الآثار الفرعونية: نساء يعشقن المومياوات
القاهرة (بي بي سي)
لعبت النساء المستكشفات دورا رئيسيا في ولع بريطانيا بالمومياوات المصرية قبل قرن من الزمان. وأصبحت الفتيات اللائي شاهدن، بعد ذلك بزمن طويل، مجموعات من تلك المومياوات في المتاحف الإقليمية في بريطانيا أصبحن الآن من بين علماء الآثار الحاليين والمستقبليين.
سميرة أحمد تلقي الضوء، على تأثير النساء في عالم المومياوات.
تقول دانييل ووتون، وهي تتذكر سعادتها حين رأت مومياء مصرية، في متحف بولتون، شمالي انجلترا، لأول مرة: "لقد كانت لحظة فارقة، وكأني سافرت عبر الزمان إلى مصر القديمة".
وتضيف: "فجأة رأيت هؤلاء الناس، الذين عاشوا قبلنا بمئات السنين، وبطريقة مختلفة تماما عن حياتي في بلدة بولتون. كان من المدهش أن ندرك أن هذا العالم الآخر كان موجودا، هذا الماضي. من هؤلاء الناس، وأي لغة كانوا يتحدثون؟"
وبعد فترة، أصبحت دانييل عالمة آثار محترفة، وخبيرة في برنامج Time Team، الذي يذاع على القناة الرابعة من بي بي سي.
الشيء نفسه حدث في بلدة ماكليسفيلد، التي تقع على مسافة 30 ميلا إلى الجنوب من بولتون، حين زارت ريبيكا هولت متحف "ويست بارك"، ووقعت عيناها على صندوق مومياء، لفتاة معبد مصرية تبلغ من العمر 15 عاما.
وتقول ريبيكا: "لقد كان عمري حينها نحو خمس سنوات، وأتذكر حين رأيت صندوق المومياء لأول مرة، وشعرت بافتتان بالغ وقلت: أمي، ما هذا؟ ومنذ ذلك الحين لم يفارقني هذا الافتتان".
وحافظت ريبيكا على الذهاب إلى المتحف. وفي عمر 14 عاما أصبحت متطوعة فيه، تمضي فيه ساعات بعد وقت المدرسة. وعلمها أمين المتحف، ألان هيوارد، قراءة اللغة الهيروغليفية، والتعامل مع القطع الأثرية.
والآن تبلغ ريبيكا من العمر 24 عاما، وأنهت للتو دراستها لمرحلة الماجستير، في علم الآثار بجامعة أكسفورد.
لكن الشغف، الذي أيقظته المومياوات المصرية في هاتين الفتاتين، موروث بطريقة مباشرة من امرأتين، عاشتا في بلدتيهما قبل قرن من الزمان، بل وبُني المتحفان لحماية مجموعات الآثار، التي جمعتها المرأتان وهما: آني بارلو، من بلدة بولتون، وماريان بروكليهورست من ماكليسفيلد.
في الواقع، كان هناك رابط أقوى من ذلك، بين دانييل ووتون وآني بارلو.
كانت بارلو ابنة رجل ثري يملك طاحونة، وعملت جدة وعمة دانييل في مطاحن عائلة بارلو وجونز.
لقد كان المال، الذي أدرته الطاحونة، هو ما مكن بارلو من السفر، لاستكشاف المقابر المصرية.
بينما جاءت ماريان بروكليهورست من عائلة تمتلك مصنعا للحرير. وفضلا عن تمويل رحلاتها إلى مصر، دفعت من مالها الخاص، للمساهمة في إنشاء متحف ويست بارك، وهو المكان الذي وجدت فيه ريبيكا مصدر إلهامها.
ولا يتضمن ميراث بروكليهورست فقط الأشياء التي جلبتها من مصر، وإنما أيضا مفكراتها اليومية المفصلة ورسوماتها لرحلاتها في نهر النيل التي تعد جزءا من السجلات النادرة لمواقع المقابر المصرية القديمة قبل أن تتعرض للعبث.
وكان هناك وريثة أخرى للطاحونة، الواقعة شمالي انجلترا، ساهمت بشكل مهم في الولع البريطاني بالمومياوات المصرية، وهي إميليا أولدريود، التي صنفت اكتشافاتها في كتب، في أرشيف متحف باغشو في بلدة باتلي.
لقد كانت إميليا واحدة من أوائل من استكشفوا غرفة الدفن، في بلدة أبيدوس - التي أعيد إنشاؤها الآن في المتحف - بعد أن فتحت عام 1900، لأول مرة منذ 4000 عام.
وفي ذلك الوقت، حين كان جامعو الآثار من الذكور يرمون المنسوجات جانبا، في سعيهم وراء صناديق المومياوات الضخمة، والأشياء الذهبية، أحضرت إميليا ورق بردي سليما ونادرا، وهو عبارة عن لفافة حول المومياء، مصنوعة من ورق البردي، عليها رسم يمثل وجه الشخص الميت، الذي تعود له المومياء.
ووفقا لعالمة الآثار الثالثة المولودة في القاهرة، هبة عبدالجواد، فإن المستكشفات النساء لهن منهج مميز، ويركزن ليس فقط على المقابر الكبرى، ولكن أيضا على الأشياء الصغيرة الحميمة التي يسهل حملها.
وتقول هبة: "خلافا للمعارض التي نراها اليوم، حيث هناك تركيز كبير على الذهب، والتماثيل الملكية، وكل شيء يلمع، اعتقد أنه يمكنك القول، استنادا إلى نمطهن في جمع الآثار، إنهن كن مهتمات أيضا بالحياة اليومية للناس العاديين".
وتشير هبة أيضا إلى جمعهن للفافات الوجه، من ورق البردي. وتقول: "توجد علاقة حميمة في وجه المومياء. يمكنك أن ترى عيونها، إنها تبادلك النظرات. يمكنك أن ترى الإنسان هناك".
في الوقت الراهن، تركز دانييل وريبيكا على الآثار الصغيرة التي يسهل حملها، وما تنقله لنا عن الحياة، التي عاشها الناس أصحاب تلك المومياوات، وذلك مثل حاويات أدوات التجميل، المجوهرات، والتماثيل الصغيرة.
والشيء المفضل لدى ريبيكا، في متحف ماكليسفيلد، هو تمثال بحجم 6 بوصات لملكة، هي الملكة "تي"، التي تلبس باروكة شعر كبيرة مزخرفة، وتحمل مذراة من اللوتس.
بالنسبة لـهبة، البالغة من العمر 26 عاما، التي كبرت وهي تنظر إلى الأهرام، وتفكر في البشر من العمال الذين أجبروا على بنائها، وتقرأ كتبا عن مصر الفرعونية اشتراها لها والدها، فإن النساء المستكشفات، اللائي ينتمين لعصر الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا، يحملن سحرا معقدا.
لقد كن رائدات في علم المصريات. واستخدمن الاكتتاب العام لجمع التبرعات بهدف جلب الثقافة للناس العاديين. لكنهن كن أيضا ناهبات استعماريات.
وكانت المفكرات اليومية، ومحاضرات هؤلاء النساء، دافعا قويا للاستكشاف لدى غيرهن.
إميليا إدوارد، وهي رائدة أخرى من العصر الفيكتوري، أسست صندوق استكشاف مصر، الذي أتاح التمويل اللازم لأعمال التنقيب، التي قام بها عالم المصريات الشهير فليندرز بيتري.
لكن عمل المستكشفات الرائدات لم يخل من جانب غير قانوني، حيث كن يساومن تجارا، ومسؤولين محليين في مصر، من أجل الحصول على الآثار. كانت الرشوة والسرقة عملا اعتياديا حينذاك.
وفي مذكراتها اليومية، سخرت ماريان بروكليهورست من تهريب الآثار إلى الخارج.
ويرجع السبب في أن صندوق المومياء، في متحف ماكليسفيلد، فارغ إلى أن ماريان تخلصت من الجثة، ربما عبر إلقائها في مياه نهر النيل، خوفا من أن تفضح رائحتها سر االسرقة.
وتقول هبة: "بالنسبة لي، فإن الأمر يزداد حساسية كوني مصرية، وكيف ننظر إلى الجسم اليوم. حتى في العصر الفرعوني، كانت هناك نصوص تحرم تماما سرقة المقابر، أو العبث بالمومياوات".
وتعتقد هبة أن المتاحف، المليئة بالمصريات، يجب أن تكون أمينة، بشأن مصدر مجموعاتها الأثرية.
طريقة عرض صندوق المومياء، الذي جلبته بروكليهورست، في متحف "ماكليسفيلد سيلك"، حيث تم نقله من متحف ويست بارك، لاتشير إلى التخلص من الجثة، أو إلى حقيقة أنه جرى تهريبه من مصر بشكل غير قانوني. وتعرض اليدان المحنطتان في صندوق زجاجي، دون أي ملصق عليه.
وتقول هبة: "لا أرغب في أن يبدو الأمر وكأنني أؤيد إعادة كل شيء. هذا ليس ما أبحث عنه. ما أبحث عنه هو محاولة جعل الناس يفكرون فيما قد يجعل الأمر مقبولا؟"
وتضيف هبة أنه لن يكون من المقبول أبدا، أن تعرض بقايا جثث بريطانية بهذه الطريقة.
تشعر ريبيكا بأنه يمكنها أن تظل ترى بروكليهورست كبطلة، بينما تعترف بأن مذكراتها تظهر مواقف استعمارية، بل وعنصرية بغيضة كانت سائدة في ذلك العصر.
المعضلة الآن فيما إذا كانت السلطات المحلية - التي تأثرت بسنوات من خفض إنفاق الحكومة المركزية في بريطانيا - يمكن أن ترى فائدة، من الاستثمار في المعارض المحدثة، والتخصص في هذه الآثار المصرية.
وفي عدد متزايد من المتاحف الـ 150 عبر بريطانيا، التي تحوي مثل هذه المجموعات الأثرية، هناك معركة من أجل حتى إبقائها معروضة.
وتقول ريبيكا هولت: "أظن أنني ممتنة حقا، لوجود متحف ويست بارك". ونادرا ما يفتح المتحف أبوابه حاليا.
أثرت تخفيضات الميزانية على متحف "ديوسبري"، حيث كانت مجموعات إميليا أولدريود تعرض لسنوات، وأغلق المتحف عام 2016، أما متحف باغشو في بلدة باتلي، حيث لا يوجد حاليا موظف متخصص لرعاية القطع الأثرية، فلا يفتح أبوابه إلا لساعات محدودة.
أما متحف بولتون، يظهر ما يمكن عمله بالرؤية والمال. ويخبر جناحه المصري المرمم بعناية حكاية آني بارلو. وتعلن لافتات في مقبرة تحتمس الثالث، التي جرى ترميمها، بوضوح أن الحفاظ على الجثة البشرية معضلة. هناك تركيز متساو على حياة المصريين القدماء، وليس فقط على موتهم.
وداخل المتحف، تنظر دانييل ووتون إلى حشود الأطفال والعائلات، الذين يملؤون الجناح المصري، وتقول: "أنا سعيدة حقا أن أرى ذلك المشهد، لأنه يذكرني بما شعرت به منذ سنوات. وإنه لأمر عظيم حقا، أن أرى تلك المومياوات تلهم الأجيال".
فيديو قد يعجبك: