تشريح الكذبة.. كيف حاولت إيران التستر على حادث إسقاط الطائرة الأوكرانية؟
كتبت- إيمان محمود وهدى الشيمي:
بمجرد وقوع الحادث، علم المسؤولون العسكريون في إيران أنهم أسقطوا الطائرة بوينج الأوكرانية، التي قُتل 176 شخصًا كانوا على متنها، بينما كانت الحكومة والمسؤولون في طهران ينفون مسؤوليتهم عن الحادث، ويؤكدون أن تحميل الجمهورية الإسلامية مسؤولية الحادث "مؤامرة غربية تُحاك ضدهم".
اتضح رسميًا أن ضابطا بالحرس الثوري لاحظ على الرادار طائرة لم يستطع تحديد هويتها بالقرب من مطار طهران الدولي، ولم يكن لديه سوى دقائق كي يتخذ قراره، فأطلق عليها صاروخًا باليستيا ظنًا أنها طائرة أمريكية، وسط التوترات بين واشنطن وطهران، بعد الهجوم الذي شنته الجمهورية الإسلامية على قاعدتين عسكريتين تتمركز فيها قوات أمريكية وأخرى تابعة للتحالف الدولي في العراق، ردا على قتل القوات الأمريكية لقائد فيلق القدس قاسم سليماني في بغداد.
استعرضت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تسلسلاً زمنيًا لأحداث خمسة أيام، كشف حجم الانشقاق بين الحكومة والقوات المُسلحة في طهران، من خلال مقابلات مع دبلوماسيين إيرانيين ومسؤولين حكوميين حالين وسابقين من الحرس الثوري وأشخاص مُقربين من الدائرة الداخلية للمرشد الأعلى ودراسة البيانات العامة الرسمية وتقارير وسائل الإعلام الرسمية.
وتُظهر التفاصيل التي استعرضتها الصحيفة الأمريكية، قوة ونفوذ الحرس الثوري، الذي قام بتهميش الحكومة المُنتخبة خلال أزمة وطنية، خاصة وأن المسؤولين العسكريين رفضوا الكشف عما جرى لحوالي 72 ساعة، بينما كانت حركة الاحتجاجات تمتد في المدن والبلدات الإيرانية، وتتعالى الأصوات المُنددة بالحادث.
الثلاثاء
في منتصف ليل السابع من يناير، بينما كانت إيران تستعد لشن هجوم صاروخي باليستي على المواقع العسكرية الأمريكية في العراق، نشر أعضاء كبار في الحرس الثوري وحدات دفاعية مضادة للطائرات حول منطقة عسكرية حساسة بالقرب من مطار الإمام الخميني في طهران.
كانت إيران على وشك الانتقام من القصف الأمريكي لطائرة بدون طيار والتي قتلت قائد فيلق القدس قاسم سليماني، في بغداد يوم الثالث من يناير، واستعد الجيش لضربة مضادة أمريكية كانت القوات المسلحة في حالة "في حالة حرب" ، وهي أعلى حالة تأهب.
لكن في سوء تقدير مأساوي، استمرت الحكومة بالسماح للرحلات الجوية المدنية بالهبوط والإقلاع من مطار طهران.
وقال الجنرال أمير علي حجي زاده، قائد قوة الحرس الجوي في الحرس الثوري، إن وحداته طلبت من المسؤولين في طهران إغلاق المجال الجوي الإيراني وإيقاف جميع الرحلات الجوية دون جدوى.
كان المسؤولون الإيرانيون يخشون من أن يؤدي إغلاق المطار إلى إثارة حالة من الذعر الجماعي لأن الحرب مع الولايات المتحدة باتت وشيكة، كما قال أعضاء الحرس الثوري ومسؤولون آخرون لصحيفة التايمز. وأعربوا عن أملهم في أن يكون وجود طائرات ركاب بمثابة رادع ضد أي هجوم أمريكي على المطار أو القاعدة العسكرية القريبة، مما يحول فعليًا طائرات المسافرين غير المطمئنين إلى دروع بشرية.
الأربعاء
بعد بدء الهجوم الصاروخي الإيراني، أصدرت قيادة الدفاع الجوي المركزية تنبيهًا بأن الطائرات الحربية الأمريكية أقلعت من الإمارات وأن صواريخ كروز كانت متجهة إلى إيران.
سمع الضابط الذي يعمل على قاذفة الصواريخ بالقرب من المطار التحذيرات، لكنه لم يسمع رسالة لاحقة مفادها أن حالة تأهب صاروخ كروز كانت إنذارًا خاطئًا.
وقد يكون التحذير بشأن الطائرات الأمريكية خاطئًا أيضًا، إذ قال مسؤولون عسكريون أمريكيون، إنه لم تكن هناك أي طائرات أمريكية في المجال الجوي الإيراني أو بالقرب منه في تلك الليلة، بحسب ما نقلته الصحيفة.
وعندما رصد الضابط الطائرة الأوكرانية، سعى للحصول على إذن لإطلاق النار، لكنه قال إنه لم يتمكن من التواصل مع قادته لأن الشبكة "تعطلت".
أطلق الضابط -الذي لم يتم الكشف عن هويته علنًا- صاروخًا وبعد أقل من 30 ثانية أطلق الآخر.
كان الجنرال حجي زاده، غرب إيران يشرف على الهجوم على الأمريكيين، عندما تلقى الخبر، والذي قال فيما بعد في تصريح للتلفزيون الإيراني: "اتصلت بالمسؤولين وأبلغتهم بما حدث وأن هناك احتمال كبير أن نكون ضربنا طائرتنا".
وبحلول الوقت الذي وصل فيه الجنرال حجي زاده إلى طهران، كان قد أبلغ كبار القادة العسكريين الإيرانيين الثلاثة: اللواء عبد الرحيم موسوي القائد الأعلى للجيش وهو أيضًا قائد قيادة الدفاع الجوي المركزي، واللواء محمد باقري رئيس أركان القوات المسلحة، واللواء حسين سلامي القائد الأعلى للحرس الثوري.
والحرس الثوري الإيراني، هو قوة عسكرية مُكلفة بالدفاع عن الحكم الديني الإيراني في الداخل والخارج، منفصلة عن الجيش النظامي ولا ترد إلا على المرشد الأعلى.
بحسب الصحيفة، نصح اللواء حجي زاده الجنرالات بعدم إخبار وحدات الدفاع الجوي ذات الرتب والقوات خوفًا من أن يعيق ذلك قدرتها على الرد بسرعة إذا هاجمت الولايات المتحدة.
وقال حجي زاده في مقابلة مع وسائل الإعلام الإيرانية هذا الأسبوع: "كان ذلك لصالح أمننا القومي لأنه بعد ذلك سوف يتعرض نظام الدفاع الجوي لدينا للخطر.. وستكون الصفوف متشككة في كل شيء".
أنشأ القادة لجنة تحقيق سرية من قوات الحرس الجوي، والدفاع الجوي للجيش، وجهاز الاستخبارات والاستخبارات الإلكترونية، وتم عزل اللجنة والضباط المشاركين في إطلاق النار وأمروا بعدم التحدث إلى أي شخص.
الخميس
وبحلول يوم الخميس ومع بدء وصول المحققين الأوكرانيين إلى طهران، قال مسؤولون غربيون إن الأدلة التي بحوزتهم حتى الآن تُشير إلى أن إيران أسقطت الطائرة عن طريق الخطأ.
أثارت اتهامات المسؤولين الغرب حنق الحكومة الإيرانية، فأصدر المُتحدث باسم الحكومة بيانًا يُندد فيه بتلك المزاعم، وقال إنه مُجرد "مسرحية غربية" تهدف إلى اضعاف إيران بعدما استعرضت قوتها العسكرية ضد الولايات المتحدة.
وخلف الستار، كان المسؤولون الإيرانيون يتساءلون عما إذا كانت ادعاءات الغرب حقيقية، لذا أجرى الرئيس رحاني ووزير خارجيته جواد ظريف مكالمات هاتفية مع زعماء العالم ووزراء الخارجية كي يحصلون على إجابات لتساؤلاتهم، لاسيما وأن القوات العسكرية كانت شديدة التكتم حيال الحادث.
وداخل إيران، أفقد الحادث الحكومة الدعم الذي حصلت عليه بعد مقتل سليماني، وتصاعد الغضب الشعبي إزاء القيادات والمسؤولين، لاسيما مع مقتل علماء وأطباء وعشرات الشباب خريجي الجامعات من الإيرانيين مع إسقاط الطائرة، بالإضافة إلى ستة فائزين بالميداليات الذهبية والفضية في الأولمبياد الدولية للفيزياء والرياضيات.
وزادت تغطية القنوات الفضائية الفارسية التي تعمل من الخارج الطين بلّة، خاصة وأنها نقلت للمواطنين تغطية شاملة للحادث، بما في ذلك تقارير الحكومات الغربية التي تُفيد بإسقاط طهران للطائرة.
حسب ما نقلته نيويورك تايمز، فإن روحاني حاول التواصل مع القادة العسكريين عدة مرات، ولكنهم لم يردوا على مكالماته، ودعا أعضاء حكومته للتأكد من صحة مزاعم الغرب.
حسب علي ربيعي، المتحدث باسم الحكومة، فإن يوم الخميس كان قاسيًا، وأوضح، في مؤتمر صحفي، أن الحكومة أجرت مكالمات هاتفية مباشرة مع القوات المسلحة تسألها عما حدث، وأجابوها بأنها لم يتم إطلاق صاروخ، وأنهم لم يسقطوا الطائرة.
الجمعة
أصدر ربيعي، الجمعة، بيانًا أكد فيه أن ما يرتدد عن إسقاط طهران للطائرة ما هو إلا كذبة كبيرة. وبعد عدة ساعات، دعا كبار القادة العسكريين إلى اجتماع خاص مع روحاني، وأخبروه بالحقيقة.
سيطر الغضب على روحاني، حسب مسؤولين مُقربين منه، وطالب بالكشف الفوري عن هذه التفاصيل، والبوح بأنه قد تم ارتكاب خطأ جسيمًا وأن طهران مُستعدة لتحمل العواقب.
حاول القادة العسكريون إقناع الرئيس بالعدول عن موقفه، والتستر على الخطأ، بحجة أن الكشف عن إسقاطهم للطائرة سيزعزع استقرار البلاد.
هدد روحاني بالاستقالة. قال، حسب نيويورك تايمز، إن كندا، التي حمل أغلب ضحايا الحادث الأجانب جنسيتها، والولايات المتحدة، موطن بوينج، جرى دعوتهما للتحقيق في الحادثة، وأكد أنهما ستتمكنان من العثور على الأدلة في النهاية.
وحذر الرئيس الإيراني من أن الحادث سيُلحق الكثير من الأضرار بسمعة طهران، ويقوّض ثقة المواطنين في حكومة بلادهم، ويخلق أزمة كبيرة في وقت لن تتحمل فيه طهران المزيد من الضغط.
بينما تتصاعد حدة الخلاف بين روحاني والقادة العسكريين، قالت نيويورك تايمز إن عضوا مقربا من خامنئي أبلغه بما يحدث، فأرسل الأخير رسالة للجميع يطالبهم بالاستعداد لنشر بيان مُفصل يعترفون به بما حدث.
على الفور، عقد مجلس الأمن القومي الإيراني اجتماعًا طارئًا وصاغ بيانيين، الأول صدر عن القوات المسلحة المشتركة، والثاني صدر عن الرئيس روحاني.
أثناء صياغة البيانات، اقترح مسؤولون - حسب نيويورك تايمز- إلقاء اللوم على الولايات المتحدة وإسرائيل، والإشارة إلى أنهما حاولتا اختراق شبكات الاتصالات الإيرانية، ما أدى إلى تشويش الرادارات، وهو ما عارضه القادة العسكريون.
السبت
في السابعة صباحًا، أصدرت القوات المُسلحة الإيرانية بيانًا رسميًا اعترفت فيه بإسقاط الطائرة بسبب "خطأ بشري"، غير أن تحمل مسؤولية إسقاط الطائرة لم يُنهي حالة الانقسام بين المسؤولين في الحكومة.
أفاد مسؤولون بأن الحرس الثوري الإيراني أراد إلقاء اللوم على المتورطين في إطلاق الصواريخ والانتهاء من هذا الأمر. حسب الإعلام الإيراني فإنه اُلقي القبض على مشغل الصواريخ و10 آخرين على علاقة بالحادث، ولكنه حتى الآن لم يُكشف عن هوياتهم، ولم يتضح ما إذا كانت الحكومة وجهت إليهم تهمًا أم لا.
فيما طالب روحاني بعقاب كل من له علاقة بالحادث، وقال إن تحمل الحرس الثوري المسؤولية ما هو إلا خطوة أولى، ويجب إكمالها بخطوات أخرى. وطالب المُتحدث باسم الرئيس الإيراني وغيره من السياسيين بمعرفة أسباب عدم ابلاغه بما حدث على الفور.
كشف اعتراف الحرس الثوري حالة الانقسام الشديدة في الحكومة الإيرانية، حسب نيويورك تايمز فإنه في الوقت الذي كان يبحث فيه العالم عن إجابات وتفسيرات لإسقاط الطائرة، كانت الأكاذيب تنتشر بين المسؤولين الإيرانيين.
قال حسام الدين أشنا، كبير مستشاري روحاني، على تويتر: "ما اعتقدنا أنه خبر كان كذبة، وما اعتقدنا أنه كذبة كان خبرًا، لماذا؟ لماذا؟ احذروا من التستر والحكم العسكري".
فيديو قد يعجبك: