لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

قصة انتحار أشهر روائي مثير للجدل في اليابان

02:55 م الخميس 03 ديسمبر 2020

وقف شخص معتدل القامة، أنيق المظهر يكاد يخلو من الع

طوكيو- (بي بي سي):

وقف شخص معتدل القامة، أنيق المظهر يكاد يخلو من العيوب، في شرفة وأخذ يخطب في الجنود المجتمعين في الساحة، كأنما كان يقف على خشبة المسرح. هذا الشخص هو يوكيو ميشيما، واسمه الحقيقي هو كيميتاكي هيراوكا.

كان ميشيما أشهر روائي في اليابان عندما توجه إلى قاعدة للجيش في طوكيو في 25 نوفمبر 1970 واختطف القائد، وأمره بأن يجمع الجنود، ثم حاول أن يقود انقلابا عسكريا. ودعا ميشيما الجنود للتمرد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، ووبّخهم بقسوة على الاستكانة والخنوع وتحداهم أن يعيدوا للإمبراطور هيبته كإله حي وقائد قومي كما كان قبل الحرب.

كان الجنود منصتين في البداية من باب الأدب أو ربما الذهول، ثم سرعان ما علت هتافات السخرية والاستهزاء حتى طغت على صوته. وانسحب ميشيما إلى الداخل وقال: "أعتقد أن صوتي لم يصل إليهم"، ثم جثا على ركبتيه وانتحر على طريقة الساموراي ببقر البطن.

كان موت ميشيما صادما للشعب الياباني، فهو أديب مرموق ويتفاخر برجولته وكان مثيرا للجدل أحيانا والسخرية أحيانا أخرى، ربما يشبه في العصر الحالي نورمان ميلر في الولايات المتحدة أو ميشيل هوليبك في فرنسا.

لكن آراءه التي كانت تبدو كاذبة أو استفزازية انقلبت فجأة إلى حقيقة. وهيمن انتحار ميشيما على الجلسة 64 للبرلمان الياباني، التي حضرها الإمبراطور بنفسه، خاصة وأنه لم يقدم أي شخص على الانتحار بطريقة الساموراي منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.

وكتب هايد إيشيغورو، الفيلسوف الياباني في مقال لمجلة "ذا نيويورك" عام 1975: "رأى البعض أنه فقد صوابه، بينما فسر آخرون انتحاره بأنه اختتم به سلسلة الآراء والأفعال التي كان يقصد بها لفت الأنظار أو مجرد تصرف من تصرفاته الصادمة التي اشتهر بها في اليابان. لكن القليل من الناس الذين يتبنون أفكارا يمينية يرون أن موته كان تعبيرا عن الوطنية واحتجاجا على الأوضاع الحالية في اليابان.

في حين عده آخرون عملا سخيفا ومقززا ويائسا دبره شخص موهوب كان دائما مشاكسا ومثيرا للجدل لم يتحمل الكهولة وزحف الشيخوخة وتراجع موهبته وقدراته".

وقد أخبر ميشيما ذات مرة زوجته: "حتى لو لم يفهمني الناس الآن، سيفهمني الشعب الياباني بعد 50 أو 100 عام".

ودخل ميشيما الساحة الأدبية في اليابان عام 1949 برواية "اعترافات قناع" التي صنعت شهرته حين كان في مستهل العشرينيات من العمر، وهي أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى الرواية.

وتدور حول طفل مرهف الحس، رقيق المشاعر، يكاد يكون أسيرا لجدته التي كانت مريضة وكان يتعهدها بالرعاية. وبدلا من اللعب مع الأطفال في الخارج ظل حبيس غرفة نومها المظلمة لسنوات.

وفي هذه الغرفة نما عقل الصبي، واقترن الخيال بالواقع، كالتوأمين المتلازمين، حتى غلب الخيال الواقع. وبعد وفاة جدته وخروجه من الغرفة لم يهتم بشيء بقدر اهتمامه بالتمثيل وأداء الأدوار إلى حد أنه كان يرى الحياة مسرحا.

وتداخل الخيال مع الواقع رغما عنه. وكان يوزع الأدوار على الرجال والصبيان، ولا سيما أقوياء البنية من حوله في أحلام اليقظة العنيفة أحيانا والمفعمة بالأحداث التي كانت تراوده يوميا. وكان منشغلا بإخفاء اختلافه عن الآخرين. ثم أتقن تأدية دوره في الحياة.

الجمال والدمار

استمرت اعترافات القناع حتى نهاية مرحلة المراهقة، ووصفت بالتفصيل تشابك حياة الصبي الظاهرية والباطنية وإدراكه لميوله الجنسية المثلية. وكانت هذه الاعترافات مدخلا مهما لفهم حياة ميشيما وأعماله في سنوات الكبر. وتكشف عن جذور رؤيته للجمال التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بميوله الجنسية. وتبين أن ميوله الجنسية كانت الهاجس المسيطر على عقله وفكره.

وكتب ميشيما في إحدى القصص أنه: "تقبل بحواسه عقيدة الموت التي كانت شائعة أثناء الحرب"، عندما بدا التجنيد الإلزامي والتضحية بالنفس وشيكين، واستحوذت على عقله فكرة أن الجمال يبلغ ذروته عندما يكون زائلا والأهم من ذلك عندما يشرف على الانهيار.

وتداخلت هذه الفكرة مع الإعجاب بالبنية الجسدية القوية للذكور، التي كان يفقتدها المؤلف ضعيف البنية، لتنسج مخيلته قصصا عن المحاربين الجسورين والنهايات الدموية المروعة لحياتهم.

هذه الحياة الخاصة من "الظلام والدم والموت"، كانت مليئة بالفظائع والجرائم، التي كان يسردها بفتور وجمود مشاعر.

وكشفت رواية "اعترافات قناع" عن التداخل بين الأداء والواقع الذي تميزت به كتابات ميشيما. وقد توحي الرواية بوجود صراع داخلي قاتم يعاني منه المؤلف، ربما كان وسيلة لجذب اهتمام وسائل الإعلام وتحقيق الشهرة. فقد كان ميشيما يتعمد فضح المجتمع مع الاحتفاظ بثغرات تتيح له النفي والإنكار.

وسرعان ما تحول ميشيما إلى المؤلف المتمرد المثير للجدل في الأدب الياباني في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولاقت أعماله رواجا واسعا في اليابان. ورغم تحرره وعشقه للمتع الحسية، إلا أنه كان كاتبا مخضرما غزير الإنتاج. فبالإضافة إلى القصص الخيالية الشهيرة العديدة، ألف ميشيما أعمالا أدبية راقية وعشرات من مسرحيات "نوه" اليابانية التقليدية.

وبذل ميشيما جهودا حثيثة للتقرب من صفوة المجتمع في طوكيو، وكان يحرص كل الحرص على مظهره الحسن وهندامه المتأنق، وهذا ينعكس في صوره الفوتوغرافية المثالية. وكان صديقا مقربا من المكاتب الإعلامية الأجنبية ومراسليها، إذ كان يبذل ما في وسعه حتى تطبق شهرته الآفاق، وقد نجح في ذلك إلى حد ما.

ويقول جون ناثان، مترجم ومؤلف السيرة الذاتية لميشيما: "إذا كان أكيو موريتا مؤسس شركة سوني هو أشهر ياباني في الخارج، فإن ميشيما يأتي في المرتبة الثانية بفارق قصير".

وعلى غرار رواية "اعترافات قناع"، كانت روايات ميشيما في الخمسينيات من القرن الماضي تعكس أفكار المؤلف وسيرته الذاتية. فتناولت رواية "ألوان محرمة"، رجلا مسنا يراود شابا مثليا اضطر أن يرتبط بفتاة حفاظا على مظهره الاجتماعي ولتحقيق الاستقرار المالي.

أما رواية "معبد الردهة الذهبية" في عام 1956، فتناولت قصة مساعد كاهن في معبد كان مأخوذا بجماله إلى حد أنه كان يخشى أن يدمره القصف، لكن بعد أن نجا من الحرب، قرر أن يدمر المعبد بنفسه. وتدور رواية "منزل كيوكو" في عام 1959، حول ملاكم قرر أن يتبنى أفكارا يمينية، وممثل يقيم معه علاقة جنسية سادية ومازوخية انتهت بانتحار الطرفين.

وكان أسلوب ميشيما في الكتابة متأثرا بأسلوب ياسوناري كاواباتا، الحائز على جائزة نوبل، الذي كان يرى أن الأدب هو رسالة فنية وليست دعائية. ولعل كتابات ميشيما بدت على النقيض تماما من هذا الاعتقاد، بتركيزه الدائم على الوصف الحسي المفعم بالتفاصيل، فقد كان يحرص على وصف أجزاء من الجسم أو الملابس أو الروائح بطريقة مثيرة للشهوة.

لكن في الستينيات من القرن الماضي، بدأ الطور السياسي من حياة ميشيما. فبعد أن كان يصور نفسه بأنه عاشق للجمال، ورومانسي متحرر منغمس في المتع، طرأت على حياته في السنوات العشر الأخيرة تحولات كبيرة. حينها اهتم ميشيما بكمال الأجسام، وكان يتمرن في صالة الألعاب الرياضية ساعتين يوميا لبناء العضلات.

وأخذ يتعرض للشمس لاكتساب اللون البرونزي، وكان يمارس مع مجموعة من زملائه من الجامعة الذين يتبنون أفكارا يمينية، التمرينات الرياضية. وكان الهدف الذي يعلنه من وراء تكوين هذه المجموعة هو مساعدة الجيش في حالة اشتعال ثورة شيوعية.

وكان وراء هذا التحول مبرر أفصح عنه بين ثنايا مقال كتبه في عام 1968 قبل عامين من وفاته. إذ رأى أنه استهلكه الخيال والكلمات ونال منه الوهن بسبب قلة الفعل والعجز عن تحويل الأفكار إلى واقع.

وكتب ميشيما: "أعتقد أن الفعل يسبق الكلام لدى الشخص العادي، لكن في حالتي، يأتي الكلام أولا، ثم بعد كل علامات التردد والتقاعس الشديد والمفاهيم والمبررات الجاهزة، يأتي الفعل، لكن بعد فوات الأوان". وحاول ميشيما إعادة التوازن إلى نفسه واستحضر مفهوم الساموراي القديم "بالتناغم بين القلم والسيف". وكان يتمنى أن يصفه الناس بأن "أفعاله تسبق أقواله".

شرارة إبداع أخيرة

وبعد أن بلغ ميشيما أربعين سنة، انشغل بشدة بتقدمه في العمر. وذكر في إحدى المقالات معقبا على وفاة الممثل جيمس دين: "ينبغي أن يموت الذين يتمتعون بجمال في سن صغيرة، أما الآخرون فيجب أن يعمروا قدر الإمكان. لكن مع الأسف، يحدث العكس مع 95 في المئة من الناس، فيعيش الرائعون حتى يتجاوزا الثمانين، أما الحمقى الدميمون فيموتون فجأة في سن 21 عاما". وشعر ميشيما أنه حانت لحظته وأخذ يخطط للمشهد الأخير.

لا شك أن كل منا ينتابه شعور في وقت من الأوقات بأن الحياة مسرح، لكن قليلين يعيشون حياتهم ويخططون لأحداثها وتفاصيلها كأنهم على خشبة مسرح، بل وأقل منهم يختمونها بالانتحار على طريقة الساموراي . لكن هذا الانتحار كان بمثابة نهاية للحياة التي رسم ميشيما أحداثها في مخيلته، والتي كتب عناصرها في روايته "اعتراف قناع: جنود وموت ودماء".

فمن خلال تحوله إلى المحارب في السنوات الأخيرة من حياته، اكتسب ميشيما الصفات المثالية التي طالما كان يصبو إلى تحقيقها، فقد أضحى جميلا وجديرا بالتدمير. وفي فيلم "الوطنية" القصير الذي كتبه ميشيما وقام فيه بدور البطولة، أدى انتحار الساموراي بالتفصيل أمام الكاميرات.

وفي صبيحة اليوم الأخير، أرسل ميشيما آخر كتاب من رباعيته "بحر الخصوبة" إلى الناشر. وتبدأ هذه الرباعية من عام 1912 في أعقاب الحرب الروسية اليابانية، وتنتهي في عام 1975، وتتناول الأحداث التاريخية منذ صعود الإمبراطورية اليابانية مرورا بنهاية الحرب العالمية الثانية وتنتهي بظهور الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية في اليابان. ويقوم ببطولة القصص الأربعة هوندا- الذي ربما كان يجسد شخصية ميشيما- وصديق الصبى الذي يعود للحياة مرات عديدة في أجساد مختلفة.

وتزخر رباعية "بحر الخصوبة" بالأفكار الفلسفية. وكتب ميشيما معظم الكتاب الأخير "سقوط الملاك"، أثناء رحلة مع عائلته على شاطئ البحر في عام 1970. وفي خطاب بتاريخ 18 نوفمبر عام 1970، كتب إلى أستاذه ومثله الأعلى "فوميو كيوميزو": "أعتقد أن نهاية الكتاب بالنسبة لي هي نهاية العالم"، لتنتهي بذلك حياته بهذه الطريقة الغريبة والمثيرة للجدل.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان