف التاسع بمنطقة ماليستان، جنوب غرب كابول، وحينئذٍ رآها شمس، أحد أقربائها البعيدين، في حفل زفاف وأرسل أسرته لطلب يدها. كان عمرها وقتذاك نصف عمره، كما قالت، لكنها وجدته وسيمًا ومستقبله المِهني جيد في الوظائف الحكومية.

تتذكّر رحيلة تفاصيل زفافها: "لم يكن هناك أي صالونٍ للتجميل في قريتنا. كان حفل الزفاف بسيطًا جميلًا، أعتقد أن عدد الحضور بلغ ألف شخص".

وانتقل الزوجان بعد ذلك إلى كابول، حيث التحقت رحيلة بإحدى مدارس التمريض، بينما أصبح شمس مديرًا لأحد الأحياء في ولاية غزني وكان يبتعد عن المنزل فترات طويلة.

رُزِقا بطفلتهما الأولى صوفيا بعد 4 أعوام من الزواج، الذي سُرعان ما تحوَّل إلى علاقة مُفعمة بالحب. لكنَّ لا يُمكن لرحيلة الآن أن تمنع إحساسها بأن "لحظات السعادة التي عاشتها لم تكن سِوى تحضير لها لمصيرها الحتمي في العيش بمفردها

3

في المقابل فإن ساباون وماشال كاكار، فكان زواجهما قائمًا على الحب منذ البداية؛ إذ التقى الاثنان خلال أحد الفصول المسائية في مادة القانون: كانت ماشال تعمل لصالح منظمة مساعدات، وساباون كان صحفيًا إذاعيًا، وكلاهما كانا من المهنيين الشباب الذين يعملون في وظائف نهارية.

كان ساباون- وقتذاك- قد انتقل إلى كابول قادمًا من ولاية هلمند الأفغانية، وهي ساحة قتال ما زالت أسرته تعيش فيها. ازدهرت علاقته بماشال على مدى عام قضياه في الدردشة عبر الهاتف والتسلل خارج مكاتبهما ليلتقيا سرًا ويتناولان الغداء سويًا.

بعدما إعلان خُطبتهما، جمعا مدخراتهما -وكانت مدّخراتها أكثر من مدّخراته- لشراء شقة. وقاما بتزيينها قطعة قطعة قبل زواجهما.

وقالت ماشال: "دعونا 300 شخص فقط لحضور حفل الزفاف. كان ذلك العدد كافيًا لكلينا. لقد كان رجلًا صالحًا وأحبني كثيرًا، وأنا أيضًا أحبه وسأظل أحبه إلى الأبد".

وقد أضفى ابنهما بنيامين مزيدًا من البهجة إلى الحياة السعيدة التي كانا يبنيانها معًا، وفق الصحيفة.

كانت ماشال في مكتبها في صباح يوم 30 أبريل الماضي، عندما تلقت رسالةً تُخطرها بوقوع انفجار في حي شاسداراك، حيث يقع مكتب زوجها.

وقالت ماشال: "عندما اتصلت به، ردّ عبر الهاتف وقال لي: ماشال جان، أنا احتضر. لم أعرف ببِم أرد عليه، فقُلت له: اصمد، أنا قادِمة إليك".

4

وصلت ماشال، التي كانت آنذاك حبلى في شهرها الثامن، إلى المستشفى وبحثت عن زوجها في كل غرفة، حتى عثرت عليه في الطابق الثاني.

أخبرها ساباون بأن الانفجار أحدث ثقبًا في ظهره وأنه رُبما لا ينجو، لكنها كانت على قناعة بأنه سيعيش بينما كان في طريقه لإجراء عملية جراحية.

كانت مُنهكة فغلبها النُعاس وهي تنتظره بالخارج بينما كانت تُخطط لجميع الأطعمة المغذية التي ستطهوها له من أجل مساعدته على التعافي بعد العملية. بيد أنها استيقظت على خبر وفاته، ووقتئذٍ، "أظلم كل شيء حولها كما سواد الليل"- على حد قولها.

أما بالنسبة لعائلة شمس، فقد قضت مأساة موته على الفرحة بعودته المتوقعة. في الليلة التي سبقت مقتله في الربيع الماضي، اتصل بزوجته وابنتهما صوفيا، ووعدهما بأنه سيعود إلى المنزل بعد يوم أو يومين. حينها لم تستطع الطفلة صوفيا احتواء انفعالها، وظلت تقفز من الفرحة، صائحة: "أبي قادم! أبي قادم!".

غير أن بعض مقاتلي طالبان اقتحموا مكتبه في اليوم التالي وأطلقوا عليه النار ، وقال شمس لموظفيه -آنذاك- إنهَّم يجب أن يفروا إذا استطاعوا، لكن لم يغادر أحد. وقُتلوا جميعًا.

نُقِلَت جثته إلى كابول. وقالت رحيلة: "لقد سمحوا لي برؤية وجهه فقط، كان مثل صورة داخل إطار"، بحسب الصحيفة.

5

"النضال من أجل الأمل"

خلال الأشهر التي تلت مقتل أزواجهن، لم تكن الأرامل الشابات الأفغانيات يعانين الحزن ويحملن عبء حيرة أطفالهن فحسب، بل كُنّ يخشين في الوقت نفسه مصيرهن الحتمي: تزويجهن من آخرين بداخل أسر أزواجهن الراحلين.

اتصل بعض أفراد أسرة زوج ماشال بها وطلبوا منها الذهاب إليهم في ولاية هلمند من أجل أخذ استراحة، على حد قولهم. لكنها رفضت طلبهم بأدب، وقالت إنهم بعدها "أصبحوا أشد فظاظة وقالوا لها إنه ليس من الجيد لشابة وطفليها أن يعيشوا في كابول بمفردهم".

لكن ماشال ردّ عليهم: "إنني امرأة متعلمة وأستطيع تدبّر شؤون حياتي بمفردي"، تقول للنيويورك تايمز.

عادت ماشال إلى العمل، لكنها كانت تُفكِّر طوال الوقت في الهجرة ومغادرة البلاد، تلك الرغبة التي عزّزتها المُضايقات اليومية التي كانت تتعرّض لها فقط لأنها امرأة شابة وحيدة.

علاوة على ذلك، بدأت تتلقى رسائل غير مرغوب فيها من قِبل بعض الأصدقاء والزملاء الذكور. وشعرت وكأنها "فريسة" لاسيّما عندما كانت تذهب إلى المكاتب الحكومية وحدها من أجل استخراج بعض الوثائق.

ومع ذلك، لم تطلب المساعدة من أصدقائها الذكور أو أحد أفراد أسرتها كي لا تنهار صورة المرأة القوية التي كانت تتظاهر بها، وفق الصحيفة.

6

بمرور الأشهر، توقف الطفل بنيامين عن السؤال عن موعد عودة والده إلى المنزل. لكنه ما زال يبكي وقت الغسق. تقول والدته ماشال: "بعد فُقدان ساباون، كنت فاقدة الشعور، لكن قلبي كان يحترق".

وتضيف "كنت أسأل نساء أخريات فقدن أزواجهن عما إذا كان الألم يهدأ مع الوقت، وكّنّ يُجبن: لا، لا يهدأ".

أما بالنسبة لبعض أرامل أفغاستان الأُخريات، فتبدو آفاق المستقبل قاتمة؛ إذ تُعد خياراتهن وقدراتهن على تحديد مصيرهن أقل بكثير.

فها هي رحيلة، لا تملك وظيفة ولا تزال تحاول إكمال تعليم، ومصيرها بيد عائلة زوجها الذي كان يتقاضى قبل مقتله نحو 900 دولار شهريًا. ويحق لأسرته الحصول على بعض الأموال بعد وفاته.

لكن رحيلة لا تعرف قيمة المبلغ المُستحق، لأنَّ شقيق زوجها الأكبر هو الذي يجمع تلك الأموال. قالت إنها تشعر بالحرج من سؤاله عن المبلغ لأنها تعيش برفقة بنتيها في منزله الآن.

وتشعر رحيلة بأن أسرة زوجها تُخطط لتزويجها من شقيقه الأصغر، مع أن هذا الأمر لم يُناقش علانية. تقول إن "تدخُّل شقيق زوجها في حياتها زاد عن حدّه، وأصبح أكثر سيطرة عليها".

7

قبل بضعة أيام من إنجاب شمسية، قالت رحيلة: "أخشى أن أتزوج مُجددًا".

وكانت رحيلة وزوجها قد عرفا أن طفلهما الثاني سيكون فتاة أيضًا، لكنَّها ظلت تتمنى أن يكون الطفل، بأي شكل من الأشكال، صبيًا كي يعتني بها وبصوفيا.

"إذ كان المولود ذكرًا، يمكنه أن ينقذ حياتي"، هكذا قالت رحيلة لطبيبة النساء والتوليد التي كانت تتابع حالتها في إحدى الزيارات.

وحاولت الطبيبة مواساتها بإخبارها بقصة ابن عمها الذي قُتِل غرب البلاد قبل بضعة أشهر، فأخبرتها: "أنتِ لستِ وحدك. هناك العديد من النساء مثلك في أفغانستان".

بعد ساعات من ولادة طفلتها، انهارت رحيلة وقالت: "كنت أشعر بالألم، لكن الشعور بالوحدة كان أشد بكثير. لقد بكيت كثيرا، بكيت لأنني امرأة وأرملة في الثانية والعشرين من عمرها وأم لطفلتين. فكرت في المستقبل، وفي شمس، وفي الوحدة".

وأضافت "أعتقد أن الشعور بالوحدة هو أشد ألم في العالم. إنه ألم يعرفه آلاف من أرامل أفغانستان".

وبالنسبة لصوفيا، طفلتها الأولى، فكانت ولادة شقيقتها بمثابة إلهاء جيد عن موت والدها. لكنَّ صوفيا ظلَّت تعاني؛ ففي كل مرةٍ كان الهاتف يرن فيها، كانت تعتقد أن والدها هو المُتصل، فكانت تبكي وتقول إنها تريد التحدث إليه.

لكن مؤخرًا يبدو أن صوفيا فقدت الأمل في رجوع والدها وتوقّفت عن السؤال عنه. أصبحت تكره الهاتف، وبدأت في الإشارة إلى عمها على أنه والدها، وفق الصحيفة.

بيد أن الأشياء التي ستُذكّرها بشمس ستظل موجودة دائمًا، في الصور المًعلّقة على الجدران، وزيارات قبره، وإمساك يد والدتها. بل وفي شيء له طابع أكثر شخصي، وهو يوم 12 أبريل الذي شهد عيد ميلادها الثالث وتزامن مع مقتل والدها.

تقول الصحيفة إن رحيلة شعرت مؤخرًا ببصيص من الأمل؛ إذ أخبرها أحد أقربائها أن بإمكانه مساعدتها في العمل موظّفة ضمن فرق التطعيم، وهي خطوة صغيرة نحو كسر أغلال اعتمادها على أسرة زوجها، وتشكيل مستقبلها.

لكن بعد ذلك بأيام، قُتل قريبها في تفجير انتحاري خارج مظاهرة في كابول.

وقالت رحيلة: "لا أريد سوى مغادرة هذا البلد والذهاب إلى مكان هادئ، مكانٍ لا يُقتَل فيه أحد ولا يفقد فيه أحد حياته".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان