الموصل بعد داعش ـ تعزيز التعايش عبر إحياء الإرث الثقافي
برلين (دويتشه فيله)
خلال سيطرته على مدينة الموصل العراقية، ألحق تنظم "داعش" أضرارا بالغة بالتراث الثقافي. هدم الإرهابيون بشكل ممنهج المباني من عصور ما قبل الإسلام. حاليا يتم إعادة بنائها من قبل أبنائها، ما يعزز قيم التعايش السلمي بينهم.
في يوليو عام 2017، أعلن رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي استعادة السيطرة الكاملة على مدينة الموصل. استمرت معركة استعادة المدينة الواقعة شمال العراق، والتي سيطرت عليها ميليشيات تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" تسعة أشهر.
إذ تطلب الأمر تضافر جهود الجيش العراقي والوحدات الأمريكية والقوات الجوية للتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب ووحدات البشمركة الكردية ووحدات أخرى لطرد الإرهابيين من المدينة.
لقد كان للنضال من أجل استعادة الموصل معنى رمزي. ففي يونيو عام 2014، أعلن زعيم "داعش" آنذاك أبو بكر البغدي عن إقامة دولة الخلافة الإسلامية في مدينة الموصل، التي سيطر عليها التنظيم للتو. وعانى سكان المدينة والمناطق المجاورة لها من بطش إرهاب تنظيم داعش وأفراده. فقد تم إعدام المئات من الشباب الذين رفضوا الانضمام إلى صفوف التنظيم للقتال، كما استخدام أفراده أهالي المدينة قبيل بدء الهجوم العراقي كدروع بشرية. وبحسب تقرير للأمم المتحدة، فقد تم اختطاف أكثر من خمسة آلاف عائلة لهذا الغرض.
"داعش" أراد محو الذاكرة الثقافية
دمرالإرهابيون بشكل ممنهج التراث الثقافي للمدينة أثناء سيطرتهم عليها. فقد حطموا مذابح ومنحوتات الكنائس، وفتحوا أقبيتها وكسروا الصلبان من على أسطح الكنائس. وقلبوا أبراج الجرس وفتحوا القباب فوق مذابح الكنائس. وفي بعض الأحيان، قامت عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بإضرام النار في كنائس بأكملها. إضافة إلى تفجير مساجد الشيعة والمزارات الصوفية. كما حاول التنظيم محو التراث القديم للمدينة. القليل الذي لم تكن قد طالته يد الإرهابيين بعد، تعرض للتدمير أثناء عملية استعادة المدينة.
عالم الآثار ريتشارد زيتلر من جامعة بنسلفانيا قال في مقابلة مع DW إن داعش أراد محو الذاكرة الثقافية لشمال العراق. يرأس زيتلر "برنامج تعزيز التراث العراقي" الذي ترعاه مؤسسة غيردا هنكل الألمانية، والذي يعيد بناء التراث المعماري للمدينة بالتعاون مع الحكومة العراقية وجمعيات المجتمع المدني.
عن أهمية المدينة للسكان المحليين يقول زيتلر: "يرتبط سكان الموصل والمدن المحيطة ارتباطاً وثيقاً بالماضي القديم". كانت مدينة نينوى، إحدى أهم مدن الإمبراطورية الآشورية القديمة، تقع في منطقة الموصل. "يفخر سكان الموصل بانحدارهم من الملوك الآشوريين، الذين حكموا الكثير من بقاع الشرق الأوسط في أوائل الألفية الأولى قبل الميلاد. ومع ذلك، فعل داعش كل شيء لتدمير البقايا المرئية من الماضي القديم للمنطقة".
لم يترك داعش ورائه المباني المدمرة فحسب، بل أضر أيضاً بالنسيج الاجتماعي للمدينة العراقية. أدت ضغوط الإرهابيين على "الأقليات العرقية والدينية" إلى علاقات متوترة بالفعل بين الأقليات السكانية في المدينة، كما تقول خبيرة الشؤون السياسية إيرين كوستانتيني، التي تُدرِّس في جامعة بولونيا والتي تتحمل، بدعم من مؤسسة غيردا هنكل، المسؤولية عن الجوانب الاجتماعية والسياسية لإعادة إعمار الموصل.
كرد فعل على إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، شكل أفراد الأقليات مجموعات مسلحة. وقالت كوستانتيني لـ DW: "لكن بدلاً من توفير الأمن، اعتبرهم السكان عاملاً إضافياً لانعدام الأمن".
هوية جديدة
هناك حاجة الآن إلى نظام عدالة انتقالية وبرنامج للمصالحة الوطنية لاستعادة ثقة المجتمعات في بعضها البعض، كما تقول كونستانتيني: "لكن هذه عمليات طويلة الأمد تعتمد على الالتزام المستمر من صناع السياسة على المستوى المحلي والوطني".
وتتمثل المهمة الأساسية في إعادة بناء مواقع "التراث الثقافي" المدمرة أو المتضررة والغرض منها هو إعادة جزء من هويتهم للسكان المحليين للمدينة. ويمكن أن يساعد العمل المشترك أيضاً في التقريب بين الأقليات المختلفة فيما بينها وخلق وعي بالاحتلال الذي عانوا منه معاً، وهو أحد المتطلبات الأساسية من أجل تأسيس تعاون مستقبلي، وربما حتى هوية جديدة.
لم تعد إعادة الإعمار مهمة للسياسة
في الأساس، يمكن استعادة العديد من الأشياء، كما يقول زيتلر."في الموصل نفسها من الممكن ترميم أو إعادة بناء المساجد والكنائس والأضرحة والمنازل التاريخية والبوابات في سور القلعة وأكثر من ذلك". ومع ذلك، من المرجح أن يكون لإعادة بناء الكنائس في البلدة القديمة أكثر رمزية من القيمة العملية. وقال زيتلر "قلة فقط من المسيحيين النازحين سيعودون إلى المدينة".
غير أن فكرة إعادة الإعمار تراجعت مرة أخرى على جدول الأعمال السياسي، كما تقول كوستانتيني. لم تكن الأموال كافية لتغطية الحاجة المتوقعة، بالنسبة للمنطقة بأكملها، التي كان يحتلها تنظيم "الدولة الإسلامية". وقد قدرت تلك الحاجة بنحو 88 مليار دولار أي ما يعادل 72 مليار يورو. وإضافة إلى ذلك، تواجه البلاد تحديات جديدة، منها أزمات حكومية واقتصادية، وأزمة وباء كورونا. وتقول خبيرة الشؤون السياسية، كوستانتيني إن المشروع فقد أهميته.
التزام كبير من السكان المحليين
على الرغم من كل المحن التي مرت عليهم، فإن الالتزام الكبير يأتي حالياً من السكان المحليين. يقول زيتلر من جامعة بنسلفانيا: "التعاون بين أهالي الموصل والمدن المجاورة رائع". الوضع ليس سهلاً على الناس، لا يزال هناك نقص في المباني السكنية والعامة في المدينة المدمرة، وهو ما يمثل حاجة مهمة للسكان.
يقول زيتلر: "إنهم متحمسون عندما يتعلق الأمر باستعادة تراثهم التاريخي والثقافي". "إنهم يرون أن التراث التاريخي والثقافي حاسمان في بناء مستقبلهم ويسعدون بالوظائف التي توفرها أعمال الترميم. لدينا عدد من الشركاء المحليين الأقوياء في الموقع و بدونهم لا يمكننا القيام بالعمل".
فيديو قد يعجبك: