رحلة البحث عن تابوت.. أحياء جائعون يعانون لإراحة موتاهم في فنزويلا
كتب – محمد الصباغ:
كان آخر ما سمعته أسرة "نيريو جارسيا" في فنزويلا هو صوته من داخل زنزانة في سجن بماراكايبو، ثاني أكبر مدينة في البلاد. اتصل بشقيقه عبر هاتف محمول استعاره، وتوسل إليه طلبًا للمساعدة. "اطلب من أمي أن تحضر بعض الطعام"، قالها جارسيا (29 عاما) في الثانية من صباح أحد الأيام، بحسب ما تقوله الأسرة.
المكالمة التالية كانت من زميل له في السجن، قال إن جارسيا سرق سلاحا ناريا وهرب من السجن. بكت الأم جوانا كاستيلو بحسرة واتجهت إلى سجن "كابيماس" المزدحم، باحثة عن إجابات، لكنهم طلبوا منها البحث في بحيرة قريبة من ماراكايبو.
هناك وجدت جثة ابنها طافية على الماء، ورصاصة مستقرة بين عينيه. تحدثت الأم لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية حول معاناتها التي تواصلت حتى مع احتجاز جثة نجلها بالمستشفى. قالت "أنا يائسة.. أريد نقله معي لأدفنه بالقرب مني".
ربما لا تتوصل الأسرة إلى سبب موت جارسيا الحقيقي، لكن بات هناك كارثة أخرى حيث عانت لإخراج جثة ابنها من البحيرة، ثم المعاناة الأخرى بسبب التكلفة المرتفعة لعملية الدفن.
بحسب أسوشيتد برس، باتت عملية دفن الموتى عبئًا ماليا إضافيًا على الفقراء في فنزويلا التي تواجه أزمة اقتصادية طاحنة، مضيفة: "حتى لا يمكنهم الموت بكرامة"، بعدما لم يجدوها في حياتهم.
تكلف عملية نقل الجثة وتكاليف الدفن والمقبرة مئات الدولارات، في دولة بات الحد الأدنى للأجور فيها يصل إلى 3 دولار شهريًا، بالدولة التي تواجه معدل تضخم غير مسبوق.
اتجه البعض هناك إلى استئجار صناديق الدفن كخيار أرخص بدلا من الشراء. فيما حوّل البعض أثاث منازلهم الخشبي إلى توابيت.
"الجثث تتحلل في المنازل"
عانت الدولة الغنية بالنفط في السنوات الأخيرة من سياسات اقتصادية سيئة للرئيس نيكولاس مادورو، بجانب حصار أمريكي اقتصادي على صادراتها النفطية، ما جعل معدل التضخم يصل بالبلاد إلى 65.2% في أغسطس الماضي.
وبحسب تصريحات رسمية فإن الفنزويليون الذين يحصلون على الحد الأدنى للأجور باتوا غير قادرين إلا على شراء 2% فقط من سلة الغذاء الأساسية لهم.
بدأ زعيم المعارضة المدعوم من واشنطن خوان جوايدو، حملة من العام الماضي ووعد بالإطاحة بمادورو من أجل إعادة الرخاء في البلاد. لكن مع استمرار الصراع السياسي، زادت معاناة الشعب في المنتصف.
يعيش الفقراء والأثرياء في كاراييبو بدون كهرباء لأوقات طويلة، رغم أن المنطقة غنية بالنفط، إلا أن سكانها ينتظرون بالطوابير من أجل تزويد سياراتهم بالوقود.
بالعودة إلى المعاناة مع الموت، بدأت الناشطة كارولينا لييل دورا منسقةً للجنائز في منطقتها الفقيرة والعنيفة بألتوس دي ميلاجرو في ماراكاييبو، لمساعدة العائلات على التخلص من أزماتهم.
تقول لييل لأسوشيتد برس إن الشرطة تتدخل فقط لمواجهة الصراعات المسلحة العنيفة بالشوارع، لكن هناك أيضًا موتى بسبب الأمراض مثل الإيدز، وآخرون تسمموا بسبب تناول الطعام من القمامة.
وأضافت "هذه المنطقة تحولت إلى الجحيم. بعض الجثث تحللت في المنازل بسبب عدم استجابة المسؤولين".
بمساعدة جيرانها، استطاعت لييل تنظيم 12 جنازة في الشهر الأخير فقط.
"توابيت من أثاث المنازل"
تصل أخبار الوفاة إلى النجار أرتور فيلما، والذي بدوره يزور منزل العائلة المكلومة، ويطلب منها الأثاث الخشبي الذي يمكن تحويله إلى تابوت، ويستخدم ما يجده سواء منضدة أو خزانة أو غير ذلك.
الخطوة التالية، يقوم بها روبيرتو موليرو، الذي يتولى تغسيل الجثث بدون تدريبات سابقة أو خبرات سوى أنه كان سائقا في دار للجنائز. سمح ذلك للأسر بدفن الجثث قبل تحللها.
وقالت دور الجنائز في مدينة ماراكاييبو: خلال العامين الماضيين، بدأ تأجير التوابيت للأسر مقابل 50 دولارًا. وتعيد الأسر بعد الجنازات التوابيت مرة أخرى، وهو الأمر الذي يوفر على الأسر مبلغ شراء تابوت بمقابل يتراوح بين 100 و300 دولار.
لمواجهة الأزمة أيضًا، تحوّل سيرجيو موراليس صانع الأثاث، إلى شخص يصنع التوابيت مقابل 100 دولار أو أقل، ويعرضها في الشوارع أمام المارة. وما يزيد الأمور صعوبة، هو أن اللصوص ينهبون المقابل باحثين عن الأشياء الثمينة.
بالعودة إلى والدة جارسيا الشاب الذي قُتل في السجن، قالت إنها تركز حاليا على إنقاذ جثة ابنها ودفنه، قبل الوصول إلى العدالة واكتشاف الحقيقة حول مقتله.
وبمساعدة مجموعات محلية، استطاعت بالفعل دفن الجثة وإحضار تابوت من متبرع. وخلال نظرتها الأخيرة على ابنها، وضعت السيدة ثلاثة أرغفة من الخبز. أطعمت الأم ابنها على طريقتها، في محاولة لسد جوعه بشكل رمزي بعدما توسل في آخر مكالمة طالبا الطعام، قبل موته بساعات قليلة.
فيديو قد يعجبك: