معايشة من داخل سوريا.. كيف أثرت الحرب على ضفتي الفرات؟
كتب - هشام عبد الخالق:
على الضفة الشرقية لنهر الفرات، يتمركز المقاتلون الأكراد بدعم من القوات الأمريكية، مركزين أعينهم على أعدائهم على الضفة الأخرى، حيث يطلق "المتمردون" في سوريا - بدعم من تركيا - النيران على أي شخص تخول له نفسه الاقتراب من النهر.
لآلاف السنين، كان نهر الفرات يمد المزارعين في قرية "زور مغار" - التابعة لمدينة كوباني على حدود شمال كردستان - بالمياه لري حقول القمح والباذنجان وعباد الشمس، وأحضرت آلاف الأسر أطفالها للنزهات، وكان الأطفال الأكبر سنًا يعلمون الصغار السباحة. لكن بعد سبع سنوات من الحرب المضنية في سوريا، أصبح النهر الذي أطعم الكثيرون في شرق سوريا، جبهة عدائية تفصل بين الأطراف المتحاربة في المنطقة الممتدة من شمال إلى جنوب النهر. وقد أجبرت هذه الجبهة آلاف الأسر بـ "زور مغار" على ترك منازلهم المشيدة من الطوب اللبن فارغة وسط حقولهم عطشة أمامها منبع بات يفيض دمًا.
صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أجرت جولة على طول النهر، وثقها الصحفي "بن هوبارد"، تحدث أثناءها مع عدد من المزارعين، إذ قال محمد بوزان، البالغ من العمر 35 عامًا: "كان النهر يمثل كل شيء بالنسبة لنا، كنا نعيش عليه، والآن لا نستطيع"، ولا يستطيع بوزان ريّ أرضه الزراعية الآن بعد أن تقطعت به السُبل.
ويقول الكاتب: "اقتنصت الحرب السورية مئات آلاف الأرواح وشردت ملايين، وتركت مدنًا كاملة يغطيها الخراب، ولم تكتفِ بهذا بل ورطت نهر الفرات في تلك الحرب، وهو ما يعتبره الكثيرون جزءًا من الهلال الخصيب ومهدًا للحضارة، وفي رحلتنا إلى هناك شاهدنًا مدنًا يكسوها الخراب، ومدنيين يحاولون المرور خلالها".
ويضيف الكاتب، كنا نقيم - أثناء رحلتنا - في الغالب على الضفة الشرقية للنهر، في منطقة خارج دمشق لا تعترف بها الدولة السورية ويحاصرها الأعداء، وكانت الطريقة الوحيدة للعبور من خلال نهر دجلة في العراق، بواسطة قوارب مهترئة دون مقعد.
وفي الوقت الذي ركزت حكومة الرئيس بشار الأسد قوتها العسكرية على هزيمة المتمردين في الشمال والجنوب، أصبح النهر كنقطة تصادم للقوى العظمى وحلفائهم المحليين الذين يناضلون من أجل مد نفوذهم في الشرق.
على الضفة الشرقية، حسب الصحيفة، تعيش الميليشيات الكردية التي تدعمها الولايات المتحدة، وعلى الضفة الغربية، على طول الجزء الشمالي من النهر، يعيش المتمردون الذين تدعمهم تركيا، وإذا ما اتجهت جنوبًا أكثر ستجد الوقات السورية المدعومة من قبل روسيا وإيران، ولا يزال تنظيم داعش يسيطر على جيب صغير على طول النهر بالقرب من الحدود العراقية.
إلى الآن، لا يريد أحد أن يهجم على المنطقة، لأن هذا سيتحتم عليه مواجهة الولايات المتحدة، التي تمتلك ما يقرب من ألفي جندي على الضفة الشرقية للنهر، وتحوم طائراتها في السماء طوال الوقت.
وتشير معظم التقارير إلى أن العالم أجمع قَبل فكرة أن بشار الأسد سيستمر في حكم سوريا، ولكن المواجهات والمباني المحطمة على طول نهر الفرات تجعل الجميع يتسائل إذا ما كان باستطاعته إعادة الدولة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ولكن السؤال الأكثر حتمية هو إلى متى ستبقى الولايات المتحدة، فالرئيس دونالد ترامب صرح من قبل أنه يريد جلب القوات العسكرية إلى أمريكا، وإذا ما فعل هذا فأن حلفاء الولايات المتحدة يخشون مصيرهم بعد ذلك.
ويقول محمد خير شيخو، عضو المجلس المحلي في مدينة منبج السورية: "إن مجرد وجود التحالف في المنطقة يعطي رسالة للنظام وللأتراك بألا يتدخلوا، وأن هذا هو المكان الذي يجب أن تتوقف فيه، وانسحاب قوات التحالف، وعلى رأسهم القوات الأمريكية، من شأنه أن يسبب فوضى كاملة في المنطقة".
مكان لم يسمع به الأمريكيون من قبل
تغادر ثلاث عربات مصفحة أمريكية بساتين الزيتون شرق مدينة منبج، متجهة إلى الخطوط الأمامية، رافعة علم أمريكي فوق كل منها في دلالة واضحة على من يقود تلك العربات، ويوجد بكل منها جندي مسؤول عن المدفع فوق العربة، في الوقت الذي تطير فيه الطائرات بدون طيار أو الهليكوبتر العسكرية مرافقة لسرب العربات، بحسب وصف الكاتب.
وكانت الوظيفة الأساسية للأمريكيين عندما جاءوا إلى سوريا في 2014، هي محاربة تنظيم داعش، ولكن يبعد أقرب معقل للتنظيم الإرهابي 200 ميل )321 كيلو متر تقريبًا)، وتتحرك القافلة العسكرية الأمريكية عدة مرات في اليوم لحماية مدينة منبج، التي أصبحت بلا موارد والتي لم يسمع عنها الأمريكيون من قبل، من إحدى الدول الحليفة بحلف الناتو وهي تركيا.
الوجود الأمريكي في منبج، مؤشر واضح على أن الولايات المتحدة جاءت إلى سوريا بهدف واحد، ولكنها أصبح في خططها أهدافًا أخرى، مما يعقد أي عملية محتملة للانسحاب من سوريا، وفي الوقت الذي عملت فيه مع القوات الكردية على إعادة الأراضي التي سيطر عليها تنظيم داعش، وسعت من انتشارها في شرق سوريا، وأصبحت المنطقة التي تبلغ مساحتها حوالي ربع سوريا ومعظمها صحراوي، ممتلئة بالقواعد العسكرية الأمريكية، التي تم تشييدها في الحقول، أو في مصانع للأسمنت لم تعد تستخدم، وفي منشآت النفط والغاز التي ترغب الحكومة السورية في استعادتها.
وتسبب الوجود العسكري والحماية الأمريكية على منبج في جعل المدينة أكثر استقرارًا من باقي المدن التي دمرتها الحرب، مما جعل اقتصادها ينمو جزئيًا مع وجود اقتصاد عفيّ وما يقرب من 200 ألف مقيم جديد قدموا من مختلف الأماكن.
وتعتبر تركيا الميليشيا الكردية في سوريا تهديدًا إرهابيًا على حدودها، وهددت بمهاجمتها، وتشعر الولايات المتحدة بالقلق من أن هجومًا تركيًا على منبج سيشتت انتباه المقاتلين الأكراد من المعركة ضد تنظيم داعش في الجنوب، وبالتالي تبقي الولايات المتحدة على الدوريات الأمريكية التي تقوم بها لإبعاد الأتراك عن منبج، ولكن مع خفوت المعركة ضد داعش، ستنعدم أسباب بقاء الأمريكيين في سوريا.
في غرب مدينة منبج، على قمة سطح أحد المنازل الريفية والذي تم تحويله لقاعدة عسكرية، أشار رجال الميليشيات الكردية عبر الوادي الضحل إلى المواقع العسكرية التركية، واعترفوا بأن الأتراك يستطيعون السيطرة على المنطقة بسرعة إذا ما أرادوا ذلك، ولكنهم لم يفعلوا ذلك بسبب القاعدة العسكرية الأمريكية القريبة، ويقول إبراهيم شيخ محمد أحد الميليشيات الكردية: "لولا الأمريكان.. كانت ستقع كارثة هنا".
سد الفرات
معظم الأراضي التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وحلفائها الآن كانت تابعة لتنظيم داعش فيما سبق، وما زالت آثار الحملة العسكرية ضد التنظيم الإرهابي قائمة حتى وقتنا هذا.
وإلى الجنوبمن منبج يقبع سد الطبقة أو ما يعرف بسد الفرات، والذي بناه السوفيت عام 1973، الذي كوّن أكبر المناطق المائية في سوريا "بحيرة الأسد" ويولد الطاقة لمعظم أنحاء البلاد، وكان مقاتلو داعش يسيطرون على السد لسنوات قبل أن يفجروه توربيناته أثناء فرارهم خارج المدينة.
وعاد السد للعمل مرة أخرى نوعًا ما، حيث يعمل موظفوه البالغ عددهم 350 شخصًا في مبان مزقتها طائرات التحالف الدولي والتي أدت إلى ثقوب في جدران الحوائط، وداخل محطة الطاقة الكهرومائية توجد مجموعة من صناديق الدارات الكهربائية المتفحمة، والتي فجرها الإرهابيون تحت أسقف ملطخة باللون الأسود الناتج عن الدخان.
ولكن لا تزال ثلاثة من توربينات السد تهدر بقوة أثناء اندفاع المياه، في الوقت الذي يعمل فيه شخص لإصلاح توربين رابع، ومن التوربينات السد الثمانية، استطاع المهندسون تجميع أجزاء كافية لإصلاح ثلاثة حتى الآن.
وكما تقول الصحيفة، السد مثال نادر على التعاون بين جانبين متعارضين، ويقول محمد شيخو، رئيس القسم الميكانيكي، إن خط الكهرباء الذي يربط سد الفرات بسد أصغر، يمر عبر منطقة تسيطر عليها الحكومة، ويرسل الكهرباء إلى المحطة التي توفر مياه الشرب لمدينة حلب، ولا تزال الحكومة السورية تدفع رواتب بعض العمال في السد.
ويعمل السد بشكل جزئي حتى الآن بتعاون جانبين معارضين، حيث أعلنت الشركة الألمانية المصنعة للكابلات الكهربائية، أنها لن ترسل مهندسيها إلى منطقة حربية، والدولة المرشحة لإصلاح باقي السد، وهي روسيا، متعاونة مع الحكومة السورية.
الأسوأ من ذلك، كما تقول الصحيفة نقلًا عن مشرف السد محمد طربوش، إنه لا توجد مياه كافية، حيث قللت تركيا من كمية المياه التي تضخها إلى سوريا بأكثر من النصف، بعد أن استولى الأكراد على المنطقة، مما قلل بالتبعية من قدرة السد على توليد الكهرباء، ويضيف طربوش، "لم يكن الموقف أكثر صعوبة من قبل، حتى عندما كان تنظيم داعش متحكمًا في السد فهم يقطعون المياه عننا".
مدينة محطمة بلا مستقبل
وعلى ضفاف نهر الفرات في العاصمة السابقة التي أعلنها تنظيم داعش (الرقة)، ينادي أصحاب الزوارق على الركاب على متن مراكب معدنية متهالكة، وبمجرد امتلائها بالركاب والسيارات والدراجات النارية والشاحنات التي تحمل كل شيء من الحفاضات إلى الخبز، يقوم صاحبها بإدارة محركها ليندفع الدخان الأسود ويبحر المركب عبر المياه الخضراء الباهتة.
وكانت الرقة فيما سبق مركزًا تجاريًا لحبوب القمح في سوريا، ولكنها الآن أصبحت مدينة تعيش حالة من الخراب.
وقال مسؤولون محليون، إن الحملة العسكرية التي طردت الجهاديين في أكتوبر، تركت ثلثي مباني المدينة مدمرة، تم تدمير مباني سكنية ومساواتها بالأرض، وعاد السكان ليجدوا جدرانًا مفقودة من منازلهم، وكافح البعض للعثور على منازلهم من الأساس، ولكن القوى العالمية التي قاتلت هنا بقيادة الولايات المتحدة، أبعدت نفسها تمامًا عن عملية إعادة الإعمار، ولذلك يعتمد سكان الرقة المحليين على أنفسهم في هذا.
ويقول الكاتب، تم تدمير جميع الجسور في المنطقة والبالغ عددها 32، وأصبح الجسران الرئيسيان اللذان يمتدان على نهر الفرات لا يمكن عبورهما، فأحدهما به حفرة كبيرة بما فيه الكفاية تسمح بمرور جرار، في الوقت الذي يتسلل فيه الأولاد تحت الجسر الآخر، ليسبحوا في المياه تحته، وأدى هذا لاستخدام القوارب فقط في عملية العبور، وأصبح اعتماد الجميع الآن عليها.
منذ انتهاء المعركة ضد تنظيم داعش، ضخت الولايات المتحدة 13.7 مليون دولار في الرقة، من أجل الماء والكهرباء وإزالة الأنقاض وغيرها من المشاريع، بالإضافة إلى 54 مليون دولار لإزالة الألغام التي خلفها داعش، حسبما ذكرت الخارجية الأمريكية في بيان لها، ولكن هذا لن يعيد إعمار المدينة، والتي قدر محافظها أحمد إبراهيم بأنها ستتكلف ما يقرب من 5 مليارات دولار.
ولا يعلم إبراهيم من أين سيأتي المال، ويخشى من أن قلة الدعم الدولي ستجعل الحكومة السورية أو جماعات إرهابية مثل تنظيم داعش تستغل الفرصة، ويقول: "سيكون ولاء الشعب هنا لمن يمدهم بالدعم".
المواجهات على جانبي المياه
إذا ما اتجهت جنوبًا، فإن الطريق الممتد على طول نهر الفرات، مليء بآثار الاقتصاد المزدهر الذي ساد في المنطقة منذ عقود من الزمن، مصنع سكر مهترئ، وطاحونة قطنية، ومحطة قطار مليئة بالعربات التي خرجت عن مساراتها.
وتسيطر الحكومة السورية على دير الزور، أكبر المدن السورية على نهر الفرات، لكن الجسر الذي يربطها بالضواحي الشرقية على النهر تم تدميره، ويسيطر الأكراد، وحلفائهم العرب بالتعاون مع الولايات المتحدة على الجانب الشرقي، ولديهم قواعد في حقول النفط والغاز، لمنع الحكومة السورية وحلفائها الروس والإيرانيين من استعادتها.
في بعض الأماكن، تتواجه قاعدة هذا الجانب مع قاعدة للجانب الآخر، وتكون المواجهة عبر المياه قريبة للغاية، لدرجة أن الجنود يستطيعون رؤية أعلام بعضهم البعض ويرون جنود القاعدة الأخرى يدخنون السجائر، وقالت إحدى السيدات التي ترجلت عن قارب حملها من الجهة التي تسيطر عليها الحكومة إلى الجانب الآخر: "أصبح الأمر مثل الحدود بين الدول الآن".
وتابعت المرأة، التي رفضت ذكر اسمها لتتمكن من زيارة والديها في الجانب الغربي الذي تسيطر عليه الحكومة، معظم القوات على الجانب الآخر (التابع للأسد) كانت سورية، ولكنها رأت في بعض الأحيان روسًا ورجال ميليشيا عراقيين وأفغان مدعومين من إيران يشترون سلعًا في المتاجر.
وتابعت: "حالة الانقسام التي تعيشها سوريا سيئة للغاية، ولا أحد يعلم كيف ستنتهي، ولكن "إن شاء الله ستعود سوريا دولة موحدة مرة أخرى".
فيديو قد يعجبك: