إعلان

سعدي الشيرازي: تعرف على الشاعر الفارسي الذي أثر في كبار المفكرين الغربيين

10:00 ص السبت 27 يونيو 2020

طرأت للشاعر فكرة تأليف كتاب روضة الورد بينما كان ي

لندن- (بي بي سي):

في القرن الثالث عشر ميلاديا، وفي إحدى أشد الحقب اضطرابا في التاريخ الإيراني، غادر الشاعر سعدي الشيرازي مسقط رأسه شيراز للدارسة في بغداد، وجاب بعدها مشارق الأرض ومغاربها، ولم يعد إلى شيراز، مدينة الورود والبلابل، إلا بعد ثلاثة عقود، وكانت المدينة آمنة أنذاك بفضل حكامها الترك، الذين نجحوا في حماية المدينة من هجمات المغول بعد أن أشاعوا الرعب في جميع أنحاء إيران.

ورغم أن هذا الشاعر كان قد ذاع صيته في المنطقة آنذاك، فإنه شعر أن حياته ضاعت سدى، وعقد العزم على أن يلزم الصمت إلى أن يموت. ولم يثنه عن عزمه سوى إصرار صديق له.

ففي فصل الربيع، كان الصديقان يتنزهان في إحدى الحدائق الفارسية في شيراز، واندهش سعيدي حين رأى صديقه يجمع الورود والأعشاب في أطراف ثوبه، فخاطبه بأشعار على شكل رباعيات الخيام قائلا إن هذه الأشياء الزائلة لا يدوم عبيرها إلا لفترة قصيرة، ووعده في المقابل بتأليف كتاب "روضة الورد"، الذي يجمع بين المتعة والتثقيف وستبقى صفحاته خالدة إلى الأبد.

وقد أوفى الشاعر بوعده، إذ يعد كتاب"روضة الورد" واحدا من أشهر الأعمال في الأدب الفارسي ولا يزال صداه يتردد منذ قرون عدة.

وكتب سعدي في واحدة من أكثر قصائده انتشارا، بل وربما الأكثر انتشارا على الإطلاق بين متحدثي الفارسية، يقول:

"آدميون نحن ولنفس الأصل ننــــتمي فكيف نهنأ بالعيش والغير يألمُ

ما استحق الحياة من يرى أخاه يشقى وهو بالملذات والخيرات ينــعمُ"

وبينما اشتهر شعراء فرس آخرون في القرون الوسطى بكتاباتهم المثيرة للعواطف عن العشق والفروسية ومآثر الأبطال وتحليل دخائل النفس الإنسانية ومكانة الإنسان في الكون، فإن سعدي الشيرازي كان، كما وصفه اللورد بايرون، "شاعر إيران الأخلاقي".

ورغم كثرة الاضطرابات والعنف في عصره، إلا أن سعدي كان يحدوه الإيمان والأمل في البشر، وشغلت القيم الأخلاقية والآداب حيزا كبيرا من كتاباته، واهتم بغرس السمات النبيلة في نفوس قراءه.

ويقول سعدي في إحدى كتاباته: "لا تسأل زاهدا ضاقت به السبل يعاني تحت وطأة المجاعة، عن حاله، ما دمت لا تحمل مرهما لتضمد به جراحه أو مالا لتنفق عليه". ورأى سعدي أن "الرجل الحر الذي يأكل ويتصدق خير من العابد الذي يصوم ويكنز ماله".

لكن سعدي كان أيضا مفكرا عمليا وواقعيا. ويعزو ديك ديفيس، الباحث في الأدب الفارسي، ذلك إلى أن سعدي عاش في عالم مليء بالعنف والصراعات. وكتب سعدي في "روضة الورد" يقول: "إن كذبا يولد مصالحة خير من صدق يولد المتاعب". وحذر أيضا من: "أن تنقل معلومات للأمير عن خيانة، إلا لو كنت متأكدا أنه سيقبلها، وإلا ستكون قد جلبت على نفسك الهلاك".

ويحمل كل من كتابيه "روضة الورد" و"البستان" الكثير من الأبيات التي تدل على صعوبة العصر الذي عاش فيه سعدي، كما يحويان الكثير من الحكم والمواعظ التي يمكن الاستفادة منها لمواجهة الوباء الحالي.

وفي وقت سابق من ذاك القرن، هرب الشاعر جلال الدين الرومي من المغول بينما كان طفلا، تاركا مسقط رأسه مدينة بلخ، وسافر غربا مع عائلته. وكان هذا القرار حكيما، فلم يلبث بعدها أن قتل الشاعر الفارسي الصوفي عطار النيشابوري على يد المغول.

لكن لا نعرف بعد ما إن كان سعدي، الذي غادر شيراز بعد مذابح المغول شرقي إيران، قد بدأ أسفاره لنفس السبب أم لسبب آخر، خاصة وأن الكثير من حكايات سعدي عن أسفاره قد لا تكون صحيحة تماما.

إذ ذكر سعدي في "روضة الورد" و"البستان"، على سبيل المثال، أنه وقع أسيرا في يد الصليبيين في سوريا، وزار الصين والهند. لكن ديفيس يقول إن "حكاياته عن الأسر على يد الجيوش الصليبية وأنه استعبد لفترة من الزمن، يقال الآن إنها من نسج الخيال".

ويرى المؤرخ هوما كاتوزيان أن سعدي ربما سافر إلى سوريا وفلسطين والجزيرة العربية وليس خراسان أو الصين أو الهند. لكن من المؤكد أنه غادر إيران وعاد بعد فترة غياب طويلة محملا بقطوف من الحكم والأخبار والأفكار من مختلف البلدان. وتكشف كلماته عن أنه رجل معاصر متفتح، وليس صوفيا منعزلا.

ولمّح سعدي في "روضة الورد" إلى أن بعض قصصه قد لا تكون حقيقية، لكن الهدف من رحلاته، كما ذكر لصديقه، كان الإمتاع وليس التعليم فحسب. ولهذا يحمل "البستان" و"روضة الورد" الكثير من سمات قصص الرحلات والمغامرات في ذلك الوقت، فلا تخلو هذه القصص من وصف لقطّاع الطرق والبحارة والقتلة والحكام المستبدين، وتضم أيضا بعض النوادر والقصص الطريفة.

وفي فصل "فضل السكوت"، على سبيل المثال، يحكي سعدي عن مقرئ صوته منفر ويقول: "مرّ رجل متدين على مقرئ صوته منفر وسأله عن راتبه. فرد عليه المقرئ: 'لا شيء'. واستفسر الرجل: 'إذا، لماذا تحمّل نفسك عناء التلاوة؟' فأجاب: 'أنا أتلو القرآن في سبيل الله'. ورد الرجل: "فلم لا تكف عن تلاوة القرآن في سبيل الله".

ويقول ديفيد روزينبوم في مقدمة ترجمة "روضة الورد" إلى اللغة الإنجليزية في القرن التاسع عشر: "إن القارئ قد ينسى أنه يتعلم شيئا، وكأن دواء شعر سعدي مغموس في العسل".

وقبل عام من كتابه "روضة الورد" ألف سعدي كتاب "البستان"، وهو عمل شعري مكون من 10 فصول. في حين أن "روضة الورد" هو عمل نثري تتخلله أشعار، ويتكون من ثمانية فصول عن موضوعات مشابهة.

وقد ألف هذين الكتابين في رعاية حكام شيراز السلغوريين ويتحدث سعدي في كثير من الاحيان عن السلوكيات الملائمة للملوك والوزراء، لكن الكتابين كما يقول ديفيس: "كانا مرآة لجميع الناس. إذ يعدان جزءا من إرث قديم في الأدب الفارسي للموعظة والنصح والتهذيب"

وأفاض سعدي الحديث في كتاب "البستان" عن الرضا والامتنان والإحسان والتواضع، بينما يتضمن "روضة الورد" قصصا عن مواعظ الزهاد، والخبرة والتجارب والرضا، بالإضافة إلى حكم وأقوال مأثورة أخرى.

ويرى سعدي أن الحرمان أفضل من أن يمد المرء يده للآخرين ويستدين. ويقول إننا ينبغي أن نتوخى الحذر فيما نتمنى، فقد تجعلنا أمنياتنا أسوأ حالا. ويرى أننا قبل أن نتهم الآخرين، يجدر بنا أن نحاسب أنفسنا، وأن السكوت من ذهب، وأن الثراء الروحاني خير من الثراء المادي، وأن القدر أقوى من الإرادة.

وتستمد بعض آراء سعدي جذورها من الدين، لكن معظم نصائحه بشكل عام تصلح لكل زمان ومكان ولا تقتصر على إيران في حقبة العصور الوسطى فحسب.

مواعظه عن الخير

وكان سعدي من أوائل الشعراء الفرس الذين تصل شهرتهم إلى أوروبا، وترك أثرا واضحا في كتابات أدباء عصر التنوير والعصر الرومانسي في فرنسا وخارجها، ومنهم فولتير ودنيس ديدرو، ويوهان غوته وفيكتور هوغو، الذي اقتبس بعض فقرات من "روضة الورد" في ديوانه "الشرقيات".

وكان تأثير سعدي واضحا في رواية "زديغ" لفولتير. ويقول دكتور مظفر بخراد في كتابه "حظوظ سعدي الأدبية في فرنسا"، "إن شخصية ملك سرنديب ووزيره والمجتمع المثالي كلها مستلهمه من أعمال سعدي".

ويرى أن فولتير وجد في سعدي مرشدا حقيقيا في الفلسفة، إلى درجة أن "عدوه اللدود إيلي فريرون، كان يستخدم اسم سعدي للإشارة إلى فولتير في نقده اللاذع لأعماله".

وكتب الشاعر رالف والدو إيمرسون في الولايات المتحدة، قصيدة ثناء في سعدي، وأطلق عليه اسم "باعث البهجة في نفوس الرجال"، وعلق على الجاذبية العالمية لحكمه التي تدعو للخير والإحسان باللهجة الفارسية، قائلا: "إن سعدي يتحدث بلسان جميع الأمم، وكشأن، هومر وشكسبير وثيربانتس وميشيل دي مونتين، ومونتينيو، فإن كتاباته تصلح لجميع العصور".

ولا تزال أبيات أشعاره عن وحدة البشر من كتاب "روضة الورد" تزين السجادة الفارسية بمركز الأمم المتحدة في نيويورك، وقد اقتبسها باراك أوباما في كلمته بمناسبة رأس السنة الفارسية في عام 2009.

لكن ما الذي يمكن أن نتعلمه اليوم من دروس سعدي، إذ تضمن الكتابان "البستان" و"روضة الورد" بلا شك عدة نصائح قد تفيدنا في التعامل مع وباء كورونا المستجد. فقد حض سعدي قراءه في "البستان" على أن يكونوا كرماء مع المحتاجين، "حتى لا تطرقوا أبواب الغرباء". وقال: "إن لم تستطع حفر بئر في الصحراء، ضع على الأقل مصباحا في ضريح".

وذكرنا سعدي بأن ما نحتاجه أقل بكثير مما نأمله. وعندما قال ناقد لأحد الأولياء إنه سيبني له منزلا أفضل، سأله الولي: "وما حاجتي بالسقف المرتفع؟ إن ما بنيته يكفيني للسكن وسأتركه حتما عند موتي".

ووبخ الطبيب الإمبراطور أردشير بابكان لأنه "يعيش ليأكل"، وليس العكس، وحكي سعدي عن مصير حيوان الشره (اللّقام)، الذي سقط من الشجرة من فرط البدانة. وينصح سعدي قراءه بأن يكونوا شاكرين للنعم التي لديهم ويحافظون عليها.

ويقول: "لا أحد يعرف قيمة العافية إلا من أنهكته الحمى. وكيف تشكو من طول الليل وأنت مستلق على فراشك الوثير؟"

وذكر سعدي قصة في "روضة الورد" عن مخاطر الانقياد الأعمى وراء نصائح أشخاص غير مؤهلين لتقديمها. إذ ذهب رجل يعاني من ألم في العينين إلى طبيب بيطري وأعطاه دواء لعينيه يضعه عادة على حوافر الخيل. وبعد أن أصيب بالعمى، ذهب إلى القاضي ليشكو الطبيب. ورفض القاضى شكواه قائلا: "لو لم يكن هذا الرجل حمارا، لما ذهب إلى طبيب بيطري".

ويقول سعدي موضحا: "من يأتمن شخصا عديم الخبرة على عمل مهم ويندم بعدها، سيرى أصحاب العقول أنه يعاني بسبب طيشه".

ومرت سنوات عديدة منذ أن ألف سعدي الشيرازي "روضة الورد" و"البستان"، لكن، كما توقع بعد عودته إلى شيراز، حيث يوجد قبره وسط روضة غناء، فإن صحفات هذه الكتب الفارسية المليئة بالحكم والمواعظ ستبقى أثرا خالدا، او كما قال سعدي: "عمر هذه الأزهار مهما طال، فهو قصير، لكن هذه الروضة ستظل قطوفها عطرة أبد الدهر".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان