"الإغلاق التام أم الطقس الدافئ".. ما سر قلة وفيات كورونا في الهند؟
كتبت- رنا أسامة:
أبرزت شبكة "سي إن إن" الأمريكية الاستراتيجية التي اتبعتها الهند، ثاني أكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان، لاحتواء جائحة فيروس كورونا المُستجد "كوفيد 19"، لتُسجّل فقط حوالي ألف وفاة من إجمالي 31 ألف حالة، فيما كان يبدو مُستقبل البلاد قاتمًا قبل أقل من شهر.
وقالت الشبكة، في تقريرها المنشور على موقعها الإلكتروني، الأربعا، إن الخبراء توقعوا أن تُسجل الهند ملايين الحالات المُصابة بالفيروس التاجي الغامض. وحذّر الأطباء من أن البلاد في حاجة إلى الاستعداد لـ"هجمة حالات" من شأنها أن تشل النظام الصحي المُهترئ غير المُجهّز للبلاد.
كما تزايدت المخاوف من أن يتسبب الفيروس في نشر حرائق الغابات من خلال الأحياء الفقيرة بالهند، حيث يعيش السكان في مساكن ضيقة غير مزودة بمرافق الصرف الصحي في كثير من الأحيان.
لكن وحتى الآن، يبدو أن ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان نجحت في أن تتجنت السيناريو الأسوأ، بحسب السي إن إن.
وحتى الثلاثاء، سجّلت الهند 31 ألفًا و360 حالة و1008 وفيات، ما يعني 0.76 وفاة لكل مليون شخص، وهي حصيلة أقل بكثير من الولايات المتحدة، حيث تُسجل أكثر من 175 ألف وفاة لكل مليون شخص.
ويعتقد بعض الخبراء أن الأرقام الإيجابية في الهند تُشير إلى أن إجراء الإغلاق التام للبلاد لوقف انتشار "كوفيد 19" يُمكن أن يكون فاعلًا ويؤتي ثماره- في الوقت الحالي.
في 14 أبريل الجاري، قال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بينما كان يُعلن أمر تمديد الإغلاق لمدة 21 يومًا على مستوى البلاد إن، "الهند لم تنتظر المشكلة تتفاقم. بدلًا من ذلك، وبمجرد ظهور المشكلة (تسجيل حالات كورونا)، حاولنا وقفه (الفيروس) بقرارات سريعة. ولا يمكنني تخيّل ما كان ممكنًا حدوثه إذا لم تتُخذ مثل هذه القرارات السريعة".
بيد أنه، ووفق السي إن إن، فإن الحقيقة وراء أرقام الهند أكثر تعقيدًا- ويحذر خبراء من أنه من السابق لأوانه أن تُهنئ الهند نفسها. "فعلى الأقل في هذه الجولة، يبدو أن الفيروس لم يتمكن من إلحاق الضرر المُتوقع"، كما يقول سريناث ريدي، رئيس مؤسسة الصحة العامة في الهند، وهي منظمة غير ربحية تعمل في مجال التدريب والبحث وتطوير السياسات.
وأضاف ريدي: " لا أعتقد أنه بإمكاننا القول إن الصفحة طويت تمامًا عند ذلك" في الهند.
ما مدى سرعة قرارات مودي؟
في 24 مارس، أعلن مودي أن البلاد ستدخل في 3 أسابيع من الإغلاق التام، في خطوة غير مسبوقة. فالهند عدد سكانها 1.3 مليار نسمة وحتى الدولة الدولة الوحيدة التي تملك أكبر عدد من السكان- الهند- لم تفرض إغلاقًا على مستوى البلاد، بل على مستوى المدن.
هذا الإجراء كان على درجة عالية من الخطورة. فرض الإغلاق يعني حرمان ملايين العاملين بأجر يومي من الدخل. لكن في الوقت نفسه، فإن عدم فرض إغلاق يهدد نظام الرعاية الصحية المُتداعي في الهند. ووفق تقدير أحد النماذج، فبدون إجراءات التباعد المكاني، يُمكن إصابة 150 مليونًا في الهند بحلول يونيو.
والجمعة، قال أكبر مسؤول صحي بفريق مكافحة الوباء في الهند إن البلاد كان يُمكن أن تسجل 100 ألف حالة الآن إذا لم يُتخذ قرار الإغلاق.
انتقلت الهند إلى حالة الإغلاق بسرعة نسبية- تم إعلانها عندما أبلغت البلاد عن 519 حالة إصابة مؤكّدة بالفيروس التاجي.
على النقيض من ذلك، انتظرت إيطاليا حتى سجّلت أكثر من 9200 حالة قبل أن تفرض إغلاقًا على مستوى البلاد، فيما فرضته المملكة المتحدة بعد تسجيل 6700 حالة.
قال رامانان لاكسمينارايان، مدير مركز ديناميات واقتصاديات وسياسات الأمراض، وهي منظمة بحثية غير ربحية لها مكاتب في واشنطن ونيودلهي، إن "قرار فرض الإغلاق الفوري، حتى عندما تكون أعداد الحالات منخفضة، قلّل على الأرجح معدلات الاتصال بين الناس بشكل كبير".
في أعقاب الإغلاق، حاول آلاف العاملين المهاجرين مغادرة المدن الرئيسية في الهند بعد أن تركتهم قيود الإغلاق بدون وظائف. الأمر الذي مخاوف من نشر الفيروس من خلال هؤلاء المهاجرين، فيما قام بعض مسؤولي ولاية أوتار براديش الهندية برشّ العاملين العائدين بالمُطهرات- وهو نهج غير فعال لمواجهة الفيروس.
وبعد نحو أسبوع من بدء الإغلاق، توفي شخصان جراء إصابتها بكورونا في أحياء مومباي الفقيرة المُكتظة. بعد تسجيل الوفاة الثانية، خضع أفراد من عائلة الرجل المُتوفى للاختبار ووُضعوا تحت الحجر الصحي المنزلي، وتم عزل 300 منزل و90 متجرًا في الحي الذي يقطن فيه.
ماذا لو كانت الأرقام غير صحيحة؟
كما هو الحال في كل بلد، يرتبط فهمنا وإدراكنا الجيد لمدى تفشي الجائحة بالأرقام المتوافرة حولها. وهذا يعتمد على الاختبار.
وفق وزارة الصحة الهندية، أجرت البلاد أكثر من 625 ألف اختبار كورونا حتى يوم الأحد- وهو أكثر من الحصيلة المُسجّلة في كوريا الجنوبية التي لاقت إشادة على نهجها في الاختبار.
وبحسب السي إن إن، عندما يُقيّم خبراء الصحة العامة مدى قوة أي بلد في إجراء اختبارات كورونا، فإنهم لا ينظرون إلى العدد الإجمالي وحده- بدلًا من ذلك، فإنهم غالبًا ما ينظرون إلى معدل إيجابية الاختبار في كل بلد. إذا كانت نسبة كبيرة من الاختبارات تأتي إيجابية، فإنهم يقترحون حينها أن يتم فقط اختبار الحالات الأكثر خطورة - كتلك الموجودة في المستشفيات.
ووفقا لمايك ريان، المدير التنفيذي لبرامج الطوارئ الصحية لمنظمة الصحة العالمية، فإن المعيار الجيد أن يكون لديك 10 حالات سلبية على الأقل لكل حالة إيجابية.
بحسب بيانات وزارة الصحة الهندية، جاءت حوالي 4 بالمائة من اختبارات الهند إيجابية – أي أقل بكثير من هذا المعيار. كما أنه أقل بشكل ملحوظ من الولايات المتحدة، حيث يبلغ معدل الاختبارات الإيجابية حوالي 17 بالمائة، وفق بيانات جامعة جونز هوبكنز. كما أنها أقل من المملكة المتحدة، حيث يبلغ المعدل حوالي 21 بالمائة طبقًا للبيانات الرسمية الحكومية.
وأشارت الشبكة الأمريكية إلى مقياس آخر مفيد في التعرف على مدى تفشي الجائحة، ممثلًا في نسبة الوفيات. في الهند، توفي حوالي 3 بالمائة من الحالات، مقارنة مع أكثر من 13 بالمائة في إيطاليا وبريطانيا وفرنسا، وفق بيانات جامعة جونز هوبكنز. الأمر الذي يُشير إلى أن الهند تختبر أشخاصًا إلى جانب أولئك الذين يعانون أعراضًا أكثر خطورة.
غير أن مُعدل الاختبار في الهند يبدو مُنخفضًا للغاية على مستوى عدد السكان، إذ تم اختبار حوالي 48 شخصًا من كل 100 ألف، مقارنة بحوالي 1175 في كوريا الجنوبية و1740 في الولايات المتحدة.
يقول سمير ساران، رئيس مؤسسة أبحاث الأوبزيرفر، إن الهند عززت من قدرات الاختبار بشكل كبير - لكنه لا يزال غير سعيد بالأرقام. بينما يرى خبراء آخرون أن الاختبار المجتمعي واسع النطاق سيكون غير عملي وإهدارًا للموارد، يعتقد ساران أن هذا شيء تحتاج الهند إلى النظر إليه، بالنظر إلى تعدادها السكاني الكبير الذين يسافرون بين المناطق للعمل.
وفي حين أن الهند رُبما لا تُجري اختبارات كافية، كما يقول ريدي، يُحتمل أن يكون الأطباء يلاحظون معظم الحالات المُعتدلة والخطيرة. إذا كان هناك ارتفاع ضخم في حالات "كوفيد 19" التي لم تُكتشف عن طريق الاختبار، فحينها ستكون المستشفيات مُكتظة بالحالات وسيكون هناك قفزة في الحالات المُسجلة وتحمل أعراضًا شبيهة بالإنفلونزا في المجتمع الهندي، على حد قوله.
لكن في الوقت الحالي، لا يوجد مؤشر على حدوث أي من ذلك، فيما تتزايد الأدلة على أن "كوفيد 19" يسبب أعراضًا تتجاوز تلك الشبيهة بالإنفلونزا.
هل يمكن أن يموت المزيد من الناس دون أن يتم تسجيله؟
بخلاف الوفيات الناجمة عن الوباء العالمي المُستشري في جميع أنحاء العالم، فإن 22 بالمائة فقط من الوفيات المُسجذلة في الهند مُعتمدة طبيًا. الأمر الذي يعني أن أنه في معظم حالات الوفاة، لم يوثّق السبب الرسمي للوفاة من قِبل الأطباء.
وأشارت السي إن إن إلى أنه ثمة أدلة على حدوث وفيات لم يتم تسجيلها رسميًا. قال طبيب مقيم في أحد المستشفيات الحكومية الرئيسية في مومباي الأسبوع الماضي إنه عندما نُقلت جثث إلى المستشفى، لم يقوموا باختبارها للكشف عما إذا كانت ناجمة عن الفيروس التاجي، حتى إذا كان هناك اشتباه في ذلك.
وصرّح الطبيب الذي طلب عدم الكشف عن اسمه لأنه غير مخوّل له التحدث إلى وسائل الإعلام للسي إن إن: "إذا أظهر التاريخ الشخصي أن المتوفى كان على اتصال بشخص ثبتت إصابته بالفيروس، فإننا نتخلص من جسده بالطريقة نفسها التي نتعامل بها مع مرضى (كوفيد 19)".
ولكن، وكما يتوقع خبراء، فلا يبدو في هذه المرحلة أن هناك فيضانًا هائلًا من الوفيات الناجمة عن كورونا في الهند.
قال ساران: "حتى لو لم نُجر اختبارات كافية كاف ولم نكتشف ما يكفي من الحالات، فليس هناك ما يكفي من الجثث المُكّدسة في المستشفيات أو في وحدات العناية المركزة للقول إننا نمر بمأساة في هذه المرحلة".
ومع ذلك، فإن العدد الحقيقي لوفيات "كوفيد 19" لن يتأتّى إلا بعد أن نتمكن من مقارنة إحصائيات هذا العام بالأعوام الماضية، حسبما قال لاكسمينارايان.
متى ترسّخ الفيروس التاجي في الهند؟
قبل إغلاق الهند، كان الفيروس التاجي موجودًا في البلاد، فقد أبلغت الدولة عن بعض الإصابات، ولكن عددها لم يكن كبيرًا.
في 30 يناير، أبلغت الهند عن حالتها الأولى – طالب كان يدرس في جامعة ووهان في الصين.
تزامن ذلك تقريبًا مع وقت إبلاغ دول المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا عن حالاتهم الأولى، حيث تفشّى فيهم الفيروس التاجي بصورة مأساوية ومختلفة عما حدث في الهند، وسجّلت الدول الثلاث الآن أكثر من 100 ألف حالة.
وفي حين لا يزال الخبراء عاجزين عن فهم سبب اختلاف نمط تفشي الفيروس التاجي في الهند، قال ريدي إن أحد الأسباب المُحتملة يتمثل في أن الظروف الجوية الباردة، وهو ما يعني أن كورونا يُحتمل ألا يتفشى بشراسة في الهند، حيث تُسجل درجات الحرارة تتجاوز في الغالب 30 درجة مئوية (96.8 درجة فهرنهايت).
لكن الأدلة العلمية تتناقض حتى الآن مع هذه الاحتمالية. تقول منظمة الصحة العالمية إن الأدلة تظهر حتى الآن أن الفيروس يمكن أن ينتقل في جميع المناطق، بما في ذلك المناطق ذات الطقس الحار والرطب. وقالت لجنة الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم إن البيانات متناقضة حول ما إذا كان الفيروس التاجي يتفشى سهولة في الطقس الدافئ كما هو الحال في الطقس البارد.
الاحتمال الآخر الذي طرحه ريدي أن يكون سكان الهند أقل عرضة للإصابة نظرًا إلى الالتزام بالتطعيم العالمي ضد مرض السُل بلُقاح يُعرف اختصارًا بـ"بي سي جي"، والذي تم تطويره كوسيلة مُحتملة لمحاربة كورونا.
ومع ذلك، أعلنت منظمة الصحة العالمية في وقت سابق أنه لا دليل على أن لقاح السُل يُمكن أن يحمي من الإصابة بكورونا، ولم توصِ به لقاحًا فعالًا للوقاية من "كوفيد 19". وفي الوقت الحالي، يحتاح الخبراء والباحثون إلى مزيد من الأدلة.
فيديو قد يعجبك: