لماذا يستعرض إردوغان عضلاته في الخارج؟
(بي بي سي):
بعد تحول الصراع طويل الأمد في جنوب القوقاز إلى حرب مفتوحة أواخر الشهر الماضي، تدخلت تركيا لدعم حليفتها أذربيجان. أمدت تركيا أذربيجان بالسلاح، كما تدور مزاعم بشأن إرسالها مقاتلين من سوريا، وهو ما تنفيه أنقرة.
وخلافاً لأغلب القوى الخارجية التي دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، دعا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان نظيره الأذربيجاني إلهام علييف لمواصلة القتال.
وما القوقاز إلا مغامرة جديدة لتركيا التي امتدت تدخلاتها العسكرية من سوريا لتعبر البحر المتوسط.
أين تتدخل تركيا؟
خلال السنوات الماضية قامت تركيا بـ:
شن ثلاث عمليات توغل عسكرية في سوريا
إرسال إمدادات ومقاتلين إلى ليبيا
نشر قواتها البحرية في شرق المتوسط لتأكيد مزاعمها بشأن حقوقها في المنطقة
توسيع عملياتها العسكرية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني شمال العراق
إرسال تعزيزات عسكرية إلى آخر معاقل المعارضة السوية في إدلب
التهديد مؤخراً بشن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا لمواجهة "الجماعات المسلحة الإرهابية"
ولدى تركيا كذلك وجود عسكري في قطر والصومال وأفغانستان وقوات لحفظ السلام في البلقان. ويعتبر وجودها العسكري العالمي حالياً الأكبر منذ أيام الإمبراطورية العثمانية.
ماذا وراء السياسة الخارجية الجديدة لتركيا؟
يعد اعتماد تركيا على القوة العسكرية لتأمين مصالحها حجر الزاوية لعقيدة سياستها الخارجية الجديدة التي تتطور منذ عام 2015.
وتشكك العقيدة الجديدة في العمل المشترك، وتدفع تركيا نحو التحرك بشكل أحادي حين يقتضي الأمر.
هي عقيدة مناهضة للغرب، وتؤمن بأنه في انحسار وأنه يتعين على تركيا أن تقيم علاقات وثيقة بدول كروسيا والصين.
وهي عقيدة ترفض النظام الذي خلفته الحرب العالمية الثانية ويهيمن عليه الغرب، وتدعو إلى إصلاح المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، لإعطاء صوت لدول أخرى بخلاف الدول الغربية.
وترى عقيدة السياسة الخارجية الجديدة أن تركيا دولة محاطة بالأعداء وتخلى عنها الحلفاء الغربيون. لذا تدفعها نحو انتهاج سياسة خارجية استباقية تقوم على أساس استخدام القوة العسكرية الوقائية خارج حدودها.
ويعد هذا النهج أبعد ما يكون عن تركيز تركيا السابق على الدبلوماسية والتعاون التجاري والثقافي في علاقاتها مع الدول الأخرى. ويأتي هذا التغيير نتيجة لتطورات محلية ودولية عدة.
ما الذي تغير؟
بدأت العقيدة التركية الجدية تتشكل عام 2015، حين فقد حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية لأول مرة منذ عقد كامل بسبب تنامي التأييد لحزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد.
وفي سبيل استعادة أغلبية الحزب الحاكم، شكل إردوغان تحالفاً مع القوميين الأتراك من اليمين واليسار على حد سواء.
وقد أيده القوميون حين استأنف المعركة ضد المسلحين الأكراد.
كيف تحول التركيز إلى الأكراد؟
توقف صراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني إلى حد كبير بعد دعوة زعيمه المعتقل عبد الله أوجلان إلى هدنة مع الدولة التركية عام 2013.
ورغم الاختلافات الأيديولوجية يؤيد كل من حزب الحركة القومية اليميني والقوميون الجدد اليساريون نهج اليد الثقيلة في التعامل مع المشكلة الكردية. كما أنهم يعطون الأولوية للأمن القومي في الداخل والخارج ويتبنون وجهات نظر معادية للغرب بشدة.
وبدعم هؤلاء، قام إردوغان بتحويل نظام البلاد من برلماني إلى رئاسي يمنحه سلطات واسعة.
وصار تحالفه مع القوميين وتوطيد سلطاته العامل المحرك الرئيسي لسياسة تركيا الخارجية أحادية الجانب، العسكرية الحازمة.
وقد لعبت محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 دوراً رئيسياً في هذه العملية.
كيف غير الانقلاب الخطاب؟
وفقاً للرئيس إردوغان، فإن محاولة الانقلاب الفاشلة يقف وراءها عبد الله غولن حليفه السابق رجل الدين الإسلامي المقيم في المنفى الاختياري في بنسلفانيا بالولايات المتحدة. وقد مهدت المحاولة الطريق أمام السياسة الخارجية العسكرية لتركيا. إذ عززت تحالفه مع القوميين. كما طالت حملة التطهير التي شنها ضد الموظفين المدنيين المشتبه في صلاتهم بحركة غولن نحو 60 ألف شخص، تم عزلهم أو سجنهم أو فصلهم من الجيش أو القضاء أو مؤسسات أخرى بالدولة.
وتم سد الفراغ الذي خلفته حملة التطهير بموظفين من الموالين لأردوغان أو أنصار القوميين.
كما عزز الانقلاب خطاب التحالف القومي القائم على أن تركيا محاصرة بالأعداء المحليين والأجانب، وأن الغرب جزء من المشكلة. وقد برر ذلك التحرك الأحادي مدعوماً بالانتشار الوقائي للقوة الصلبة خارج حدود تركيا.
كيف تغير النهج في سوريا؟
أدى القرار الذي اتخذه نظام الأسد بإطلاق يد أكراد سوريا شمال البلاد إلى قيام منطقة حكم ذاتي للأكراد بطول الحدود التركية وفي عام 2014 قررت الولايات المتحدة إرسال أسلحة للمسلحين الأكراد الذين تعتبرهم تركيا تنظمياً إرهابيا. وقد ساعد ذلك في تعزيز الخطاب القائل بضرورة تحرك تركيا منفردة ونشر قوات عسكرية لحماية حدودها.
كما مهد الانقلاب الفاشل الطريق أمام توطيد السلطة في يد إردوغان. ومن خلال حملات التطهير قام بإفراغ المؤسسات وتهميش اللاعبين الرئيسيين في صنع السياسة الخارجية، كوزارة الخارجية، إلى جانب إضعاف الجيش الذي رفض في السابق الاستجابة لدعواته بشن عمليات عسكرية في بلدان مجاورة.
وقبل محاولة الانقلاب، كان إردوغان قد ألمح إلى نيته شن عمية عسكرية في سوريا لوقف "التهديد الإرهابي" الذي يمثله المسلحون الأكراد هناك، غير أن الجيش التركي -الذي عُرف بحذره إزاء نشر القوات خارج حدود البلاد- عارض الخطوة.
وبعد أشهر قليلة من محاولة الانقلاب، حقق إردوغان مراده، وأطلقت تركيا عام 2016 أول عملية عسكرية في سوريا للحد من نفوذ الأكراد في الشمال، ثم أعقبتها عمليتان.
وقوبلت الخطوة بتأييد حلفاء الرئيس من القوميين الذين يخشون قيام دولة كردية مستقلة على حدود تركيا بمساعدة الولايات المتحدة.
وفي سبيل الحد من النفوذ الكردي، وموازنة الوجود الأمريكي في سوريا، قرر إردوغان العمل مع روسيا.
كيف حولت تركيا تركيزها إلى ليبيا وشرق المتوسط؟
أصبحت ليبيا مسرحاً جديداً لسياسات القوة الصلبة.ففي يناير، صعدت تركيا دعمها العسكرية للحكومة الليبية المدعومة من الأمم المتحدة برئاسة فايز السراج، في مسعى لوقف هجوم القوات الموالية للقائد العسكري خليفة حفتر.
وتركز الهدف الأساسي لتركيا في ليبيا على تأمين دعم حكومة السراج في أمر يهم حلفاء أردوغان القوميين، وهو شرق المتوسط.
فتركيا على خلاف مع اليونان وقبرص بشأن حقوق التنقيب عن مصادر الطاقة قبالة جزيرة قبرص المقسمة، وكذلك حول الحدود البحرية في المنطقة.
ووقعت أنقرة اتفاقاً لتحديد الحدود البحرية مع السراج في نوفمبر الماضي، مقابل توفير الدعم العسكري لحكومة طرابلس. وكان هدف إردوغان يتمثل في إعادة رسم الحدود البحرية في شرق المتوسط، والتي -من وجهة نظره- تمنح مزايا غير عادلة لليونان وقبرص.
وفي الوقت نفسه، أرسلت تركيا سفناً حربية لحماية سفن التنقيب في شرق المتوسط، ما هدد باندلاع مواجهة مع اليونان شريكتها في الناتو.
هل نجحت؟
سياسة تركيا الحازمة في سوريا وليبيا وشرق المتوسط لم تحقق بعد النتائج التي كان يأمل فيها تحالف اردوغان الحاكم.
فتركيا لم تتمكن من إخلاء حدودها مع سوريا بالكامل من المسلحين الأكراد. وكذلك لم تسفر اتفاقية أنقرة البحرية مع ليبيا أو تصرفاتها في شرق المتوسط عن تغيير الوضع القائم بالنسبة لتركيا في المنطقة.
وعلى العكس، أدى التدخل العسكري التركي في هذه الصراعات إلى تعزيز الآراء المناهضة لأردوغان في الغرب، وتوحيد صفوف عدد من الأطراف الفاعلة في مواجهة السياسات الأحادية التركية، مما أجبر الرئيس التركي على التراجع.
ماذا بعد؟
حلفاء إردوغان من القوميين يريدونه أن يواصل القتال، ويزعم القومي الجديد البارز الأدميرال المتقاعد جهاد يايجي أن اليونان تريد غزو غرب تركيا، وحث إردوغان على عدم الجلوس أبداً على طاولة المفاوضات مع أثينا. أما الرئيس فليس لديه خيارات سوى أن يستمع إليه. فكلما تراجعت شعبيته بحسب استطلاعات الرأي، زادت ضغوط القوميين عليه على الصعيدين الداخلي والخارجي.
فيديو قد يعجبك: