مفاوضات سد النهضة مسدودة.. كيف فرضت إثيوبيا سياسة الأمر الواقع بالتسويف؟
كتبت- رنا أسامة:
لا تزال لعنة الفشل تُلاحِق مفاوضات سد النهضة، بعد قُرابة أكثر من شهر على دخول الولايات المتحدة على خط الوساطة بين القاهرة وأديس أبابا والخرطوم، مع استمرار "تعنّت الجانب الإثيوبي وتبنيه مواقف مُبالغا فيها؛ بهدف فرض سياسة الأمر الواقع"، حسبما أكّدت مصر في بيان صادر عن وزارة خارجيتها، لتنتهي مُجددًا إلى "طريق مسدود" للمرة الرابعة خلال 6 أعوام، دون تقدّم ملموس يفضي إلى اتفاق "عادل ومُستدام" يُرضي مصالح الأطراف كافة.
فعلى مدار 5 جولات من المفاوضات الثلاثية التي جرت مؤخرًا حول السد، برعاية الإدارة الأمريكية والبنك الدولي، لم تتوانَ إثيوبيا عن التشبّث بموقفها المتعنت، ونهجها القائم على التسويف والمُماطلة، وهدر الوقت لحين بدء ملء السد في يوليو المُقبل، وهو الأمر الذي ترفضه مصر بشدة، مؤكّدة في أكثر من مناسبة أن "تشغيل السد لا يجوز بفرض الأمر الواقع".
انطلق أول الاجتماعات الثلاثية حول السد - برعاية الولايات المتحدة- في واشنطن في 6 نوفمبر الماضي، بحضور وزير الخزانة الأمريكي ستيفن مونشن وممثل عن البنك الدولي، كمُراقبين للاجتماعات.
جاء ذلك بناءً على دعوة مصرية لإشراك وسيط دولي، إثر تعثّر مُباحثات الخرطوم التي انعقدت في وقت سابق من العام الماضي.
كُلّل ذلك الاجتماع- الذي كان يُنظر إليه على نطاق واسع بأنها "بارقة أمل" لكسر جمود المفاوضات- بالاتفاق على عدد من البنود، لعلّ أبرزها تحديد مُهلة حتى 15 يناير 2020 للتوصل لاتفاق نهائي، وفي حال تعثّرت المفاوضات- كما حدث بالفعل- يتم الاستناد إلى المادة العاشرة من اتفاق "إعلان المبادئ" لعام 2015.
وصفه وزير الخارجية الإثيوبي جيدو أندرجاتشو بأنه "مُفيد، وأزال التشويش، وعكس موقف بلاده الثابت" مما وصفه بـ"الاستخدام العادل لمياه النيل" من خلال السد المُخطط لأن يكون أكبر سد في أفريقيا لتوليد الطاقة الكهرومائية بمجرد الانتهاء منه، وفق إذاعة "فانا" الإثيوبية.
وتفعيلًا لنتائج ذلك الاجتماع، أُجريت 4 جولات تفاوضية أخرى على مستوى وزراء الموارد المائية والوفود الفنية بالدول الثلاث؛ اثنتان في أديس أبابا، وثالثة بالقاهرة، ورابعة في الخرطوم، بمشاركة ممثلي الولايات المتحدة والبنك الدولي كمراقبين، إضافة إلى اجتماعين في واشنطن عُقِدا في 9 ديسمبر و13 يناير، لإعلان ما تم الاتفاق عليه خلال تلك الجولات، لكن جميعها باءت بالفشل.
أبرز النقاط الخلافية
تختلف مصر وإثيوبيا حول قواعد ملء وفترات تشغيل السد، وقواعد التعامل مع الجفاف، والجفاف الممتد خلال فترات الملء، وتوليد الطاقة الكهرومائية وتحقيق التنمية الإثيوبية المنشودة دون إلحاق الضرر بدول المصب.
وعلى مدى الجولات التفاوضية السابقة، تواصل أديس أبابا التلويح بملء السد بشكل أحادي على نحو يُخالف القانون الدولي ويمسّ حصة القاهرة من مياه النيل.
تطالب مصر بأن تمتد فترة ملء السد إلى 10أعوام مع الأخذ في الاعتبار سنوات الجفاف، فيما تتمسك إثيوبيا بفترة من 4 إلى 7 أعوام، حال انخفاض هطول الأمطار في المرتفعات الإثيوبية، وذلك بدلًا من عامين إلى 3 أعوام، حسبما نقل موقع "إزيجا" الإثيوبي عن عضو فريق التفاوض الإثيوبي المهندس جيديون أصفاو.
وفي وقت سابق، اقترحت مصر تمرير ما لا يقل عن 40 مليار متر مكعب من المياه سنويًا من السد، بينما جاء المُقترح السوداني بتمرير 35 مليارًا، في حين اقترحت إثيوبيا تمرير 31 مليارًا.
ورغم عدم إحراز تقدّم يُذكر في أيٍ من الجولات، كانت إثيوبيا والسودان تُغرّدان خارج سِرب الإقرار بالفشل والتعثّر. فبعد أولى الاجتماعات الفنية بأديس أبابا، تحدّث وزير الموارد المائية والري السوداني ياسر عباس عن "تقدّم وتوافق ثُلاثي حول القضايا الخلافية".
وقال عباس إنه "تم التفاوض على أن ملء الخزان في فترة زمنية قد تصل إلى 7 أعوام وفق هيدرولوجية نهر النيل الأزرق"، مُشيرًا إلى أن التفاوض شمل مسألة التشغيل الدائم للسد وتأثيراته على منظومة السدود في مصر والسودان"، حسبما نقلت صحيفة "السوداني" واسعة الانتشار في الخرطوم في تقرير نشرته في نوفمبر من العام الماضي.
وهو ما نفاه عضو بالوفد المصري المُشارك في المفاوضات. وقال في وقت سابق لمصراوي إن "الحديث عن الاتفاق على 7 أعوام لملء الخزان غير حقيقي"، مُضيفًا أن "ما تم التوافق حوله أن يكون الملء على مراحل وليس أعوام".
الأمر ذاته تكرّر بعد ثاني جولة من الاجتماعات الفنية؛ إذ قال عضو فريق التفاوض الإثيوبي إن مصر والسودان وافقتا على اقتراح أديس أبابا ببدء ملء خزان السد في يونيو 2020، حيث تهطل الأمطار بغزارة على المرتفعات الإثيوبية في هذا التوقيت، وفق موقع "إزيجا" الإثيوبي.
بيد أن عضو بالوفد المصري المشارك في المفاوضات دحض ذلك، مُعتبرًا أن "مثل هذه الأحاديث غير مفهومة بالمرة". وأضاف لمصراوي: "كل ما حدث في الاجتماع كان عرضًا لأجندة كل دولة، إذ تعلّق المُقترح المصري بحالة نهر النيل والتعاون الثنائي في عملية ملء السد"، مؤكدًا أن الاجتماع خرج دون توافق نهائي على هذه النقاط.
وفي خِتام الجولة الثالثة من الاجتماعات الفنية بالخرطوم، عاد وزير الري السوداني ليؤكّد ما دحضه الجانب المصري، مُعلنًا "تقارب ثلاثي كبير حول ملء وتشغيل السد". وقال عباس إن "الدول الثلاث قدّمت مقترحات حول الملء الأوّلي والتشغيل السنوي للسد، مع استعراض تعريفات الجفاف والجفاف المستمر والإجراءات اللازمة لتشغيله".
رغم ذلك التعثّر، أعلنت إثيوبيا في خِتام الجولة الرابعة بأديس أبابا في وقت سابق من الشهر الجاري، أنها ستبدأ في ملء السد بحلول يوليو المُقبل، زاعمة تقديم مصر مُقترح لملء السد في فترة تمتد من 12 إلى 21عامًا. وقال وزير المياه الإثيوبي سيلشي بيكلي إن "مصر جاءت إلى المفاوضات من دون نية للتوصل إلى اتفاق".
وهو ما استنكرته مصر جملة وتفصيلًا واصفة ما جاء في فحواه بـ"المغالطات". وأكّدت في بيان شديد اللهجة صادر عن وزارة خارجيتها أنها "لم تُحدد عدد من السنوات لملء السد، وإنما تم الاتفاق منذ أكثر من عام على ملئه على مراحل اعتمادًا على الإيراد السنوي للنيل الأزرق".
وقالت مصر إن الاجتماعات الوزارية الأربعة "لم تُحقق تقدمًا ملموسًا بسبب تعنت إثيوبيا ومحاولتها فرض الأمر الواقع دون قيد أو شرط ودون أدنى ضمانات حقيقية تُراعي المصالح المائية لدول المصب.."، مؤكدة انخراطها في المفاوضات "بحسن نية وبروح إيجابية من أجل التوصل لاتفاق عادل ومتوازن يحقق المصالح المشتركة للبلدين".
وأوضحت أن مُقترحه يفضي إلى "ملء السد خلال 6 أو 7 أعوام إذا كان إيراد النهر متوسطًا أو فوق المتوسط خلال فترة الملء، أما في حالة الجفاف، فيُمكن للسد توليد 80 بالمائة من قدرته الإنتاجية من الكهرباء، بما يعني تحمل الجانب الإثيوبي أعباء الجفاف بنسبة ضئيلة".
وفي ظل هذا التعثّر، يُصبح الاحتكام إلى المادة العاشرة من "إعلان المبادئ" لعام 2015 الخيار الوحيد للخروج من عُنق الزجاجة.
علامَ تنص المادة العاشرة؟
تحمل هذه المادة من اتفاق "إعلان المبادئ" الموقّع قبل 5 أعوام اسم "مبدأ التسوية السلمية للمنازعات". ويحدد ذلك الاتفاق مسارًا وجدولًا زمنيا للتوصل إلى اتفاق نهائي حول الأزمة. كما يحدد خطوتين تصعيديتين في حال فشلت اللجان الفنية في التوصل لاتفاق.
إذ تنص على أن "تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقًا لمبدأ حسن النوايا".
وإذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، "فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة، أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول أو رئيس الحكومة"، بحسب نص المادة.
وفي أكتوبر من العام الماضي، طالبت مصر بالاستناد إلى هذه المادة بعد تعثّر المفاوضات نتيجة "تعنّت الجانب الإثيوبي" ورفضه الأطروحات التي تضمن حماية مصالح مصر المائية.
وفي حال التزمت الدول الثلاث بهذا الاتفاق، سيحتفظ السد بـ 4.9 مليار متر مكعب من المياه في منتصف العام الجاري، وهو ما سيكون كافيًا بالنسبة لإثيوبيا لتوليد الطاقة الأولية من السد في أواخر 2020 باستخدام توربينين بسعة إجمالية تبلغ 720 ميجاوات الكهرباء، وفق تقرير سابق نشره موقع "إزيجا" الإثيوبي.
كيف استفادت إثيوبيا من تسويف المحادثات؟
في خِضم ذلك التعثّر ومع تبنّيها منحى وصفته مصر بـ"المؤسف" و"المليء بالمُغالطات"، في الوقت الذي تُطالب فيه بإشراك جنوب أفريقيا على خط الأزمة للتوسّط فيما عجزت الوساطة الأمريكية عن حله، تمضي إثيوبيا قُدمًا في عمليات بناء السد البالغ تكلفته نحو 4 مليارات دولار أمريكي.
وأعلنت إثيوبيا إنجاز نحو 70 بالمائة من عمليات بناء السد الذي وضعت حجر الأساس له في أبريل 2011، وفق تصريحات المدير العام للمشروع كيفل هورو في ديسمبر الماضي.
وأشار مدير سد النهضة الإثيوبي إلى إنفاق بلاده إلى الآن 99 مليار "بِر" إثيوبي (ما يُعادل 3.1 دولارات أمريكية)، مع الحاجة إلى 40 مليار "بِر" إثيوبي (1.2 مليار دولار أمريكي ) إضافية لإنهاء المشروع.
وكذلك، أعلن وزير المياه الإثيوبي سيلشي بيكل البدء في تخزين المياه بالسد خلال شهر يوليو المُقبل، على أن يبدأ التشغيل الأولّي له والبدء في توليد الطاقة في ديسمبر 2020، ليتم إنجازه نهائيًا بحلول 2023، وفق ما أفادت به وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية (إينا) الشهر الماضي.
في تلك الاثناء، انتهت إثيوبيا من بناء السد الاحتياطي لسد النهضة والمعروف فنيًا باسم "سد السِرج"، وملء الجزء العلوي منه بأكثر من 14 مليون متر مكعب من الخرسانة، على مساحة تزيد عن 330 ألف متر مربع، وفق تصريحات المشرف على عمليات بنائه المهندس جيرما مينجيستو، لوكالة الأنباء الإثيوبية (إينا).
أُنشئ سد "السِرج" على ارتفاع لا يزيد عن 600 متر، ويبلغ عرضه 5.2 كيلومترات. صُمِم على نحو يمنع أي تسرب للمياه الجوفية، كما تم وضع أكثر من 30 ألف غشاء بلاستيكي تحت الأرض، وفق (إينا).
وأُرجئ موعد إتمام سد النهضة 4 مرات منذ تدشيه؛ إذ كان مُخططًا إتمام بنائه في غضون 5 أعوام ليُصبح جاهزًا في 2016، ثم أُرجئ الموعد إلى نهاية 2018، وبعدها مدّدت إثيوبيا الموعد الزمني المُحتمل لإكماله لـ4 سنوات إضافية، ثم أعلنت قبل شهر اتمامه نهائيًا بحلول 2023.
فيديو قد يعجبك: