ثلاث صور من الثورة التونسية: أين أصحابها؟ وماذا حدث لهم بعد 10 سنوات؟
تونس- (بي بي سي):
في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات غادر بن علي تونس بعد تظاهرات شعبية عارمة جعلت كثيرين يرونها عنوانا لعهد جديد في تاريخ البلدان العربية أو ما عُرف لاحقا بالربيع العربي.
وقد اخترنا أبرز ثلاث صور التقطتها عدسات المصورين فصارت صورا أيقونية تعبر عما حدث في تونس. بحثنا عن أصحابها ليحكوا لنا ما وراء تلك الصور وما قبلها وما بعدها في عشر سنوات؟
حكاية صورة العصفور
ايُدعى وديع الجلاصي، وكانوا ينادونه بـ" العصفور" خلال التظاهرات التي بلغت ذروتها يوم 14 يناير، وقد ظهر حاملا قفصا بداخله حمامة بيضاء يعتليه العلم التونسي.
هذه الصورة التقطتها عدسات المصورين في شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة تونس، أمام مقرّ وزارة الداخلية، قبل ساعات من رحيل بن علي المفاجئ.
لكن سبقت هذا اليوم أيام من التظاهر والتحرك على الأرض منذ بداية ديسمبر / كانون الأول 2010 ، كما يشير وديع الذي يقول إن الهدف من حمل القفص خلال هذه التظاهرة كان التمويه للهروب من قبضة الشرطة ولم يكن الأمر مخططا له قبل التظاهرة.
ويضيف: "في الرابع عشر من يناير أخبرني بعض الأصدقاء أنني قيد المراقبة، وقد كنت أخطط للنزول للمشاركة في تظاهرة في شارع الحبيب بورقيبة، فحملت قفصا به حمامة حتى إذا اعترض طريقي أي شرطي، أدعي أن سبب وجودي في الشارع هو بيع الحمام في سوق المنصف باي- وهو سوق شعبي تُباع فيه الطيور المنزلية والسلع اليومية ".
ويتذكر وديع أنه عندما بدأت المناوشات بين المتظاهرين ورجال الأمن بعد مرور جنازة لقتيل في شارع الحبيب بورقيبة، ارتفع صدى الدعوات المطالبة برحيل بن علي، ووقتها فكر وديع في فتح القفص للسماح للحمامة بالطيران في إشارة إلى أن "الحرية بانتظار المتظاهرين".
كان عمر وديع حينئذ 21 عاما وكان عاطلا عن العمل منذ 6 سنوات، بعد أن ترك الدراسة في المرحلة الإعدادية ليساعد عائلته في عمر الـ 15.
ويقول وديع: "تعرفت على عدد من المحامين عندما كنتُ نادلا في نادي المحامين قبل الثورة بشهرين، وانخرطت معهم في العمل السياسي، وقد كنت ألصق المنشورات على الحيطان في مختلف الولايات لحث الناس على المشاركة، كما كنتُ أشارك في تنظيم التظاهرات".
وبعد عشر سنوات مما حدث، يقول وديع: "لم يتغير أي شيء في تونس فالفقر والفساد والمحسوبية وضعف الخدمات كما كان بل وأسوأ". لكنه يرى أن "حرية الرأي والتعبير أصبحت مكفولة وهي مكسب لم يكن ليتحقق لولا ثورة الياسمين، لكن مازال الطريق طويلا لتحقيق بقية المطالب".
أين صاحب فيديو "بن علي هرب"؟
بعد ساعات من التقاط صورة وديع، راج على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو آخر لرجل يهتف وحيدا "بن علي هرب. ما عدش نخاف. اتحررنا. يا توانسة اتنفسوا الحرية".
صُور هذا الفيديو بعد دقائق من الإعلان عن مغادرة بن علي ويقول صاحبه، المحامي التونسي، عبد الناصر العويني: "في تلك اللحظة رأيتُ حلمي يتحقق بعد سنوات من التشكيك فيه".
ويقول عبد الناصر إنه بمجرد سماع الخبر "لم أتمالك نفسي فنزلت مسرعا لشارع الحبيب بورقيبة للاحتفال، وظللتُ أهتفُ وحيدا هناك مدة 40 دقيقة على أمل أن ينضم متظاهرون آخرون لكن لم يأت أحد".
ويحكي العويني: "لم أكن مدركا ما يحدث حولي من فرط سعادتي، فالشارع صار ملكي، وأستطيع أن أعبر عن نفسي بحرية فلم يعد يراقبني أويتتبعني أحد". ولم ير عبد الناصر هذا الفيديو إلا عندما أرسله له أحد الأصدقاء بعد رحيل بن علي بثلاثة أيام، رغم أنه وُضع على يوتيوب في اليوم التالي للرحيل.
ولم يكن يوم 14 يناير يوما عاديا منذ بدايته، فبحسب عبد الناصر كان يوما صعبا حيث خرج في الصباح مع نحو 1000 محام آخرين في تظاهرة بزي المحاماة من أمام قصر العدالة بالعاصمة، مرورا بالمدينة العتيقة وانضم لهم ما يقرب من 10 آلاف مواطن، ليدخلوا بعد ذلك شارع الحبيب بورقيبة الذي كان ممتلئا بالمتظاهرين القادمين من كل الولايات التونسية ومن بينهم وديع.
وكان العويني مشاركا في التظاهرات في تونس منذ اليوم الأول، فبعد حرق البوعزيزي نفسه، اجتمع العويني ونحو 7 محامين آخرين سرا يوم 24 ديسمبر لإنشاء لجنة سرية لمساعدة أهالي سيدي بوزيد وتشكيل جبهة للدفاع عن المعتقلين منهم بعد التظاهرات التي وقعت في الولاية، وبعدها بـ 3 أيام نظموا وقفة أمام قصر العدالة في العاصمة احتجاجا على قمع التظاهرات وهي التظاهرات التي انضم إليها الآلاف من المواطنين، لا المحامون وحسب ورفعوا شعار: "يا قضاء عيب عليك الطرابلسية يحكموا فيك". وكل ذلك قاد إلى اتساع نطاق الاحتجاجات لتصل العاصمة في 12 يناير.
ويرى عبد الناصر في سقوط نظام بن علي "انتصارا شخصيا" حلم به منذ المرحلة الثانوية.
ويؤكد العويني أنه بعد سنوات من الإحباط " الناس كانت تسخر مني في التسعينيات عندما كنت أتظاهر واعتقل ويقولون لماذا تضيع عمرك ووقتك؟" لكن مع هروب بن علي شعرت أنى كنت محقا في التمسك بما أؤمن به، ورغم الإحباط انتصرنا".
وبعد 10 سنوات من رحيل بن علي، يرى العويني أن الثورة انحرفت عن مسارها، فالثورة رفعت شعار "شغل - حرية - كرامة وطنية"، وهي أمور مرتبطة ببعضها. بعد الثورة، تُرك التونسيون يعانون العوز مما يحد من حريتهم وينتقص من كرامتهم. فالبلاد لاتزال تعيش في ظل نفس النمط الاقتصادي والاجتماعي، بالتركيبة ونفس السياسة غير العادلة التي تعطي الأقلية امتيازات على حساب الأغلبية وهي السياسة التي كان يتبعها نظام بن علي.
"الخبز في مواجهة السلاح"
كان يحمل قطعة خبز "باغيت" بدلاً من السلاح وصوبها نحو قوات الأمن خلال تظاهرة في وسط العاصمة التونسية، يوم 18 يناير/ كانون الثاني من عام 2011.
الصورة التقطها مصور يعمل لصالح وكالة الأنباء الفرنسية، وليس لدينا أى خيط يقود لهذا الشخص سوى الصورة التي تصدرت الصحف العالمية.
وجدنا معلومات شحيحة ومتضاربة عنه، كأن اسمه صلاح السبيع وأنه توفى منذ عام، وهي المعلومات التي اكتشفنا لاحقا عدم صحتها، فذهبنا نبحث عن أصدقائه أو جيرانه لنعرف مزيدا من التفاصيل عن صاحب الصورة وحياته ومصيره.
كل من قابلناهم عرف " كابتن خبزة" لكن قليلين منهم يعرفون مكانه، بينما قال بعضهم إنه مازال حيا يرزق وإنه يسكن في نهج مرسيليا بتونس العاصمة.
وهناك قال لنا أحد العطارين إنه يسكن في حي الخضراء وهو أحد أقدم الأحياء الشعبية بشمال العاصمة التونسية.
توجهنا لسوق حي الخضراء، فعرفه الجميع وأكدوا أنه كان يأتى يوميا للجلوس معهم، سألناهم عن منزله فقادنا أحد الشباب لمنزل مغلق.
وقال " خلف هذا الباب الأسود يسكن عم جلال".
معظم الجيران يعرفون اسمه الأول، جلال، لكن لا أحد يعرف لقبه.
طرقنا الباب فلم يجب أحد، حتى خرج لنا صاحب محل حلويات عراقي الجنسية يجاور منزل عم جلال ويعرفه جيدا.
أكد لنا أنه نُقل منذ شهر لمستشفى ومن بعدها تم إيداعه في إحدى دور رعاية المسنين.
قال إنه كان يعيش فى ألمانيا منذ طفولته مع أمه وأبيه، وهو وحيدهما و ليس لديه أخوه، وعاد لتونس قبل الثورة بشهرين فقط.
الجار يعرف أنه طُرد من ألمانيا ورُحل لكن لا يعرف السبب.
وبحسب الجيران كان متزوجا من تونسية ولديه ابن لكن لا أحد يأتي لزيارته.
وكان يعاني منذ عودته لتونس من مشكلات نفسية ويتعاطي أدوية لتحسين حالته المزاجية التى كانت تسوء كل يوم، بحسب الجيران.
كابتن خبزة والسخرية السياسية
وقد طور خمسة شباب شخصية كرتونية تمثل "كابتن خُبزة"، على طريقة "ذ سمسونس"، يرتدي ملابس سوبر مان و يتحدث بلهجة تونسية طريفة، بعد ثلاثة أسابيع فقط من رحيل بن علي.
وغزت هذه الشخصية صفحات الفيسبوك.
وفيها تولى" كابتن خبزة" انتقاد الأوضاع بطريقة ساخرة، باعتباره يمثل كل مواطن تونسي يعاني مشكلات يومية ولديه أحلام وتطلعات.
وبقيت هوية أصحاب هذه الفكرة مجهولة، إذ يكتفون بالإشارة إلى أنفسهم اعتماداً على ألقاب مثل "خبّاز 1"، و"خبّاز 2".
وكان السياسيون المادة الأوّلى لسخرية " كابتن خبزة"، واجتذبت صفحة "كابتن خبزة" على فيسبوك أكثر من 214 ألف متابع، قبل أن يتوقف نشاطها في مارس من عام 2014.
ووقت الثورة تفاجأ الجميع بصورته تجوب وسائل الإعلام العالمية، وبحسب الجيران لم يكن جلال يتحدث عن الصورة، رغم أنه كان يعرف أنها انتشرت.
يضيف جيران "كابتن خبزة " كما صاروا ينادونه أنه رجل هادئ ولا يتعرض لأي شخص لكنه "لا يترك حقه أبدا ولا يسمح بالتعرض له"، وكان يخرج يوميا للسوق القريب من منزله ويتحدث للناس ويعود ليلا للنوم في المنزل الخاص بعائلته والذي يعيش فيه بمفرده.
للمفارقة التي غالبا لم تكن مقصودة، تظاهر التونسيون في الشارع نفسه الذي التقطت فيه صورة "كابتن خبزة" وفي كل الولايات الأخري احتجاجا على ارتفاع أسعار الخبز في يناير من عام 1984، إلى أن تراجع الرئيس الذي يحمل الشارع الآن اسمه، الحبيب بورقيبة، عن القرار بعد تظاهرات تخللتها أعمال عنف، الأمر الذى استدعى تدخل الجيش.
فيديو قد يعجبك: