العبادة في زمن الكورونا: لماذا لا يصدّق المؤمنون أنّهم عرضة للعدوى؟
بيروت- (بي بي سي):
ارتفع صراخ المصلّين احتجاجاً في إحدى الكنائس اللبنانية، قبل أيام، حين أصرّ الكاهن على عدم أداء طقس مناولة القربان كالمعتاد.
رفض الكاهن وضع قطع القربان في الفم، تنفيذاً لقرار السلطة الكنسيّة العليا، ضمن إجراءات الوقاية من فيروس كورونا. فشلت كلّ محاولاته في إقناع الجمع، حتى عندما أنَّبهم لعدم طاعة المطران والبطريرك، كما ظهر في فيديو انتشر على مواقع التواصل.
منتصف الشهر الماضي، ومع بداية انتشار الفيروس المستجدّ في إيران، ظهرت على مواقع التواصل فيديوهات لزوّار يلعقون الأضرحة المقدسة في مدينتي قم ومشهد، في تحدٍّ صريح لقرار السلطات؛ ما أدّى إلى اعتقال بعضهم.
يلتزم المؤمنون بالتعاليم أو الفتاوى الصادرة عن المرجعيات الدينية، لكنّ انتشار فيروس كورونا ترافق مع أشكال حادّة من التعبير عن التشبّث بالإيمان والمفاخرة بالعبادة الجماعيّة. فالإيمان بقدرة الله على الحماية والشفاء أقوى من أي تحذير، حتى إن صدر عن جهة يعتقد المؤمنون، عادةً، أنّ لها القول الفصل في تشريع وتنظيم العلاقة بالخالق.
الصلاة والطقوس العباديّة ستحمينا، من دون شكّ، من التقاط العدوى، يقول البعض. ولكنّ التجربة أثبتت العكس. فقبل أيّام اعتذر رئيس كنيسة شينتشونجي، لي مان-هي، في كوريا الجنوبية عن الدور الذي لعبه أنصار طائفته في نشر فيروس كورونا في البلاد.
بدورها، علّقت السعودية العمرة، مع تقديم رجال دين مسلمين عذراً شرعياً للمتخلفين في أوقات مماثلة، حمايةً للناس من تفشي الوباء. فالتخلّف عن فريضة الصلاة بالنسبة لعدد من علماء الدين أفضل من تحمّل المسؤولية عن مرض أعداد كبيرة من المصلّين، وهو ما يعدّ أيضاً إثماً عبر التسبّب بالأذى للناس.
لماذا لا يصدّق بعض المؤمنين أنّهم عرضة للعدوى؟ وما دور الخرافة هنا وما حدود الإيمان والتقوى؟ وهل الاعتقاد الديني الراسخ قادر دوماً على أن يغلب الخوف أو الخشية من المرض؟ سؤال تزيد مشروعيته أمام توق الناس الطبيعي إلى الصلاة في أزمنة الشدة، والراحة النفسية التي تمنحها العلاقة بالخالق في مواجهة الخوف والهلع، في مقابل مخاطر التجمعّات الدينية التي قد تسهّل انتشار الوباء.
حملت "بي بي سي" هذه الإشكاليّة إلى الباحثة والأكاديمية، رولا تلحوق، المختصة بالأنثروبولوجيا وأستاذة العلوم الدينية في الجامعة اليسوعية في بيروت. وتقول تلحوق: "في أحيان كثيرة، يتمسّك الناس بمعتقدات شعبيّة خاطئة، أكثر من تمسكهم بالعقيدة الدينية الأصلية؛ وغالباً يكون لتلك المعتقدات سلطة على الشعب أقوى من سلطة التعليم الرسمي. وطغيان المعتقدات الشعبيّة في التعاطي مع الوباء المستجدّ، ليس صادماً، فحتى يومنا هذا، نجد أناساً يتعلّقون بخرافات متوارثة عن عبادات وثنية قديمة، ولا علاقة لها بالأديان السماوية، مثلاً عدم كنس البيت يوم الأربعاء، وعدم تفصيل الملابس يوم الاثنين، وعدم خياطتها يوم الخميس، أو القول بالفأل السيء عند فتح مظلّة داخل المنزل".
بحسب تلحوق، لا يخلو فكر إنساني من الوسواس والخوف، لذلك يُستنجد "بمعتقدات شعبيّة صغيرة لكنّ سطوتها كبيرة، ولا نجدها مكتوبة لا في نصّ ديني ولا في كتاب مقدّس ولا في شريعة ولا في تعليم. يمكن للمرجعيات الدينيّة أن تلغي صلاة الجمعة وزيارة الأماكن المقدّسة، وألا تمتثل الناس لذلك القرار، وهذا لا علاقة له بالمعتقد بل بالعواطف الدينية".
بالنسبة لمعظم الناس، فإنّ الإيمان والعبادة والطقوس الدينية إجابة شافية عن الكثير من الأسئلة الوجودية، وخاصة في وجه الأزمنة الصعبة
تُرجع تلحوق سبب تمسك الناس بالمعتقد الشعبي على حساب التعليم والتوجيهات الدينية الشرعية إلى صعوبة الإطار العقيدي وثباته، بالمقارنة مع بساطة العاطفة الشعبية تجاه الدين. "العقيدة الدينية عمرها ألف أو ألفي عام، لا يمكن أن ننتقص منها أو نضيف عليها بحسب عواطفنا وأهوائنا، وغالباً هي غير متاحة بكاملها لغير المتعلّمين، أو غير المتعمّقين. يتجه الناس دوماً نحو ما هو عاطفي وبشري وملموس، على حساب ما هو عقلاني وعقائدي ومجرّد، من هنا يستخدمون حواسهم، فيلجأون إلى رائحة البخور، أو إلى اللمس واللعق".
حاجة نفسيّة
يفضّل المؤمنون التخفّف من الإطار العقائدي الراسخ، في مقابل ما هو مواهبيّ وخارق وخارج عن القانون، ما يجعلهم أكثر قدرة على التحكّم به، لإرضاء حاجة نفسيّة عميقة لديهم، كما تشرح رولا تلحوق. "تصبو عاطفة المؤمنين نحو ما هو تَقَوي، فيقبّلون الجدران، أو يشربون المياه من التراب، وربما يرون في الشروح الدينية العقلانية خلخلة لإيمانهم، وربما يخاف بعضهم من التذاكي على الله، إن تعلّموا أو تعمّقوا في ديانتهم أكثر. وهذا لا يعني أن المظاهر التَقَوية عاطلة أو غبية، لكنّ المراجع الدينية لا تثبت فعاليتها، حتى في حالات ذات شهرة واسعة، كما في ظهورات مريم العذراء في مديغورييه (البوسنة والهرسك)، إذ لم تثبت الكنيسة بعد تلك الظهورات، لكن القرية المشار إليها، لا تزال من أبرز المحاج الدينية، وتستقبل ملايين المسيحيين كل عام".
بالنسبة لمعظم الناس، فإنّ الإيمان والعبادة والطقوس الدينية إجابة شافية عن الكثير من الأسئلة الوجودية، وخاصة في وجه الأزمنة الصعبة، والمظاهر التي يصعب تفسيرها. لكن أليس الخوف من المرض والهلع من الأوبئة أقوى من الحاجة النفسية للعبادة؟ وما العوامل النفسية التي تجعل الناس تفشل في المواءمة بين صوت العقل وقناعاتها الدينية الراسخة؟
تصبو عاطفة المؤمنين نحو ما هو تَقَوي، فيقبّلون الجدران، أو يشربون المياه من التراب، وربما يرون في الشروح الدينية العقلانية خلخلة لإيمانهم، وربما يخاف بعضهم من التذاكي على الله
رولا تلحوق, أستاذة الأديان في الجامعة اليسوعية
"المعتقدات السحريّة" أولاً
يقول عالم الأعصاب وأستاذ علم النفس في جامعة باريس الثالثة، ألبير مخيبر، إنّ "الخوف ليس أقوى من الإيمان على الإطلاق، على العكس، الهدف الأساسي من صوت الإيمان، هو تهدئة الخوف الأصلي عند كلّ الناس، أي الخوف من الموت. الهدف الجوهري من الدين طمأنة الإنسان أنّه إن مات، سيفوز بحياة آخرة". يختصّ ألبير مخيبر في دراسة الانحيازات الإدراكية غير الواعية، وقد صدر له، العالم الماضي، كتاب بعنوان "دماغك يخدعك" (دار ألاري - 2019)، يفصّل فيه رأي العلم في تحايل دماغ الإنسان على الوقائع والحقائق، بما يناسبه، ويستخدم أبحاثه العصبيّة في شرح تفاعلنا مع الأخبار الكاذبة.
يبحث الناس عن طمأنة قلقهم من خلال "معتقدات سحريّة"، بحسب تصنيفها العلميّ، كما يشرح مخيبر. تلك المعتقدات ليست حكراً على المؤمنين، بل نجدها عند الملحدين أيضاً، وعند جميع البشر.
"الاعتقاد بأن الملحدين منطقيون أكثر من المؤمنين اعتقاد خاطئ، فهناك مؤمنون عقلانيون، وملحدون يصدقون أفكاراً سحرية. مثلاً، هناك من لا يؤمن بقدرة الصلاة والعبادة على الشفاء، لكنّه يؤمن بالطب البديل غير المثبت علمياً، ويعتقد أن شركات الأدوية تسمّمنا، وأنها توصّلت إلى إنتاج علاجات للأمراض المستعصية لكنها تحجبها عن الناس. المضحك أن مختبرات الطب البديل، ومع تفشي كورونا الآن، وخوفاً من الدعاوى القضائية ضدّها، نشرت بيانات صحافية تدعو الناس إلى الالتزام بتعليمات منظمة الصحة العالمية، وعدم استخدام مستحضراتها كعلاج لأعراض الفيروس".
"الاعتقاد بأن الملحدين منطقيون أكثر من المؤمنين اعتقاد خاطئ، فهناك مؤمنون عقلانيون، وملحدون يصدقون أفكاراً سحرية
ألبير مخيبر, أستاذ علم الأعصاب في جامعة باريس الثالثة
احكِ لنا قصّة!
يقول ألبير مخيبر إن دماغ الإنسان يلجأ إلى أي فكرة تهدئ من روعه، عندما يواجه ظاهرة لا يفهمها. "إن كنتُ مؤمناً، سأواجه هلعي بالصلاة، وإن كنتُ غير مؤمن، قد ألجأ إلى الأعشاب أو التأمل أو اليوغا، وأفكّر في أن أفتح الشاكرا كي لا يصاب جسمي بالمرض". تجذب هذه "المعتقدات السحريّة" عدداً أكبر من الناس في مقابل الحقائق العلميّة، والسبب بحسب ألبير مخيبر أنّ الأطباء والعلماء غير قادرين على تقديم إجابات قاطعة وجازمة. "بين أطباء يقولون إنهم لم يعرفوا، بعد، كلّ المعطيات حول انتشار الفيروس وطريقة احتوائه، وبين من يؤكد، مثلاً، بشكلٍ قطعي أن طريقة الوقاية الثابتة هي أن ندور حول أنفسنا ثلاث دورات، بالتأكيد سينجذب الناس لتصديق صاحب اليقين، حتى وإن كان أسلوبه يعاكس العلم والمنطق".
يتمتع دماغ الإنسان بخاصية تميّزه عن باقي المخلوقات، وهي قدرته على سرد الأقاصيص، وتنظيم الواقع على شكل قصة، وأحياناً ربط معطيات لا علاقة لها ببعضها البعض، لكي يقدر على فهم العالم. ويقول مخيبر: "في دماغنا منطقة خاصة للسرد القصصي، تساعدنا في إعطاء معنى لظواهر غريبة. مثلاً، في دماغ المؤمن، يربح القديسون والشفعاء دوماً، فإن صلّى المريض وشفي من مرض، هذا يعني أنهم استجابوا له، وإن صلّى ومات، فهذا يعني أنّها إرادة الله أيضاً. ينطبق ذلك نفسه على علاقة الجماهير بالزعماء والقادة السياسيين على سبيل المثال. الناس بحاجة لأن تشعر دوماً أنّ هناك أمراً أكبر منها قيد التحقّق، لكي تقدر على فهم العالم، ولكي تشعر بالطمأنينة".
وبحسب عالم الأعصاب، لم تتغيّر علاقة الدماغ مع الواقع رغم تطوّر العلم والتكنولوجيا. يقول ألبير مخيبر: "لن نتوقّف كفصيلة عن سرد القصص لتفسير العالم حتى لو تطوّرنا علمياً، لأنّنا ببساطة لا نمتلك القدرة الفيزيولوجية على فهم وإدراك كلّ المعلومات والمعطيات ورؤية الواقع بكلّ تدرجاته. القصص لا تهدّد وجودنا كفصيلة. العالم هو منافسة بين من يستطيع أن يسرد أجمل قصّة، وأن يجعل أكبر عدد من الناس تصدّق قصّته تلك".
فيديو قد يعجبك: