ما سرُ المنافسة الشديدة التي قد تصل إلى العنف بين سكان مالطا؟
لندن (بي بي سي)
تتسم الثقافة في مالطا بالرغبة الشديدة في المنافسة، وهو الأمر الذي يتجلى في كافة مناحي الحياة، بما في ذلك شكل الأبنية الرئيسية في العاصمة فاليتا.
يتميز السكان في مالطا بأن لديهم رغبة شديدة في المنافسة فيما بينهم، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على أبنية العاصمة فاليتا وكافة مناحي الحياة في هذا الأرخبيل.
ويشار إلى تلك الرغبة في مالطا بكلمة "بيكا"، والتي تعني نوعا من الغيرة الحميدة التي يصعب على من هم بخارج تلك البلاد فهمها.
يقول جورج كسار، أستاذ التراث والسياحة الثقافية بجامعة مالطا، إن تلك "الغيرة" تدفع السكان في مالطا للعمل بكل قوة من أجل التفوق على الآخرين، وكثيرا ما نجد هذه المنافسة بين أتباع قديس وآخر بنفس البلدة. وتتسم هذه المنافسة بالروح الرياضية في بعض الأحيان وتصل إلى العدوان المُتعمد في أحيان أخرى.
ويقول: "إنها الغيرة التي جعلت سكان مالطا في عام 1958 يهدمون الكنيسة الكرملية ويعيدون تشييدها لتتصدر اليوم العاصمة فاليتا بقبتها التي ترتفع 42 مترا، لا لشيء إلا لتعلو على الكاتدرائية الأنغليكانية المقابلة".
وأدت هذه الغيرة أيضا إلى ضرب رجل على رأسه بأصيص زهور، حسب صحيفة "تايمز أوف مالطا"، خلال أحد الاحتفالات في أغسطس/آب العام الماضي. وبعد أقل من أسبوعين من تلك الحادثة، تبادل رعايا أبرشيتين إهانات تصل لحد التجديف بسبب اختلافهما فيما يتعلق بأي تمثال للعذراء أجمل، فكان كل طرف يرى أن "تمثالنا أجمل، وتمثالكم أقبح تمثال في مالطا بأكملها!"
ولم يكن من قبيل الصدفة أن نعرف أن الفاصل بين الحادثتين كان أياما معدودة فقط، ففي موسم المهرجانات من كل عام تحتفي كل قرية بقديسها عن طريق إقامة الاحتفالات التي تبلغ ذروتها خلال الفترة بين يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول، إذ تتنافس الأبرشيات بقوة لإبراز كل ما هو مقدس، وقد تتصاعد الأمور للدرجة التي تؤدي لإلغاء الاحتفالات خشية وقوع أعمال عنف، كما حدث في عام 2004.
ويقول كسار إن المنافسة تزداد حدة ببعض بقاع مالطا عن بعضها الآخر. وقد زرت بلدة قُرمي بوسط مالطا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لكي أتعرف بشكل أفضل على تلك الأجواء، خاصة وأن هذه البلدة معروفة بالمنافسة الشديدة بين أتباع القديس جورج والقديس سباستيان.
اصطحبني ماريو كاردونا، وهو من أنصار القديس سباستيان ويعمل كباحث في مجال الأنثروبولوجيا وأستاذ بكلية مالطا للآداب والعلوم والتكنولوجيا، من فندقي بشمال مالطا إلى قرية قرمي في رحلة استغرقت نصف ساعة بالسيارة.
وخلال الرحلة أخبرني كاردونا بأن عادة اتباع القديسين في مالطا تعود إلى العصور الوسطى، بما في ذلك التعلق بالقديس جورج في قرمي، غير أن تبجيل القديس سباستيان لم يبدأ هنا إلا بعد عام 1813 حين أصاب الوباء مالطا وقال السكان إنهم سينصبون تمثالا للقديس سباستيان إذا ما نجت البلاد من الوباء.
ويقول كسار إن هذا النوع من الغيرة والحماس المعروف في البلاد هو من الملامح المميزة للشعوب المتوسطية، مشيرا إلى أن السكان في إسبانيا وإيطاليا يتنافسون أيضا بشدة على إقامة الاحتفالات، "لكن النسخة الأقرب للاحتفالات المالطية تجدها في صقلية"، حيث يحمل الأهالي، كما هو الحال في المهرجانات في مالطا، تمثال القديس ليجوبوا به طرقات البلدة، كما يقيم سكان صقلية عروضا بالألعاب النارية بشكل مبالغ فيه. لكن المنافسة في مالطا تتميز عن غيرها بالحدة والشراسة!
وصلنا لبناية واجهتها من الحجر البني الفاتح وقد زُينت بمئات المصابيح الضخمة وعلاها وشاح أخضر وهو اللون المميز لأتباع القديس سباستيان في قرمي.
وأسفل الوشاح كان بانتظارنا رفاق كاردونا من أنصار القديس سباستيان، ومن بينهم رئيس الرابطة التي تجمعهم. وتشبه رابطات أنصار القديسين في مالطا رابطات الأندية الرياضية المحلية، وهي منظمات طوعية تنتشر بأرجاء الجزيرة وتشمل قاعات لفرق موسيقية تصحب المسيرات، وحانات وصالات للبلياردو ومحطات إذاعة، فضلا عن ارتباطها بشكل غير رسمي بالكنيسة ووظيفتها الاجتماعية كملتقى لأنصار القديس.
وخلال العام الماضي، شهد مهرجان القديس سباستيان الكثير من الإسراف والبذخ بشكل متوقع. ويقول كاردونا إنه خلال أسبوع من الاحتفالات أنفقت الرابطة المحلية 100 ألف يورو على الحفلات والألعاب النارية والعروض التي أتت من الخارج وشملت مشاركة أحد الفائزين ببرنامج "إكس فاكتور" البريطاني للمواهب، وكان ذلك في بلدة قرمي الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها 16 ألف نسمة.
يقول كاردونا: "مفهوم 'البيكا ' هو السعي المستمر نحو الأفضل للتفوق على المنافس. إنها الرغبة المستمرة في إثبات الذات والتباهي أمام الآخرين، ولا يتمثل الهدف في مجرد الظهور بشكل جميل وممتع بل القول إننا جئنا بما لم يسبقنا إليه أحد في القرية من قبل".
وربما كان حجم مالطا الصغير، التي تعد أصغر بلدان الاتحاد الأوروبي ويصل تعداد سكانها إلى 430 ألف نسمة، من أسباب احتدام المنافسة. ويقول كسار: "إن صغر المساحة الجغرافية يزيد من شدة المنافسة، فالجميع يرى ويسمع ما يحدث ولا يخفى قول أو فكرة على أحد، أما الباقي فالغيرة المتأصلة لدى البشر كفيلة به".
وفي الطابق الثاني بدار الفرقة الموسيقية للقديس سباستيان في غرفة أشبه بباحة أحد المتاحف الإيطالية، حيث تتدلى ثريا من البلور ثمنها 80 ألف يورو ويُزين جدار بلوحة لأحد أقطاب فرسان القديس يوحنا، وهو مانويل بينتو دافونسيكا، جلس كاردونا وثلاثة رجال آخرين للحديث عن آخر تطورات المنافسة.
وقال تشارلز صليبا، أمين رابطة القديس سباستيان: "بحلول موسم المهرجانات يسعى الجميع للإنفاق ببذخ قدر المستطاع، ويفد المالطيون من الخارج لحضور مهرجانات القرى حيث يجتمع رفاق الماضي مرة أخرى".
وقال جون كاميليري، عضو برابطة القديس سباستيان: "إنني أحمل الكنيسة المسؤولية عن الكثير من الغيرة والحماس في مالطا. خلال المهرجانات، تظهر المحسوبية من جانب القساوسة الذين يتحيزون لقديس أو آخر وينتخبون الأبرشية المفضلة لهم لاستضافة أكبر حفل، بينما لا يبقى لمنافسيهم إلا تنظيم الحفلات البسيطة. ويصل الأمر لدرجة أن بعض القساوسة يحصون مصابيح الإضاءة في الاحتفالات الصغيرة ليتأكدوا أن عددها أقل من أضواء الاحتفال الرئيسي، ولا يُسمح للاحتفالات الأصغر بإضاءة قبة الكنيسة، وهو الأمر الذي يزيد التحزب".
وفي عام 2002، سعت أبرشية مالطا لكبح جماح الاحتفالات التي بدأت تخالف نهج الكنيسة، لكن المحاولة باءت بالفشل ولم تنجح الأبرشية في إنشاء مجلس رقابة لحجب المواد الاستفزازية بالأعياد.
ويقول كسار: "لم ينجح أي أسقف في السيطرة على مشاعر المنافسة والغيرة في مالطا، لأنه شخص واحد أمام كثرة، والكنيسة بدون الجمهور لا تعني شيئا."
ورغم ازدياد نفقات المهرجانات والاحتفالات بشكل مستمر، يبدو أن مستوى آداب اللياقة قد تحسن في مالطا خلال العقود الأخيرة، وربما كان ذلك نتيجة لمناشدات الكنيسة.
ويتذكر كاميليري ما حدث في احتفالات شهدت تصرفات أسوأ في شبابه، قائلا: "ذات مرة، دهنوا الدجاج باللون الأحمر (لون رابطتهم) وألقوها باتجاه خصومهم، في إشارة إلى أن خصومهم جبناء كالدجاج".
وأضاف ضاحكا: "وفي مرة أخرى، صب أحدهم البول على الناس من إحدى الشرفات أثناء مرور موكب الرابطة المنافسة".
لكن شكرا للقديسين لأن تلك الأيام قد ولت دون رجعة!
فيديو قد يعجبك: