العراق وداعش... حكاية انتقام لن تنتهي قريبا (الحلقة الأولى)
ترجمة- سارة عرفة وهدى الشيمي ورنا أسامة:
في اخر نسخة طبعتها مجلة "نيويوركر" الأمريكية في عام 2018، نشرت المجلة العريقة تحقيقا عن العراق ما بعد إعلان هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية وطرده من الموصل ثاني كبريات مدن بلاد الرافدين. التحقيق انطلق من المحاكمات السريعة التي يلقاها من وقعوا في قبضة السلطات العراقية قبل وأثناء وبعد المعارك مع التنظيم المتطرف.
مضى التقرير يحكي قصة الموصل بعد انقضاء القتال في شقيها خاصة البلدة القديمة التي كانت معركتها من أشرس ما خاضته القوات العراقية والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد لاقتلاع الدولة الإسلامية التي أعلنت الخلافة المزعومة من فوق مأذنة أكبر مساجد المدينة (النوري) في يونيو 2014.
مر التقرير على الفظائع التي ارتكبتها قوات الأمن العراقية ومليشيات الحشد الشعبي في طريقها لتحرير الموصل والمدن الأخرى التي كانت في طريق تخليص العراق من قبضة المسلحين الذي كانوا في وقت من الأوقات أقرب ما يكونوا من اجتياح العاصمة بغداد.
حكى أيضا عن مخيمات النزوح ومركز احتجاز ذوي مقاتلي الدولة الإسلامية وما يجري لهؤلاء الناس الذي قد لا يكون لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا أو تزوجوا أو حتى أخوات أو اباء عناصر التنظيم الذي ارتكب هو الاخر ما بات معروفا من فظائع وجرائم بحق الإنسانية وصلت إلى حد استعباد النساء واقتلاع أقليات موجودة منذ مئات السنين في أرض العراق.
الحلقات الثلاث التالية تمثل نسخة مصغرة من التحقيق الذي عنوانه: "حملة الانتقام العراقية فيما بعد داعش"، واعده الصحفي بن تاوب على مدى عدة أشهر، زار خلالها الموصل ومراكز الاحتجاز والنزوح وحضر محاكمات والتقى بمسؤولين عراقيين وغربيين.
الحلقة الأولى
ذات صباح من صباحات سبتمبر البغدادية، توقفت حركة المرور عند نقاط تفتيش وحواجز طرقات فيما تجمع الموظفون العموم وراء الجدارن المُصمّمة لحماية البنايات من التفجيرات. وفي درجة حرارة بلغت 150 فهرنهايت (أي أكثر من 65 درجة سليزيوس)، أمام محكمة الجنايات المركزية، مرّ أحد الحراس بهرّاواته على قضبان زنزانة صغيرة بها عشرات من المُشتبه في أنهم إرهابيون ينتظرون محاكمتهم. كانوا مرصوصين على مقعد خشبي وعلى الأرض، أطرافهم متشابكة، وتعبيراتهم كئيبة. كثير منهم كانوا مرضى أو جرحى - يغطي الجرب أجسادهم، ومفاصلهم ملتوية وعظامهم مهشمة.
تعمل السجون العراقية وفق قانون مُوحّد- ألوان ملابس مختلفة يرتديها المشتبه بهم قبل المحاكمة، والمُدانين، وأولئك الذين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام بحقهم -لكن الكثير ممن لم يُعرضوا على قاضٍ أو يروا محاميا كانوا يرتدون ملابس مماثلة لمن حكم عليهم بالإعدام.
في نهاية الممر، كانت روائح النسكافية ودخان السجائر تعبأ الغرفة عديمة التهوية، حيث يجلس محامو الدفاع عن هؤلاء الناس على ارائك، ويضعون أكوام من الملفات على أرجلهم. كان معظمهم يحدثون في هواتفهم فيما التزم الاخرون الصمت، وأيديهم ملفوفة أمامهم وعيونهم مغلقة. في قضايا الإرهاب، عادة ما يُمنع المحامون من الوصول إلى موكليهم حتى بدء جلسات المحاكمة.
بعد أن دقت الساعة العاشرة بوقف قصير، دخل ثلاثة قضاة يرتدون عباءات سوداء طويلة (روب القاضي) القاعة الثانية وجلسوا على المنصة. كان سهيل عبد الله ساهر، وهو رجل أصلع في أواسط عمره ذو وجه رقيق بألغاد مرتخية، يجلس في المنتصف. كان هناك 21 قضية في سجله في ذلك اليوم، 16 لها صلة بالإرهاب.
وحينما هم ساهر بقراءة أحد الأسماء، نادى أحد رجال الأمن في القاعة على أحد زملائه، الذي صرخ بدوره للحارس الذي صرخ بالاسم داخل الزنزانة التي خرج منها شاب يدعى أحمد. قاده أحد رجال الأمن إلى قفص خشبي في منتصف قاعة المحكمة. وجه إليه القاضي اتهاما بالانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش) في قرية القيارة، وهي بلدة صغيرة واقعة جنوب مدينة الموصل.
قال أحمد: سيدي القاضي، أقسم أنني لم أقم أبدا بزيارة القيارة.
كان القاضي متشككا. وقال: "لدي اعتراف كتابي هنا، وعليه بصماتك."
رد أحمد: سيدي، أقسم أنني بصمت على ورقة فارغة. أجهزة الأمن عذبتني."
بدأ ساهر في تلاوة قائمة بأسماء جهاديين يفترض أنهم كانوا مع أحمد الذي نفى معرفته بأي منهم.
قال الادعاء: "دليل كاف. أطلب الحكم بأنه مذنب."
لم يكن لدى أحمد محامي يدافع عنه، لذا استدعى ساهر أحد المحامين الكبار في السن الذين يعملون لدى الدولة، كان اسمه حسين ويجلس في الصالة، وبدأ على الفور في تقديم دفوع بشكل تلقائي. سار حسين مباشرة إلى منصة الدفاع، وبدأ يكرر من ذاكرته ما سبق وأن قاله أحمد قبل أن ينتهي من مرافعته دون حتى طلب الإفراج عنه مترجيا القاضي بأن يكون "رحيما في حكمه."
بكى أحمد عندما اقتادوه خارج الغرفة، بعد محاكمة استمرت أربع دقائق ونصف.
أصر المشتبه به التالي على أنهم (السلطات) ألقوا القبض عليه بالخطأ – حيث أن اسمه مشابه لاسم أحد عناصر داعش. أوضح محاميه أن موكله اعترف بانتمائه إلى داعش تحت التعذيب- ولديه تقارير طيبة تثبت ذلك، لكن بدا أن لا أحدا من القضاة يصغي إليه. وفيما المحامي يتحدث، انفجر القضاة في الضحك، ووقعوا المستندات، وطلبوا من مساعديهم جمع الملفات من على المنصة. كان ساهر يتثاءت في محاكمة استمرت ثماني دقائق.
وكان المشتبه فيه الثالث يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً من قرية بالقرب من الموصل، ووجهت إليه تهمة الانتماء إلى داعش، واعتقل أثناء وجوده في معسكر للنازحين.
سأل القاضي: متى انضممت إلى داعش؟
رد المشتبه به: لم أنضم إليهم.
قال القاضي: اذن لماذا بصمت على هذا الاعتراف؟
رد المشتبه به: غطوا عيناي وأجبروني على القيام بذلك.
قال الادعاء: "دليل كاف. أطلب الحكم بأنه مذنب."
أوضح محامي المشتبه به أن تقارير الاستخبارات الإقليمية أظهرت أن المشتبه به ألقي القبض عليه بشكل خاطئ لتشابه اسمه مع شخص اخر. في المحاكمات المتعلقة بالإرهاب، فإن مجرد وجود محامي دفاع خاص يمكن أن يشير إلى البراءة المحتملة للمشتبه به؛ إلا أن معظم المحامين يرفضون التعامل مع قضايا غامضة، خوفاً من أن تقوم الأجهزة الأمنية بمضايقتهم بسبب صلاتهم المتصورة بالدولة الإسلامية. (في العام الماضي، أصدرت المحاكم العراقية مذكرات توقيف بحق ما لا يقل عن خمسة عشر من محامي الدفاع واتهمتهم بالانتماء لداعش). ولكن، فيما كان المحامي يتحدث، كان القضاة يمليون إلى الاهتمام بمهام إدارية.انقضت المحاكمة في تسع دقائق. صرخ المشتبه به باكيا فيما كان الأمن يخرجه من قاعة المحكمة، "أكره داعش- لقد نسفوا بيتي!"
بحلول الظهيرة، كان ساهر قد ترأس أكثر من عشر محاكمات، ضمت 20 مشتبها به. انقطعت الكهرباء عن المحكمة مرتين، لكن ساهر مضى يعمل حتى في الظلام، ويفحص الوثائق في ضوء هاتفه الخلوي. كانت القضية الأخيرة قبل تناول الغداء تضم ثلاثة متهمين، جميعهم مصابون بجروح بالغة. فيما كانوا يسيرون مترنحين داخل قاعة المحكمة، وضع رجل أمن ثلاثة مقاعد بلاستيكية في قفص الاتهام. اخر مشتبه به كان في منتصف الثلاثينيات من عمره، أصلعا ويرتدي نظارة طبية يدعى لؤي. كان يتسند على عكازين خشبيين ويسير وكأن إحدى ساقيه مشلولة ولم تعد فقرات أسفل ظهره مستقة مع بعضها البعض. كانت قاعة المحكمة الثانية صامتة، عدا صوته وهو يكافح حتى يصل إلى القفص.
بدأ القاضي ساهر في سؤال المشتبه بهم الاخرين أولا. قال أحدهم ويدعى حيدر كان يرتدي سوارا أسود اللون، إنه اعتقل بالخطأ في هجوم بسيارة مفخخة في عام 2014، وأنه بدأ أثناء الاستجواب حتى يتوقف التعذيب في الإفصاح بشكل عشوائي عن أسماء أشخاص، بينهم لؤي. بعد ذلك نادى القاضي ساهر على لؤي الذي نهض من على مقعده وأمسك بالقفص يستند عليه. قال بنبرة سريعة وبصوت عال: "ذهبت لبيع سيارتي. ثم ناداني حيدر، وتمت مهاجمتي واعتقالي." كان لؤي يتلعثم أثناء حديثه. وقال خلال الاستجواب إن الضباط ضربوه بشدة لدجة أنه أصيب بجلطة دموية في داماغه. صرخ: "كسروا ظهري أيضا. كسوا قدماي ويداي! بالكاد يمكني المشي!"
قال الادعاء: "دليل كاف. أطلب الحكم بأنه مذنب." كانت هذه هي العبارة التي نطق بها الادعاء طوال اليوم في المحاكمة التي بدأت في ذلك الصباح.
ذكر محامي حيدر أنه لم يكن هناك شاهدا ولا أدلة مادية وأن طلبه إجراء فحص طبي لإثبات أن حيدر تعرض للتعذيب، تم رفضه. أوضح محامي لؤي أن اعترافه جاء بالإكراه، وليس له معنى أو منطق: قال إنه فجر السيارة المفخخة عن بعد، في حين أن الشرطة خلصت في الحقيقة إلى الهجوم كان انتهاريا.
أمضى لؤي أربع سنوات في الحبس الاحتياطي، وخلال الدقيقتين أو الثلاث المخصصة للدفاع عنه، كان القضاة يتحدثون فيما بينهم؛ الأمر الذي جعل لؤي يصرخ قائلا: "لم أر قاضيا حتى الآن!"
قال القاضي ساهر "أخرجوهم".
فتح رجل الأمن القفص. استغرق لؤي نحو دقيقتين يعرج حتى وصل إلى الباب. خرج ساهر في استراحة غداء، وبعدها أمر باعدمه.
فيديو قد يعجبك: