بعد صيف ساخن.. السودانيون يستعدون لبدء مرحلة ما بعد البشير
القاهرة (مصراوي)
يستعد المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في السودان والحركة الاحتجاجية للتوقيع على اتفاق تقاسم السلطة في البلاد بعد أكثر من أربعة أشهر من إطاحة الجيش بالرئيس عمر البشر في خضم احتجاجات واسعة ضد حكمه المدعوم من الحركة الإسلامية وامتد قرابة ثلاثة عقود.
الاتفاق يأتي ليضع حدا لصيف ساخن شهده السودان، عمته احتجاجات ومفاوضات ووساطات أدت في نهاية المطاف إلى توقيع الطرفين بالأحرف الأولى على وثيقتين: الإعلان السياسي، والإعلان الدستوري، بما يؤسس لحكومة انتقالية ذات مستويات حكم ثلاثة تحكم البلاد لمدة 39 شهرا من تاريخ التوقيع النهائي المقرر في 17 أغسطس.
تضمن الاتفاق تشكيل مجلس سيادة من المدنيين والعسكريين، ومجلس وزراء تشكله قوى إعلان الحرية والتغيير التي تمثل المحتجين، فضلا عن مجلس تشريعي مما لا يزيد على 300 عضو، تكون الأغلبية فيه من ذلك التحالف الذي تشكل في يناير الماضي ويضم أطيافا عدة من أحزاب المعارضة السودانية فضلا عن حركات مسلحة خاضت شتى الحروب مع نظام البشير.
خصص الطرفان أول ستة أشهر من المرحلة الانتقالية لعملية السلام في البلاد.
من المقرر أن يحضر عدة رؤساء دول والأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي مراسم التوقيع في الخرطوم.
فيما يلي سرد لبعض تفاصيل الانتفاضة السودانية التي وضعت نهاية للبشير وحكم الحركة الإسلامية، وتعمل على وضع حجر البداية لمرحلة انتقالية تؤسس لبناء دولة مدنية ديمقراطية طالما حلم بها السودانيون:
البداية
منتصف ديسمبر الماضي، خرج آلاف السودانيون إلى الشوارع احتجاجا على رفع أسعار الوقود والخبز، وسوء الأوضاع المعيشية بشكل عام بعد قرابة ثلاثة عقود من حكم الإسلاميين.
اندلعت الاحتجاجات بداية في مدينة عطبرة، شمال العاصمة الخرطوم، المعروفة بأنها معقل السكك الحديدية في البلاد، ثم انتشرت إلى مختلف أنحاء البلاد بما في ذلك الخرطوم.
قابلت قوات الأمن الاحتجاجات بعنف شديد، ما دعا المزيد من السودانيين إلى المشاركة في المظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي كانت تنتشر بشكل أفقي في القرى والأحياء لتجنب القمع الأمني.
مع ازدياد العنف ومواصلة حزب المؤتمر الوطني الحاكم مسعاه لتعديل الدستور حتى يسمح للرئيس عمر البشير أن يترشح في الانتخابات الرئاسية المقررة في 2020، بدأ المحتجون في المطالبة بتنحي الرئيس الإسلامي الذي تولى السلطة إثر انقلاب عسكري دعمه الإسلاميون في 1989.
بمرور الأيام انضمت أحزاب وجماعات أخرى إلى الحركة الاحتجاجية الوليدة التي كان يقودها تجمع المهنيين السودانيين المؤلف من اتحادات عمالية ومهنية، حتى تشكل في يناير الماضي إعلان الحرية والتغيير وقعه أكثر من 100 حزب وحركة في السودان.
في فبراير، أعلن البشير حالة الطوارئ في البلاد وحل الحكومة، غير أن تلك الإجراءات لم تثبط من عزم المحتجين الذين نزلوا إلى الشوارع متحدين الطوارئ وحظر التجوال.
ظلت الأوضاع تسير على هذا المنوال: احتجاجات يقابلها قمع دموي، حتى جاءت بارقة أمل للسودانيين إثر نجاح المحتجين الجزائريين في إرغام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة على الاستقالة بعد نحو عقدين في الحكم بعد أن تدخل الجيش.
الإطاحة بالبشير
أحدثت استقالة بوتفليقة زخما في الاحتجاجات السودانية؛ إذ أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير عن تسيير مواكب ضخمة إلى مقر قيادة الجيش في الخرطوم في السادس من أبريل، الذي يوافق ذكرى انتفاضة عام 1985 التي أطاحت بنظام الرئيس آنذاك جعفر النميري.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يصل فيها المحتجون إلى مقر قيادة الجيش. ردد المحتجون هتافات "جيش واحد، شعب واحد" للمطالبة بدعم الجيش للإرادة الشعبية بإزاحة البشير.
في ذلك اليوم، أعلن المحتجون اعتصامهم أمام مقر قيادة الجيش، مطالبين الجنود بحمايتهم من عنف قوات الشرطة وكتائب الظل التي عمل البشير والإسلاميون على تشكيلها بعيدا عن قوات الجبش النظامية.
ظل المحتجون في اعتصامهم رغم محاولات قوات الأمن فض الاعتصام أكثر من مرة، حتى جاء الحادي عشر من أبريل وأعلن الجيش "اقتلاع" النظام القائم والتحفظ على البشير وأركان حكمه، بعد أن قتل قرابة 100 شخص خلال الاحتجاجات.
أعلن الجيش تشكيل مجلس عسكري يقوده وزير الدفاع آنذاك عوض بن عوف، إلا أن المحتجين عارضوا ذلك بشدة وطالبوا باستقالة بن عوف على اعتبار أنه من الإسلاميين المقربين من البشير.
لم تمض سوى ساعات حتى استقال بن عوف ونائبه رئيس أركان الجيش كمال عبدالمعروف الماحي.
تولى الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري، وأعلن الفريق أول محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، نائبا له. وكان البرهان ودقلو، المعروف باسم "حميدتي" قد زارا مقر الاعتصام والتقيا مع المحتجين وتعهدا بحمايتهم مما زاد من شعبيتهما.
مفاوضات وعثرات
رغم الإطاحة بالبشير وبن عوف من ورائه، إلا أن المحتجين رفضوا فض اعتصامهم حتى تسليم السلطة إلى المدنيين وعودة الجيش إلى ثكناته.
انخرط المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير في مفاوضات على المرحلة الانتقالية: طالب المجلس العسكري بفترة انتقالية أقصاها عامان غير أن قوى الاحتجاج قالت إنها تريد فترة أربع سنوات قبل إجراء انتخابات عامة.
مع جولات وجولات من المفاوضات بين الطرفين توصل الجنرالات والمحتجون إلى اتفاق حول مستويات حكم ثلاث تحكم البلاد فترة انتقالية تمتد لثلاث سنوات.
شمل الاتفاق تشكيل مجلس وزراء يضطلع بالمهام التنفيذية تشكله قوى إعلان الحرية والتغيير، ومجلس تشريعي يكون للمحتجين الأغلبية (67%) على أن تكون النسبة الباقية (33 %) من نصيب القوى السياسية الأخرى التي لم تكن مشاركة في حكومة البشير، وأيضا يكون اختيار الأعضاء بالتشاور مع قوى إعلان الحرية والتغيير.
كان ذلك انتصارا للحركة الاحتجاجية.
بقيت نقطة مفصلية: مجلس السيادة. طالب المحتجون بأن تكون مهام المجلس شرفية وأن يشتمل على تمثيل عسكري محدود، بيد أن المجلس العسكري طالب بأن تكون له الأغلبية وقيادة المجلس مع سلطات واسعة بحجة أن البلاد في ظرف أمني دقيق بعد الإطاحة بالبشير.
ضربة قاصمة
ظلت المفاوضات تراوح مكانها حول مجلس السيادة، حتى جاء الثالث من يونيو وفضت قوات الأمن على رأسها قوات الدعم السريع الاعتصام أمام قيادة الجيش، موجهة ضربة قاصمة لقوى إعلان الحرية والتغيير، خاصة بعد أن قطع خدمة الإنترنت في مختلف أنحاء البلاد بحجة أنه يشكل "تهديدا للأمن القومي".
قال المجلس العسكري إنه لم يأمر بفض الاعتصام إنما كانت المهمة هي "تنظيف" منطقة كولومبيا الخارجة عن القانون في محيط منطقة الاعتصام، وهو ما رفضه المحتجون، وطالبوا باستقالة المجلس بأكمله.
كان فض الاعتصام نقطة تحول في مسار العلاقة بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير التي أعلنت على الفور تجميع المفاوضات مع الجيش وطالبت بلجنة تحقيق دولية في فض الاعتصام وما جرى في مختلف أنحاء البلاد.
رد المجلس العسكري بإلغاء كافة الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع المحتجين وتنظيم انتخابات عامة في غضون تسعة أشهر.
انقطع التواصل بين قادة الاحتجاج وقواعدهم بشكل شبه تام. انزوى الناشطون خوفا من الاعتقال، وبدأوا في العودة إلى سيرتهم الأولى تسير الاحتجاجات مع بدء اندلاع الانتفاضة.
حاول المحتجون أكثر إعادة رص صفوفهم والنزول إلى الشوارع مرة أخرى، غير أن قوات الأمن كانت قد أحكمت سيطرتها على الشوارع وبدأت في حملة قمع شديدة ضد من يحاول تنظيم أية مظاهرة.
يقول منظمو الاحتجاجات إن أكثر من 128 شخصا قتلوا خلال نحو ثلاثة أسابيع من القمع الأمني الشديد، غير أن السلطات تقول إن الحصيلة بلغت 61 شخصا بينهم ثلاثة من قوات الأمن.
وساطات إقليمية
مع الانسداد السياسي وتمسك كل طرف بموقفه، دخلت على الخط دول إقليمية والاتحاد الأفريقي، وزار رئيس الوزراء الإثيوبي الإصلاحي أبي أحمد، الخرطوم والتقى مع الطرفين، في محاولات حثيثة لتقريب وجهات النظر وجمع المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير على طاولة التفاوض مرة أخرى.
قادت إثيوبيا والاتحاد الأفريقي هذه الجهود.
أعلن المجلس العسكري استعداده للعودة للتفاوض. إلا أن قادة الاحتجاج وضعوا قائمة من الشروط قبل أن يجلسوا على طاولة واحدة مع المجلس العسكري.
اشتملت هذه الشروط على تشكيل لجنة تحقيق دولية في الانتهاكات وقتل المحتجين منذ الإطاحة بالبشير في 11 أبريل؛ إعلان المجلس العسكري الالتزام بما تم التوصل إليه من اتفاقات من قبل (مجلس الوزراء، المجلس التشريعي ومدة الفترة الانتقالية)، إضافة إلى إعادة خدمة الإنترنت وإطلاق سراح كافة السجناء السياسيين.
رفض المجلس العسكري تشكيل لجنة تحقيق دولية وقال إن هناك لجنة شكلها الجيش بالإضافة إلى تحقيق يجريه النائب العام في فض الاعتصام، كما أنه لم يُرجع خدمة الإنترنت إلا بعد أكثر من شهر من فض الاعتصام.
نشطت الواسطة الإثيوبية والأفريقية، وقدم المبعوث الإثيوبي محمود درير وثيقة بمقترحات لإعادة الطرفين إلى التفاوض.
قبل المحتجون الوثيقة الإثيوبية إلا أن المجلس العسكري راوغ وقال إنه اتفق مع المبعوثين الأفريقي والإثيوبي على تقديم وثيقة موحدة.
بعد عدة أيام تقدم المبعوثان بوثيقة جديدة موحدة إلى الطرفين، اللذين أعلنا موافقتهما عليها وعادوا إلى المفاوضات مرة أخرى.
قبل العودة الرسمية كان الطرفان قد اجتمعا في منزل رجل أعمال سوداني بارز في الخرطوم بحضور دبلوماسيين من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة. في ذلك الاجتماع وضع الطرفان أسس اتفاق تقاسم السلطة.
طوق نجاة
قبيل جولة التفاوض الأولى بين المجلس العسكري والمحتجين، نظمت قوى الحرية والتغيير احتجاجات حاشدة في مختلف أنحاء البلاد، كانت الأضخم منذ بدأت الانتفاضة. قتل في هذه الاحتجاجات 11 شخصا بحسب منظمي المظاهرات.
كانت الاحتجاجات بمثابة طوق نجاة لقوى الحرية والتغيير بعد أسابيع من جهود قام بها المجلس العسكري للإيحاء بأن هذه القوى لا تمثل كل الشارع السوداني.
جلس الطرفان وناقشا الوثيقة ووافقا عليها، وبقي أن يُصيغها خبراء في صورة قانونية حتى يوقعا عليها.
حل الطرفان خلافهما حول المجلس السيادي؛ إذ اتفقا على أن يتشكل من 5 عسكريين ومثلهم من قوى إعلان الحرية والتغيير، فضلا عن عضو آخر مدني حتى يضفي صيغة المدنية على المجلس.
كما اتفقا على رئاسة دورية للمجلس خلال مرحلة انتقالية تزيد قليلا على ثلاث سنوات: أول 21 شهرا رئاسية عسكرية، تليها رئاسة مدنية لمدة 18 شهرا.
أيضا اتفقا على تشكيل مجلس وزراء تكنوقراط تختاره قوى الحرية والتغيير، وإرجاء تشكيل المجلس التشريعي لمدة ثلاثة أشهر، على أن تخصص الستة أشهر الأولى من المرحلة الانتقالية التي تبدأ مع التوقيع النهائي على الاتفاق لمفاوضات السلام مع الحركات المسلحة في منطقة دارفور وغيرها من المناطق في السودان.
وأعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير يوم الخميس ترشيح الدكتور عبدالله حمدوك، الخبير الاقتصادي المعروف، لرئاسة الحكومة خلال الفترة الانتقالية مع تعهدات بتوفير الدعم الكامل له ولحكومته.
فيديو قد يعجبك: