كيف فشل الموساد في اغتيال العلماء الألمان بمصر؟ (الحلقة الثانية)
كتبت- سارة عرفة وهدى الشيمي:
في الحلقة الثانية من مشروع اغتيال العلماء الألمان على يد المخابرات الإسرائيلية، يكشف التقرير الذي أعدته مجلة نيوزويك الأمريكية الفشل الكبير الذي لحق بجهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) في التخلص من العلماء الألمان بمصر، ودول أخرى بسبب يقظة ضباط المخابرات العامة المصرية.
ويأتي ذلك الفشل بعد أن نجحوا في اختطاف وقتل العالم هاينز كروج، (الذي تحدثنا عنه في الحلقة الأولى)، وهو أحد العلماء الذين كانوا يعملون على تطوير البرنامج الصاروخي في ستينات القرن الماضي.
لقراءة الحلقة الأولى (اضغط هنا)
وقالت مجلة نيوزويك الأمريكية، في تقرير مُطول نشرته على موقعها الإلكتروني، إن مهمة الاغتيال كانت تحت إشراف الوحدة 188 التابعة لجهاز (الموساد)، وإنه بدأ في إسرائيل حينها ما يُشبه بمسابقة لقتل المزيد من العلماء الألمان.
الوحدة 188، هي وحدة تختص بتخطيط وتنفيذ عمليات الاغتيال مرتفعة المستوى، وتتكون من بضع عشرات من الرجال والنساء، الذين يخضعون لتدريب صارم في مجموعة واسعة من المجالات، بدءًا من تكتيكات الاستخبارات القياسية والقتال اليدوي، مرورًا بالتدرب على استعمال الأسلحة والمتفجرات وإخفائها، وإعداد واستخدام السموم والكيماويات والحقن القاتلة.
"الرسائل المفخخة"
وبحسب المجلة؛ فإن عميل الموساد ولفجانج لوتز، الذي تم تكليفه بالمهمة، لم يتمكن من التخلص من هؤلاء الألمان، خوفًا من أن يُكشف أمره. وهنا وجد يوسف ياريف، رئيس الوحدة 188، أن أفضل طريقة للتخلص من العلماء ستكون عن طريق استخدام قنابل الرسائل والطرود.
وأمر ياريف ناتان روتبيرج، خبير المتفجرات في الوحدة 188، ببدء العمل على القنابل، وتقول المجلة: إن روتبيرج كان يعمل على نوع جديد من المتفجرات، مرن وخفيف، مطور للاستخدام لأغراض مدنية.
وقال خبير المتفجرات بالوحدة 188: "كان علينا تطوير نظام يجعل الرسالة غير مفعلة، وليست مختلفة عن باقي الرسائل عندما تُختلط بهم في مكاتب البريد، على أن ينفجر الظرف فورًا عند فتحه".
أول المستهدفين بـ"قنابل البريد"
وكان ألويس برونر، العسكري النمساوي النازي الذي عمل نائبًا لأدولف أيخمان، وعمل قائد لمعسكر اعتقال اليهود في فرنسا، أول المستهدفين بالقنابل الجديدة.
وبرونر كان يعيش في العاصمة السورية دمشق، تحت اسم مستعار، وساعد على تدريب المحققين في وحدات الاستخبارات السورية على إجراء التحقيقات واستخلاص المعلومات بطرق متعددة.
وبعد موافقة بن غوريون على التخلص من برونر، قرر ياريف استخدام قنابل روتبيرج، وقال: "أرسلنا له هدية صغيرة". وفي 13 سبتمبر 1962 تسلم برونر طرد كبير في دمشق، انفجر فور فتحه، وعانى من حروق في الوجه وفقد عينه اليسرى، ولكنه بقى على قيد الحياة.
الوصول للعلماء الألمان بالقاهرة "غاية الصعوبة"
ورغم فشل العملية، استأنفت (الوحدة 188) عملها، واتبعت نفس الطريقة للتخلص من العلماء الألمان، إلا أن الموساد اكتشف أن الوصول إلى العلماء الألمان في مصر أمرًا في غاية التعقيد.
وعلم جهاز الموساد أن العالم الألماني بيلز ينفصل عن زوجته التي تعيش في برلين، فجعلوا الرسالة تبدو وكأنها مُرسلة من المحامي المسؤول عن إجراءات الطلاق، حتى لا يفتحها أي شخص غيره، إلا أن المحاولة فشلت هي الأخرى بسبب التشديدات والإجراءات الأمنية والوقائية التي تفرضها المخابرات المصرية.
كيف أحبطت المخابرات المصرية عمليات الوحدة 188 ؟
تقول المجلة الأمريكية في تقريرها: "مصر تنبهت لما يجري واستخدمت بذكاء أجهزة إشعاعية للكشف عن الرسائل المماثلة، ثم سلمتها إلى خبراء نزع المفرقات في القاهرة، وأفشلت عمليات الموساد".
وبحسب نيوزويك، فإن الانفجارات لم تدفع العلماء الألمان إلى التخلي عن وظائفهم في مصر، لأن القاهرة وفرت لهم أكثر درجات الأمان والحماية.
المهمة القادمة "هانز كلاينواشتير": هذا هو الهدف اقتله
وكان الهدف القادم على قائمة هارئيل، هانز كلاينواشتير والمختبر الذي يعمل به في بلدة لورش، غرب ألمانيا، والذي وُظف لتطوير نظام توجيه الصواريخ المصري، فأرسل هارئيل جواسيسه التابعين لوحدة "بيردس" التي كانت تتعاون مع الوحدة 188، إلى أوروبا لاختطافه وقتله إذا تطلب الأمر.
ويقول إيتان، رئيس وحدة بيردس، بحسب الصحيفة، إن العملية كانت في منتصف الشتاء، وكانت الثلوج تتساقط بغزارة، والبرد بإمكانه التسلل إلى داخل الجسم. مشيرًا إلى أن "إيسار (هارئيل) كان غاضبًا لأنه يجلس في أحد المنازل في فرنسا، وأراني بعض الصور وقال لي هذا هو الهدف اقتله".
ويتذكر إيتان أنه أخبر هارئيل أن الظروف غير مناسبة لتنفيذ عملية القتل، وطلب منه الانتظار بعض الوقت لإعداد فخ مناسب، إلا أن هارئيل رفض الاستماع إليه.
وفي 21 يناير 1963، طرد هارئيل وحدة بيردس، واستدعى وحدة ميفراتز، وهي وحدة الموساد للقتل التي يقودها إسحاق شامير، الذي تولى رئاسة الوزراء في وقت لاحق، من أجل التخلص من كلاينواتشتير.
وتوضح المجلة أن هارئيل لم يعرف أن فالنتين، الضابط السابق في وحدات الحماية الألمانية ويقدم الاستشارات لمصر، اكتشف الأمر بأكمله، وعلم أن كلاينواتشتير سيكون هدف الموساد المُقبل، فقدم له العديد من المعلومات، وتأكدت من أن هناك أشخاص يرافقوه، ومنحه مسدسًا مصريًا.
وفي 20 فبراير من العام ذاته، تمكن الموساد من رؤية كلاينواتشتير وهو يسير بمفرده على الطريق من لوريش إلى بازل، سويسرا، وقرروا تنفيذ العملية عند عودته.
وأوكل هارئيل هذه المهمة إلى أحد أهم العملاء، وهو زفي أهروني، الذي يستطيع تحدث الألمانية بطلاقة، مكث أهاروني وفريقه منتظرين عودة كلاينواتشتير في المساء، ولكنه لم يظهر، فألغى العملاء المهمة، ولكنه جاء بعد دقائق، فتراجعوا عن إلغاء العملية، واستأنفوا عملهم.
وخرج أهروني من سيارته، وتوجه إلى سيارة كلاينواشتير وتظاهر بأنه يسأل عن الاتجاهات، وكانت الفكرة في جعله يفتح النافذة، وبدأ يفعل ذلك، ثم اقترب أكيفا كوهين، قاتل مُدّرب، من أهروني من الخلف، ووجه فهوة مسدسه إليه وحاول استهدافه من خلال النافذة المفتوحة ثم إطلاق النار.
وأصابت الرصاص الزجاج وحطمته، ثم ارتبطت بأجزاء من وشاح كلاينواشتير، ولكنها لم تصب جسده. ولسبب غير معلوم لم يُطلق النار مرة أخرى، ولكن أهروني اكتشف أن الخطة فشلت، وصرخ في الجميع حتى يهربون.
ولكن الطريقة التي وقفت بها السيارتان في شارع ضيق منعت عناصر الموساد من الهروب، لذلك كل منهم جرى في طريق مختلف، فحمل كلاينواشتير مسدسه المصري وأطلق النار عليهم، ولكنه لم يُصيب أي منهم، ومع ذلك ضاعت فرصتهم في تنفيذ العملية.
(الموساد) يفشل في مصر ويلجأ للكذب
تقول المجلة؛ بعدها أطلق هارئيل عددًا من العمليات التي تهدف إلى تخويف العلماء وعائلاتهم، وتضمن ذلك بعث رسائل تهديد مجهولة المصدرة في منتصف الليل، إلا أن هذه العملية فشلت عندما ألقت الشرطة السويسرية القبض على عميل في الموساد يُدعى جوزيف بن جال، بعد تهديده لهايدي، ابنة باول جورك.
وبحلول ربيع عام 1963، لم يستطع الموساد في إبطاء تقدم المصريين، وفشل فشلا كبيرا، لذلك بدأ هارئيل في تسريب قصص ومعلومات للصحافة كاذبة عن أن الألمان كانوا يساعدون مصر في إنتاج قنابل ذرية وأشعة ليزر قاتلة، وأن العلماء النازيين يصنعون الأسلحة للعرب لكي يقتلوا بها اليهود.
فشل و"معاناة من الفوضى"
وهاجم بعض الساسة الإسرائيليين على رأسهم مناحم بيجين رئيس الوزراء لعدم قيامه بأي شيء للتصدي للتهديد الذي يشكله العلماء الألمان على بلادهم، ما دفع بن غوريون لاستدعاء هارئيل إلى مكتبه، في مارس 1963، وبعد أن وبخه بشدة، قدم رئيس الموساد استقالته، وتم استبداله بمائير عاميت.
وتقول نيوزويك، إن عاميت تولى رئاسة الموساد وهو يعاني من فوضى كبيرة، وخلال الأشهر التسعة التي تلت إعلان مصر عن تجاربها الصاروخية، كان الإسرائيليون قد فشلوا في الحصول على معلومات عن البرنامج.
وأعد عاميت مشروعًا سريًا جديدا يخطط لاستهداف العلماء، وكان عملاء الموساد يحاولون العثور على طرق لإرسال طرود مفخخة من داخل مصر إلى منازل العلماء، وكان مصيره الفشل أيضا.
كما فشل الموساد في عملية تجنيد أي شخص من داخل مشروع تطوير الصواريخ المصري، بحسب تقرير النيوزويك.
فيديو قد يعجبك: