كيف انحرف الانتقال الديمقراطي في إثيوبيا لديكتاتورية الرجل الواحد؟.. تأملات جوهر محمد
كتبت- رنا أسامة:
في مقال مُطوّل بعنوان "كيف تحوّل الانتقال الديمقراطي لإثيوبيا عن مساره؟.. تأملات لجوهر محمد"، فصّل المعارض الإثيوبي البارز كيف دخلت البلاد في مُفترق طرق، لتمضي قُدمًا نحو ما أطلق عليه "ديكتاتورية الرجل الواحد"، تحت مِظلة رئيس الوزراء الحائز على جائزة نوبل للسلام آبي أحمد.
وعزا جوهر، أبرز وجوه المعارضة الإثيوبية المعتقَلة حاليا، ذلك إلى افتقار آبي أحمد للخبرة اللازمة لإدارة عملية انتقال ديمقراطي ناجحة، وطموحه المُفرط، وقلة استيعابه لسياسات البلاد المُعقّدة، وفق المقال الذي قالت صحيفة "أديس ستاندرد" الإثيوبية إنها حصلت على نسخة منه.
ونوّهت الصحيفة إلى أن المقال كُتِب قبل اعتقال جوهر في 1 يوليو الماضي، حيث يواجه وآخرون تهمًا عدة من بينها الإرهاب في المحكمة الفيدرالية، وذلك بعد أن حصلت على إذن من جانب فريق دفاع المعارض الإثيوبي. وفيما يلي نص المقال:
من تظاهرات أورومو 2014 إلى احتجاجات أورومو الكبرى 2016
تنبثق الحركة التي أحدثت التغيير الحالي في إثيوبيا، والتي اندلعت للمرة الأولى في أواخر أبريل 2014، من احتجاجات أورومو ضد ما يُعرف بـ "الخطة الرئيسية للتنمية المتكاملة في أديس أبابا". وسرعان ما امتدت الاحتجاجات التي بدأت في الجامعات إلى المدن. قابلتها حكومة الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي بعنف شديد، وقتلت المتظاهرين، لا سيّما في مدينة أمبو، معقل حركة احتجاجات أورومو. ومع ذلك، وبعد أن رأت الحكومة أن الاحتجاجات تكتسب زخمًا، أصدرت بيانات تشير إلى تراجعها ووعدت بوقف تنفيذ "الخطة الرئيسية". وعلى إثر ذلك، خفت حدة الاحتجاجات.
ومع ذلك، اندلعت الاحتجاجات للمرة الثانية في 12 نوفمبر 2015، وهذه المرة في جينشي، وهي بلدة صغيرة على بعد 80 كيلومترًا جنوب غرب العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وذلك بسبب قرار الحكومة بإخلاء غابة وملعب كرة قدم من أجل مشروع استثماري، امتدادًا لـ"الخطة الرئيسية". استمرت الاحتجاجات وتوسّعت وانتشرت في جميع أنحاء أوروميا، وجلبت المزارعين وغيرهم من قطاعات المجتمع. غذى الرد العنيف من قبل الحكومة كثافة وحجم الاحتجاجات بدلاً من قمعها.
على الرغم من أن الدافع المباشر للاحتجاجات كان "الخطة الرئيسية" لأديس أبابا، كان واضحًا أن الهدف الرئيسي إنهاء النظام القمعي ككل وتحقيق الانتقال إلى الديمقراطية. بيد أنه لم يتضح ما إذا كان هذا الهدف المُمثّل في الانتقال إلى الديمقراطية يمكن تحقيقه حتى صيف عام 2016. ومع ازدياد قوة الاحتجاجات في مواجهة الأساليب القمعية للنظام، تم اتخاذ قرار تكتيكي لاختبار وقياس عمق ومدى الحركة الاحتجاجية.
لتحقيق ذلك الهدف، تم إطلاق دعوة إلى تجمع على مستوى ولاية أوروميا، تحت هاشتاج #GrandOromoProtest (احتجاج أورومو الكبير)، الذي انطلق في 6 أغسطس 2016 بهدف وحيد: قياس قوة الحركة الاحتجاجية، بحيث يُمكن وضع خطط واقعية للمرحلة التالية من المقاومة.
عندما تم طرح فكرة التجمع، لم يكن المخططون والمنظمون متأكدين من جدواه، وانتابهم الخوف من العواقب الوخيمة المُحتملة حال فشل في تحقيق الأهداف المرجوّة، ولكن اتُخِذ قرار بالمخاطرة. كان مُقررًا أن يتم التجمع في غضون أسبوع. فشعرت الحكومة بالفزع واستنكرته موجّهة تهديدات للقائمين عليه من خلال القنوات المحلية. وفي يوم الأحد 6 أغسطس 2016، اندلعت الاحتجاجات في أكثر من 200 مدينة بجميع أنحاء أوروميا، متجاوزة حتى أفضل السيناريوهات التي توقعها المخططون والمنظمون. تماشيًا مع وحشية النظام، أطلقت قوات الأمن النار على أكثر من 200 متظاهر وأردتهم قتلى- وهي حصيلة كبيرة للغاية من الضحايا في يوم واحد.
أصبح الحشد الضخم منذ ذلك الحين علامة فارقة ونقطة تحوّل حاسمة في إثيوبيا. أثبتت أن الحركة الاحتجاجية لديها ثقلها لممارسة ضغط مستمر على مستوى الدولة والولاية. وأشار إلى أنه كان ممكنًا الانتقال إلى المرحلة التالية من الاحتجاج بدرجة معقولة من الثقة في نجاحها.
من "احتجاج أورومو الكبير 2016" إلى سيناريوهات الانتقال المتوقّعة
بهذه الثقة، بدأ التخطيط الملموس لتنفيذ الانتقال الديمقراطي في إثيوبيا. وحتى قبل الحشد الكبير، كان المخططون والمنظمون يفكرون بالفعل ويبحثون ويتناقشون حول كيفية تحقيق الانتقال. خلال هذه العملية، تم تداول نظرية صموئيل هنتنغتون حول الطرق الثلاثة الممكنة للانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية. تم دراسة كل سيناريو بعناية بالنظر إلى الظروف الموضوعية والذاتية في البلاد.
السيناريو الأول: كان يُعتقد أن الانتقال عبر الإطاحة بالنظام (الاستبدال) قابل للتحقيق ولكنه خطير للغاية. ففي بلد يتم فيه دمج الدولة والحكومة والحزب، فإن الإطاحة بالحزب المسيطر بالكامل قد يؤدي إلى انهيار الحكومة وحتى الدولة. وعلى وجه الخصوص في مثل هذا النظام السياسي المجزأ عرقيًا مع القوميات المتنافسة المحشودة والمستقطبة والمتصاعدة، كان احتمال انهيار الدولة محفوفًا بمخاطر جسيمة تدفع إلى عدم المجازفة بالانتقال عبر الإطاحة بالنظام. لذلك استُبعد هذا الخيار باعتباره شديد الخطورة.
السيناريو الثاني: الانتقال عبر المفاوضات (النقل) بين المعارضة والأحزاب الحاكمة، كان خيار آخر يُمكن تحقيقه من خلال ممارسة ما يكفي من الضغط بالعمل الاحتجاجي والحصول على دعم من المجتمع الدولي. كان يُعتقد أنه بالإمكان إقناع الحزب الحاكم بالتفاوض مع المعارضة، من أجل الاتفاق على فترة انتقالية تدار بشكل مشترك عبر خارطة طريق مُطوّرة بشكل متبادل. ورغم جاذبية هذا الخيار، اعتُبر غير صالح لسببين؛ الأول، نقص الأحزاب السياسية المعارضة ذات المصداقية والقابلة للحياة العاملة في البلاد حيث كان قادتها إما في المنفى أو في السجن. والثاني، بعد وفاة رئيس وزراء إثيوبيا الأسبق المعروف بـ"الرجل القوي" ملس زيناوي، كان الحزب الحاكم نفسه مُجزأ للغاية، مما جعل التوصل إلى صفقة ملزمة وآمنة مع أحزاب المعارضة أمرًا صعبًا. لذلك استُبعد هذا الخيار أيضًا باعتباره محفوفًا بالمخاطر.
السيناريو الثالث: يحدث الانتقال عبر الإصلاح (التحول) عندما تبدأ النخبة الحاكمة في الانتقال إلى الديمقراطية بمفردها، إما نتيجة الخوف من الثورة أو التغييرات الداخلية و/ أو الخارجية التي تجعل حكمهم الاستبدادي غير مُستدام. فيما أحدثت الظروف المتغيرة انقساما داخل الحزب الحاكم أدى إلى فصل المتشددين عن المعتدلين. وبمجرد أن يحظى المعتدلون باليد العليا، سيبدأون عملية الانتقال.
استنادًا إلى نظريات هنتنغتون وتاريخ العمل لدراسات الحالة، اتُخِذ قرار باختيار السيناريو الثالث الأخير. وتعزّز هذا القرار بفعل ثورات الربيع العربي وتداعياتها. فقد عزز انهيار ليبيا وسوريا واليمن ودخولها في حرب أهلية إيمان المحتجين الإثيوبيين بأن محاولة الانتقال من خلال الإطاحة بالنظام ستكون خطيرة للغاية؛ لأنها قد تغرق البلاد في حرب أهلية وتؤدي إلى انهيار الدولة؛ ومن ثم، تمت الدعوة إلى الانتقال عن طريق الإصلاح، علنًا وبكل ثقة.
مؤامرة استيلاء الإصلاحيين على السلطة
بعد أن اجتازت الحركة اختبار حشد 16 أغسطس الضخم، تشجّع الإصلاحيون داخل النظام للبدء في الاستيلاء على السلطة من مُتشددي جبهة تحرير شعب تيجراي والموالين لهم. حدث ذلك على مرحلتين: الاستيلاء على سلطة إقليم أوروميا حيث كانت الاحتجاجات أقوى، وبناء تحالف من المعتدلين من أعضاء الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي الحاكم، ولا سيّما أعضاء منظمة شعوب أورومو الديمقراطية (OPDO) والحركة الديمقراطية الوطنية بأمهرة (ANDM)، لإبعاد المتشددين عن السلطة الفيدرالية.
بناءً على ذلك، أدى الانقلاب الناعم إلى وصول ليما ميجرسا إلى رئاسة أوروميا. وسرعان ما تنحّى الموالون للمتشددين في جبهة التحرير الشعبية لتحرير تيجراي جانبا واستُبدِلوا بشخصيات إصلاحية. الأمر الذي صدم المتشددين وأزعجهم، ففرضوا مزيدًا من الإجراءات القمعية العنيفة وحاولوا إيقاف الزخم. في 2 أكتوبر 2016، قوّضوا علانية الرئيس الإصلاحي الجديد لأوروميا من خلال إرسال قوات الأمن لقمع محتجين في مهرجان أريشا القومي السنوي. تبع ذلك إعلان حالة الطوارئ وتكثيف حملة القمع على مدى الأشهر الستة التالية.
ومع ذلك، لم تُحدِث الطوارئ التي فرضتها الحكومة الإثيوبية وقتذاك النتيجة المرجوة لوقف الاحتجاجات وإضعاف الإصلاحيين. بل على العكس، قوّت شوكتهم. في غضون أسابيع من رفع الطوارئ، عاود المتظاهرون حملات المقاطعة وتنظيم احتجاجات وما إلى ذلك. بات جليًا أن الحركة لم تنجُ من الطوارئ فقط، وإنما استغلت أيضًا الوقت لبناء هيكل تنظيمي أفضل، فتمكّنت من العودة بقوة وثقة أكبر. بدأ الإصلاحيون، ولا سيّما ليما، ينحازون علانية إلى المتظاهرين. تحققوا من صحة روايات المحتجين، وألقوا باللوم على الحكومة في الأزمة، وخلصوا إلى أن الحل الوحيد هو معالجة مظالم المتظاهرين. بحلول صيف عام 2017، اتسع الصدع بين الإصلاحيين والمتشددين حتى وصل إلى نقطة اللاعودة.
لذلك كان لابد من تسريع عملية استيلاء الإصلاحيين على السلطة، وتبعه الترويج لتحالف أورومو-أمهرة (الذي كان يسمى آنذاك أورومارا) على المستوى الحزبي والمجتمعي. مع تنامي الاحتجاجات وترسيخ تحالف الإصلاحيين، بدأ المتشددون في الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي يفقدون الثقة وأظهروا تراجعهم.
وجهات نظر متباينة حول القائد الانتقالي
بحلول أواخر عام 2017، أظهر تقييم استيفاء الشروط الموضوعية والذاتية لاستيلاء الإصلاحيين على الحكومة بأكملها، وذلك في وقت أقرب بكثير مما كان متوقعًا. في سبتمبر 2017، سافر المنسّقون الرئيسيون لفريق الإصلاحيين إلى الخارج للتحدث مع نشطاء الشتات. ومن أبرز الموضوعات التي جرى مناقشتها أهمية الاتفاق على مرشح معين لرئاسة الوزراء.
كان الهدف من ذلك تجنب صراع محتمل على السلطة في مرحلة الحسم الأخيرة، والتي يُمكن أن يستغلها المتشددون في صراعهم على السلطة داخل معسكر الإصلاحيين. في البداية، بدا الخيار واضحًا- ليما ميجرسا (وزير الدفاع الإثيوبي المُقال مؤخرًا)- لظهوره كشخصية موحّدة في معسكر الإصلاحيين وبين النشطاء والمتظاهرين.
ومع ذلك، اقترح الفريق الأساسي داخل منظمة أورومو الديمقراطية الشعبية مرشحًا بديلًا، وهو أبي أحمد. كان منطقهم أن ليما ميجيرسا لم يكن عضوًا في البرلمان الفيدرالي وبالتالي لم يكن مؤهلاً لمنصب رئيس الوزراء. بيد أن نشطاء الشتات ومنسقي الاحتجاج المحليين لم يقبلوا ذلك.
أُرسل أبي إلى الشتات ليضغط على المعارضين حتى يُرشّحوه. سافر إلى الخارج في أكتوبر ونوفمبر 2017، حيث أمضى أسبوعين في محاولة إقناع الأكاديميين والنشطاء والمثقفين، ولكنه لم يُحقق سوى نجاحا جزئيا فقط. قال جوهر محمد "بعد محادثات أجراها (آبي أحمد) معي خلال هذين الأسبوعين، أصبحت أكثر تشككًا فيه. أبلغته بتقييمي عند مغادرته وأرسلت تقريرًا إلى منسقي فريق الإصلاحيين في إثيوبيا لشرح دوافع رفض لترشيحه"، بحسب المقال.
وفي هذا الصدد، أثرت نقطتين جوهريتين:
1- من خلال محادثاتى مع آبي، بدا واضحًا أنه يفتقر إلى الخبرة على مستوى الإدارة والسياسات المُعقدة في إثيوبيا. ونظرًا لأن إدارة الانتقال تتطلب قيادة مُختبرة جيدًا، خلصت إلى أن أبي لم يكن جاهزًا لهذا الدور.
2- أظهر آبي نقصًا مذهلاً في تقدير تعقّد سياسات الانتقال، وهو أمر بالغ الأهمية بشكل خاص في نظام حكم مجزأ مثل إثيوبيا. فالدخول في السياسة الانتقالية يعني أن البلاد ستكون في وضع حرج للغاية. لكن آلية آبي المُقترحة لإدارة العملية الانتقالية كانت مفرطة في التبسيط. وعندما اقترن ذلك بطموحه الشخصي الشديد، خلُصت إلى أن آبي غير مناسب لمنصب القيادة الانتقالية.
كنت أخشى أن قلة خبرة أبي، وطموحه الشخصي المفرط، وعدم تقديره لسياسات إثيوبيا المعقدة والقيادة الانتقالية المطلوبة، ستعرض للخطر ليس فقط التحول الديمقراطي ، ولكن أيضًا السياسات الحساسة وحتى بقاء بلدنا المقسم وهو يدخل في أكثر المراحل خطورة. لذلك اقترحت أن يتولى ليما ميجرسا زمام القيادة خلال الفترة الانتقالية التي تبلغ عامين، وأن يُعيّن جيدو أندارجاتشو (وزير الخارجية الحالي) نائبًا لرئيس الوزراء، وأن يتولى أبي منصب رئيسا للأركان.
وفي حين وافق كثيرون من أعضاء اللجنة المركزية لمنظمة شعوب أورومو الديمقراطية، والقادة العسكريين على تقييمي، رفضه الأعضاء الرئيسيون في معسكر الإصلاحيين. وشمل ذلك ليما ميجيرسا نفسه، الذي ترك منصبه رئيسًا لحزب شعوب أورومو الديمقراطية، ليُمهد طريق آبي لمنصب رئيس الوزراء، وأقنع / أو أجبر أعضاء اللجنة المركزية على قبول ترشيح أبي لمنصب رئيس الوزراء. في النهاية، قمت ببث معارضتي علنًا، ليس أملًا في إيقاف ما كان قد قرره بالفعل معسكر الإصلاحيين، ولكن لأسجل رأيي على مرأى ومسمع من الجميع.
بعد أن استولى الإصلاحيون رسميًا على السلطة بوصول آبي في أبريل 2018، تعرضت لضغوط لدعم رئيس الوزراء من أجل الوحدة وإنجاح المرحلة الانتقالية. قررت على مضض أن أُظهِر بعض الدعم رغم أنني لمست أن مخاوفي بشأن قيادته تتحقق منذ بداية رئاسته للوزراء.
اللقاء في الولايات المتحدة
في أوائل أغسطس 2018، بعد 4 أشهر على تولي الحكومة الفيدرالية، توجهت القيادة الإصلاحية إلى الولايات المتحدة للحديث إلى مجتمع الشتات. تم الترحيب بهم بحماس كبير. في اجتماعنا الخاص في مينيسوتا، ناقشنا ثلاث قضايا اعتقدت أنها حاسمة لنجاح التحول الديمقراطي.
1- تسريح، ونزع سلاح، وإعادة دمج الجماعات المتمردة
الحركات والمنظمات المتمردة التي انخرطت في الكفاح المسلح بحاجة إلى اقناعها بنزع سلاحها والمشاركة السلمية في العملية الانتقالية. وتحقيقا لهذه الغاية، أشرت إلى أنه ينبغي الاقتراب من هذه المنظمات السياسية وقادتها والتأكد من عودتهم بأمان إلى ديارهم حتى يتمكنوا من تعبئة قواتهم وفقا لذلك.
كما شددت على دور المنظمات الدولية في تقديم المساعدة المالية والتقنية لتسريح هؤلاء المقاتلين وإعادة دمجهم بنجاح ودعم كبار وكبار السن من قادة هذه المنظمات بوسائل العيش حتى يتمكنوا من الاندماج في الحياة السياسية السلمية بعد عقود في المنفى. وأشرت بقوة إلى ضرورة عملية التسريح ونزع السلاح وإعادة الإدماج في بناء الثقة بين المعارضة والحكومة، حيث كنت أؤمن بشدة بأنها ضرورية لنجاح الانتقال إلى الديمقراطية. لقد حذرت من أن الإخفاق في تنفيذ برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج بنجاح لن يعرقل الانتقال إلى الديمقراطية عن مساره فحسب، بل سيهدد الأمن أيضًا في الوقت الحاسم للانتقال السياسي عندما كانت هناك حاجة ماسة إلى الاستقرار.
2- التقارب والمصالحة وإعادة دمج الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي
بعد هيمنتها على النظام الاستبدادي لمدة 27 عامًا، اختارت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي أخيرًا أن تترك قبل أن تواجه هزيمة مُحققة. استند قرارها جزئيًا إلى وعد قدمه لهم قادة الاحتجاج والإصلاحيون بعدم السعي للانتقام، سواء كان ذلك في شكل مقاضاة أو إعادة توزيع عقابي للثروة (من خلال التأميم أو المصادرة أو الحجز القضائي أو غيرها من العمليات).
ونظرًا لأن التعامل مع المجموعة الحاكمة المهيمنة السابقة كان أحد العوامل الأكثر أهمية في تحديد نجاح أو فشل الانتقال، كانت تيجراي بحاجة إلى حل عاجل ومدروس جيدًا. أثناء الحد من نفوذها، نصحت بأنه لا ينبغي للإصلاحيين أن يمثلوا تهديدًا عقابيًا لها نظرًا لنفوذها في القطاعين الأمني والاقتصادي، والذي يمكن أن تستغله لزعزعة استقرار المرحلة الانتقالية إذا شعرت بتهديد لها أو لقاعدتها السياسية. ومن ثمّ نصحت بالتواصل مع أعضائها لنزع فتيل التوتر الذي نشأ خلال الاحتجاجات، والتوفيق بينهم وبين باقي البلاد، وإعادة دمجهم في العملية السياسية في البلاد. تصورت أن هذا الأمر يمكن أن يحدث بشكل رسمي من خلال مسؤولي الحزب أو الحكومة، وغير رسمي من خلال كبار السن والمفكرين وقادة الأعمال.
3- تطوير خارطة طريق انتقالية
تظهر دراسات الحالة للانتقال الناجح إلى الديمقراطية أن خارطة الطريق المُطوّرة على أساس التفاوض والإجماع بين القوى السياسية المتصارعة مهمة. يجب أن تضم خارطة الطريق هذه، على الأقل، قواعد الانخراط للأحزاب السياسية، وجدول زمني للانتخابات، ومسار لصياغة قاعدة انتخابات متفاوض عليها. ويجب أن تشمل خارطة الطريق أيضًا آلية لإدارة الصراع وخطة للمصالحة الوطنية.
جاءت ردود الفعل على هذه النقاط الثلاث التي اقترحت أن نركز عليها كالتالي: لقد سارعوا، لا سيّما رئيس الوزراء (آبي أحمد)، إلى التوافق معي، لكن كان واضحًا أنه لم يكن مهتمًا بالمداولات الجادة. لقد أراد فقط أن نمضي قدمًا. سألني ذات مرة "لماذا أنت قلقل للغاية بشأن الانتخابات؟ نحن على يقين من أننا سنفوز. انظر إلى كل الدعم الذي نحصل عليه". بعد أن شرحت له كيف يمكن للدعم خلال مرحلة "شهر العسل" يكون خادعًا ويتبخّر بسرعة، ردّ: "يمكنني تعيين 500 طبيب ومهندس وهزيمة أي طرف". فأخبرته أن حزبًا منافسًا يمكنه تجنيد 500 مزارع، وجعلهم يرتدون الأعلام الشعبية، ومن ثمّ يهزمه. لم تتطوّر محادثتنا أكثر من ذلك، وحددنا موعدًا لمواصلة مناقشتنا عند عودتنا إلى الوطن.
محادثات أوليّة في إثيوبيا
لم يكن الفريق الإصلاحي مرتاحًا لعودتي إلى إثيوبيا. لقد كانوا يلمحون إلى ذلك منذ اللحظة التي أعربت فيها عن رغبتي في العودة إلى الوطن. أخيرًا، أرسلوا 5 من كبار السن إلى الولايات المتحدة لإقناعي بعدم العودة، بدعوى قلقهم على سلامتي، لكن كان واضحًا أنهم كانوا يخشون أن أكون منافسًا لهم أو منافسًا لسلطتهم المكتسبة حديثًا. لقد فهمت سبب قلقهم، وأكدت لهم أنه ليس لدي رغبة في السلطة السياسية. لقد أوضحت لهم أن عودتي كانت مدفوعة برغبتي في المساعدة في الانتقال باستخدام نفوذي كناشط، ونيتي العودة في النهاية إلى الأوساط الأكاديمية بعد فترة انتقالية مدتها عامين. لقد أبعدت كبار السن بأدب وأكدت قراري بالعودة.
حددت ثلاثة أدوار للمساعدة في الانتقال إلى الديمقراطية عند العودة إلى الوطن:
1- الدور الاستشاري: يمكنني استخدام تدريبي النظري، وخبرتي، لتزويد القادة الإصلاحيين وجماعات المعارضة باستراتيجيات حول أفضل السبل للانتقال وإدارته.
2. النقد البنّاء والضغط: يمكنني استخدام نفوذي لممارسة الضغط على كل من الحكومة وقادة المعارضة للبقاء على المسار الصحيح نحو الانتقال.
3. الأصول من أجل الاستقرار: نظرًا لأن الفترة الانتقالية ستضعف سيطرة الحكومة، هدفت إلى استخدام نفوذي للمساعدة في تحقيق الاستقرار لمواجهة الاضطرابات المحتملة خلال الفترة الانتقالية، ولا سيما بين الشباب.
ومنذ اليوم الذي وصلت فيه إلى العاصمة أديس أبابا، بخطابي في قاعة الألفية، بدأت بلا كلل في لعب هذه الأدوار خلال الأشهر القليلة التالية. لقد عقدت اجتماعات عدة مع المسؤولين الفيدراليين لمناقشة الانتقال الجاري وأفضل السبل لإدارته للدخول في حقبة جديدة للبلاد. في معظم الأحيان، قدّمت مذكرات تحتوي على نظريات ودراسات حالة للتحولات الناجحة والأكثر تفضيلًا حول العالم. وبالرغم من أنني خففت من حدة انتقاداتي للقيادة، إلا أنني واصلت استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية والتقليدية لإثارة مخاوف معينة والتحدث عن أخطاء صارخة في إدارة عملية الانتقال السياسي.
اعتقادًا مني أن الاستقرار هو التحدي الأكثر أهمية، سافرت عبر أنحاء إثيوبيا لمناشدة المواطنين، لا سيّما الشباب، وتهدئتهم، ومنح القيادة الإصلاحية فرصة للتركيز على إدارة المرحلة الانتقالية. تمثلت إحدى جهودي في محاولة تسهيل المفاوضات بين الجماعات المسلحة والحكومة من أجل التسريح الناجح. لكن ولسوء الحظ، لم تسفر هذه الجهود عن النتائج المرجوة لأن الحكومة لديها خطط مختلفة عما افترضناه وأملنا في تحقيقه.
دوامة
بينما أصيبت جماعات المعارضة والشباب بخيبة أمل وخيبة أمل متزايدة لأن الحكومة انحرفت عن مسار الانتقال إلى الديمقراطية، كان هناك تطور أكثر إثارة للقلق يختمر داخل المعسكر الإصلاحي نفسه. بعث تنحية أعضاء رئيسيين من المعسكر الإصلاحي، بما في ذلك جيدو أندارجاشيو، ووركينه جابيهو، وليما ميجيرسا، بإشارة قوية إلى أن رئيس الوزراء كان يقضي حتى على المنافسين الداخليين المحتملين بهدف تعزيز سلطته الشخصية وليس لديه نية للدعوة أو التعاون معهم، بالشكل المطلوب لانتقال ديمقراطي سليم.
تشكيل حزب الازدهار: القشّة التي قصمت ظهر البعير
أدى تفكك ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي (EPRDF)، إلى جانب حل الأحزاب المكونة له، بهدف تشكيل حزب الازدهار المركزي (PP)، إلى وضع مزيد من الحواجز في الطريق نحو انتقال ناجح إلى الديمقراطية. أولًا، أدت العملية المتسرعة وعدم الاستعداد لبناء تعداد داخلي إلى توسيع الانقسام داخل معسكر الإصلاحيين: فقد رفض البعض القرار علنًا بينما انسحب الكثيرون بصمت. ثانيًا، أدت العملية التي تأسس فيها حزب الشعب إلى زيادة حدة التوتر مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، وهو ما كان مخالفًا لمفاهيم المصالحة وإعادة الاندماج التي احتاجها الانتقال.
ترافق تشكيل حزب الشعب مع تحول أيديولوجي مفاجئ بالحزب الحاكم من اليسار إلى اليمين، سواء على صعيد السياسة أو الاقتصاد، مما زاد من التناقضات داخل البلاد. وأظهر تشكيل حزب الشعب بوضوح أن رئيس الوزراء كان يهدف في نهاية المطاف إلى تحويل البلاد من حكم الحزب الواحد المركزي إلى حكم "الرجل الواحد"، مما يزيل فعليًا كل الآمال المُعلّقة عليها للوصول إلى مجتمع تعددي وديمقراطية تشاركية . علاوة على ذلك، فإن الإجراءات المُتخذة منذ تشكيل ذلك الحزب تشير إلى اتجاه خطير نحو "تسييل" السياسة و"عسكرة" السياسة. أصبح تدفق الأموال من مصادر شرق أوسطية، وجمع الأموال من مجتمع رجال الأعمال، واستخدام موارد الدولة للحزب وحتى الأنشطة الشخصية لرئيس الوزراء من الأمور الشائعة.
من حيث العسكرة، كان تشكيل الحرس الجمهوري في إثيوبيا خارج قوات الأمن المنشأة دستوريًا نذير شؤم على الانتقال الديمقراطي. وبالنظر إلى فكرة أن هذا الحرس الجمهوري صُمم ليكون بمثابة الجيش الشخصي لرئيس الوزراء، فإن ذلك يشير إلى رغبته في تعزيز سلطته وحماية قبضته الشخصية عليها. إضفاء الطابع المؤسسي على قوات الأمن، وتدريب قوة شبه عسكرية ضخمة تحت ستار شرطة أوروميا، ولا سيما من خلال عملية تلقين عقائدي تركز على قمع أنشطة المعارضة، قدمت دليلًا إضافيًا على وجود خطة نحو "تأمين" السياسة بدلًا من تحريرها، الأمر الذي لا يمهد الطريق نحو التحول الديمقراطي، بل يعيقه.
الأخطاء التي ارتكبتها المعارضة والنشطاء
رغم أن المكلفين بقيادة الانتقال من الحزب الحاكم يتحملوا نصيب الأسد من اللوم لسوء إدارة/ اختطاف المرحلة الانتقالية، لا يُمكن إغفال جماعات المعارضة والناشطين من هذا اللوم.
كما ذكرنا سابقًا، كان أحد الأسباب الرئيسية التي أُجبرنا على اختيارها، وهو الانتقال عبر الإصلاح (التحول) بدلًا من الإطاحة بالحزب الاستبدادي (الاستبدال) أو الترحيل، هو غياب أحزاب معارضة نشطة، حيث كان معظم قادتها إما منفيين أو مُعتقلين. كنا نأمل خلال الفترة الانتقالية التي استمرت عامين، أن يغتنم القادة المنفيون والمفرج عنهم الفرصة لبناء حزب أو ائتلاف بديل قوي ونابض بالحياة
بيد أن ذلك لم يتحقق إلى حدِ كبير. كانت النتيجة الأكثر فداحة لهذا الإخفاق هي عدم قدرة قادة المعارضة على تقديم موقف موحد يهدف إلى التفاوض على حكومة انتقالية وطنية. وعدم قدرة المعارضة على تقديم جبهة موحدة سمح لرئيس الوزراء بتجاهل الحاجة إلى إنشاء خارطة طريق انتقالية وطنية. في الواقع، مكّنه ذلك من دفع قادة الحزب للتصادم، مما زعزع مواقفهم وقدرتهم على ممارسة ضغوط كافية عليه.
النشطاء
لعب النشطاء والأكاديميون دورًا حاسمًا في توجيه حركات الاحتجاج الشعبية السلمية التي أحدثت التغيير. ولسوء الحظ، تقلصت أدوارهم أو ربما تشتّت انتباههم خلال الفترة الانتقالية.
لم يكن لدى العديد من النشطاء طموحات سياسية شخصية، وبالتالي لم يشاركوا في السياسة الرسمية. وبمجرد تحقيق الهدف المتمثل في إحداث التغيير، ظلوا على الهامش بدلًا من المضي قدمًا لمواصلة تقديم التوجيه أثناء الانتقال وإبقاء العملية على المسار الصحيح. عاد معظمهم إلى أدوارهم المعتادة أو اختاروا تقديم دعم غير محسوس للقيادة الانتقالية بافتراض أن مسؤولية قيادة الانتقال ستُترك للقادة السياسيين والمنظمات. وبعد أن تخلّى النشطاء عن مسؤوليتهم وتركوا توجيه الانتقال إلى القادة السياسيين، تحولوا إلى الدفاع عن المصالح الحزبية التي تهم كل منهم بشكل شخصي بدلاً من الانخراط في نشاط مبدئي وموحد كما فعلوا خلال حركات الاحتجاج.
أدت هذه الدعوة الحزبية إلى استقطاب النشطاء وإضعاف تأثيرهم على العملية السياسية. انضم بعض النشطاء إلى الحكومة؛ أملًا في مساعدة القيادة الإصلاحية لكنهم لم ينجحوا في التأثير على النظام، إما بسبب قلة خبرتهم في إدارة العمليات الحكومية، أو لمجرد أن المجموعة الحاكمة ليس لديها نية في التحول إلى الديمقراطية في المقام الأول. فسرعان ما أصيب نشطاء كثر بخيبة أمل، لذلك قرروا إما الانسحاب أو التزام الصمت.
الخلاصة
حتى الآن، استشعرت عدة جهات فاعلة ومحلية ودولية بتحول العملية الديمقراطية في إثيوبيا عن مسارها، وبدأت في التعبير عن مخاوفها في هذا الصدد.
في تقديري، فإن الانتقال انحرف عن مساره بالفعل: لم نعد على الطريق نحو التحول الديمقراطي، بل ننتقل مرة أخرى إلى الحكم الاستبدادي - من نظام استبدادي لحزب واحد إلى ديكتاتورية الرجل الواحد. هذا الجهد الذي يبذله أبي لبناء حكم استبدادي شخصي جديد لا يحطم فقط آمال الملايين الذين يريدون أن يروا ويعيشوا في ظل نظام ديمقراطي؛ إنه يعرض السلام المحلي والإقليمي للخطر بشكل خطير.
إن محاولة فرض ديكتاتورية سلطانية على مثل هذا المجتمع شديد الاستقطاب، والتعبئة في ظل وجود قومية متنافسة قد يؤدي إلى حرب أهلية وفي النهاية تنهار الدولة.
في هذا الوقت، فإن انخراط إثيوبيا في حرب أهلية سيكون له تأثير ضار على الشؤون الإقليمية والدولية. ومن ثم، يتعين على الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية أن تمارس ضغوطًا عاجلة ومنسقة على رئيس الوزراء لعكس المسار الحالي، وإعادة فتح المجال السياسي، ودعوة جميع أصحاب المصلحة بهدف تطوير خارطة طريق جماعية نحو الانتقال إلى الديمقراطية. في الواقع، فإن أي أمل متبقي في إنقاذ التحول الديمقراطي يتلاشى بسرعة.
فيديو قد يعجبك: