لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"مدن الـ15 دقيقة" التي ستغير شكل العاصمة الفرنسية

11:19 ص الأربعاء 06 يناير 2021

ارشيفية

(بي بي سي):

ظلت سولينيه فرايولي، التي شارفت على الثلاثين وتعمل نادلة بأحد المطاعم، لسنوات متمسكة برأيها بأن العيش في باريس ليس مجهِدا نفسيا. فقد انبهرت فرايولي، التي نشأت على مشارف المدينة وتعيش الآن في شقة صغيرة بقلب المدينة، بالفرص التي لا حدود لها في العاصمة الفرنسية، من حفلات الجاز الليلية وحتى الأطعمة الشهية من مطبخ غرب أفريقيا ودروس فن الكابويرا القتالي البرازيلي.

لكنها أخيرا أدركت أن العيش في مدينة النور له مساوئه، وخاصة صخب هذه المدينة المفعمة بالطاقة. وتقول فرايولي: "باريس مدينة لا تهدأ. الجميع يتحرك ليلا ونهارا في كل مكان".

لكن جائحة كوفيد-19 أجبرت هذه المدينة الصاخبة فجأة على التوقف. وترى فرايولي أن الحجر الصحي الذي فرض على المدينة لمدة شهرين، ساعدها في التعرف على الحي الذي تعيش فيه، وتقول: "اكتشفت أنك قد تشعر في باريس أيضا بدفء القرية الصغيرة، حين تتعرف على جيرانك وتقيم علاقة ود مع أصحاب المتاجر، وتحبذ الشراء من الحرفيين والتجار القريبين من منزلك بدلا من الذهاب للمتاجر الكبرى. واشتركت في مبادرات مجتمعية لإعداد سلال الطعام للمشردين".

لم تكن فرايولي الوحيدة التي انتابتها هذه المشاعر حيال منطقتها، إذ يقول فالنتين جيدراتشيك، الموظف الحكومي البالغ من العمر 25 عاما ويعيش في باريس: "إن تجربة الحجر الصحي وطدت العلاقات بيني وبين بعض الناس. فكنت أجوب شوراع منطقتي، جيئة وذهابا، أكثر من المعتاد واكتشفت أماكن رائعة على مرمى حجر من منزلي".

لا شك أن الجائحة أثرت على الطرق التي يتفاعل بها سكان المدن ذات الكثافة السكانية العالية مثل باريس. فالقيود التي فرضت للحد من انتشار الوباء غيرت أنماط التواصل والتنقل والاستهلاك ومخالطة الآخرين. ويرى كارلوس مورينو، المدير العلمي والأستاذ المتخصص في الابتكار والنظم المركبة بجامعة بانتيون سوربون في باريس، أن الحياة في المدن بعد الوباء لن تعود قط كسابق عهدها.

ويقول مورينو إن إغلاق مراكز المدن كشف لنا عن أهمية الروابط الاجتماعية، لكن من منظور مختلف. ويضيف: "لم يفكر الكثيرون قبل الوباء في زيارة المتاجر القريبة من منازلهم، ولم يعرفوا جيرانهم أو المتنزهات القريبة منهم. وكل ذلك ساعدنا الوباء في اكتشافه. فقد تغيرت نظرتنا لأحيائنا، وهو ما أسهم في تحسين جودة حياتنا".

ويعد مورينو أحد المنظرين الرئيسيين الذين ساهموا في الترويج لنموذج تخطيط عمراني جديد يبدو أنه ينسجم تماما مع هذه الرؤية الجديدة للأحياء، وهو نموذج "مدينة الـ 15 دقيقة". ويدور هذا المفهوم حول تحسين جودة حياة السكان بتصميم مدن يستطيع سكانها الوصول إلى جميع احتياحاتهم سيرا أو بالدراجة في غضون ربع ساعة فقط. فلا يحتاجون لقطع مسافات طويلة للوصول إلى أعمالهم أو المطاعم أو المتنزهات أو المستشفيات أو المراكز الثقافية.

ويجب أن تحقق كل منطقة من هذه المناطق ست مهام: السكن والعمل وتوفير الاحتياجات الأساسية والرعاية والتعليم والترفيه.

ويرى مورينو، الذي كان يعمل على بلورة هذا المفهوم قبل ظهور الوباء بوقت طويل، أن فكرة مدن الـ 15 دقيقة جاءت كرد فعل لأزمة تغير المناخ، من خلال زيادة المبادرات الصديقة للبيئة في الأحياء والحد من استخدام وسائل النقل، ومشكلة التمدد العمراني. لكنه يقول إن الحجر الصحي أفرز اتجاها جديدا نحو حصر الأنشطة الاجتماعية للسكان في أحيائهم السكنية، وساعد في وضع مفهوم مدن الـ 15 دقيقة على قائمة أولويات المدن الكبرى حول العالم.

"مدينة متكاملة"

واستمدت فكرة مدينة الـ 15 دقيقة عناصرها من الكثير من المفكرين والمخططين العمرانيين على مدى عقود. ففي العشرينيات من القرن الماضي، اقترح كلارينس بيري، المخطط العمراني الأمريكي، فكرة الوحدة السكنية الملائمة للعيش. وفي عام 1962، منعت مدينة كوبنهاغن دخول السيارات في بعض شوارع التسوق الرئيسية، وخصصتها للمشاة فقط. وانتشرت في الولايات المتحدة في الثمانينيات من القرن الماضي، حركة تدعو لتصميم مدن تصلح للسير في طرقاتها.

لكن بينما تركز هذه المبادرات على تسهيل التنقل والسير وتوفير الخدمات العامة، فإن مفهوم مدينة الـ 15 دقيقة كان استجابة لتداعيات تغير المناخ وجائحة كوفيد-19 والعولمة. وركزت مبادرة باريس على الجانب البيئي لجميع المبادرات السابقة بالإضافة إلى إقامة أحياء متكاملة تجمع بين الوحدات السكنية وبين أماكن العمل والمراكز الثقافية والاجتماعية.

ووضعت آن هيدالغو، عمدة باريس، فكرة مدينة الـ 15 دقيقة في مقدمة أولوياتها في حملتها الانتخابية لعام 2020، مسلطة الضوء على أربعة مبادئ أساسية، وهي قرب المسافات والتنوع والكثافة السكانية وتطبيق الفكرة على جميع الأحياء. وعينت هيدالغو المفوضة كارين رولاند لتنفيذ هذه الخطة. وتقول رولاند عن هذه المدن "إن كل شيء فيها في متناول يدك".

وتقول رولاند: "إن تقريب المسافات سيساعدنا في اكتشاف طرق جديدة للعيش في المدن من خلال علاقاتنا الاجتماعية. فنحن نحتاج لمساحات مفتوحة، حيث يلتقي الناس أو يصادفون أكبر عدد ممكن من الأشخاص. فجودة حياتنا تتحسن عندما نعيش معا، لأن هذا يساعد في تقوية نسيج المجتمع".

ومنذ أن تولت هيدالغو منصبها في عام 2014، اتخذت خطوات لتطوير الأحياء، مثل منع المركبات الأكثر تلويثا للبيئة من دخول العاصمة ومنع سير السيارات على ضفاف نهر السين، وزيادة المساحات الخضراء الصغيرة في المدينة. ومنذ عام 2018 تحولت أفنية 40 مدرسة في باريس إلى حدائق خضراء، وأضيفت طرق للدراجات يتجاوز طولها 50 كيلومترا إلى شوارع العاصمة. وخُصص 30 مليون يورو لتجديد سبعة ميادين كبرى، منها ساحة الباستيل. وتعهدت هيدالغو بتخصيص مليار يورو سنويا لأعمال صيانة وتجميل شوارع وميادين وحدائق العاصمة.

وحذت مدن أخرى حول العالم حذو باريس، مثل مدريد وميلانو وأوتاوا وسياتل، التي أعلنت عن خطط مماثلة للنموذج الفرنسي لبناء مجتمعات مفعمة بالطاقة وأكثر قدرة على الصمود. وتبنت ملبورن خطة استراتيجية طويلة المدى لتطوير أحياء العشرين دقيقة. وروّج ائتلاف مدن "سي 40"، المعني بمكافحة تغير المناخ، لنموذج مدينة الـ 15 دقيقة للمساعدة في تعافي المدن حول العالم بعد الجائحة.

ويصف فلافيو كوبولا، مدير التخطيط العمراني ببرنامج مدن "سي 40"، هذا النموذج بالقول: "إنه لن يخفض الانبعاثات من وسائل النقل فحسب، بل أيضا سيساعد الأحياء على الصمود في وجه الصدمات. فضلا عن أنه يتضمن تغيير استخدام الأراضي لإقامة شركات وفضاءات مشتركة غير المنزل والعمل ليلتقي فيها السكان الذين يعملون عن بُعد".

وعن تأثير ذلك على الصحة النفسية للسكان، يقول ريتشارد بينتال، أستاذ علم النفس بجامعة شيفيلد، الذي درس تداعيات جائحة كوفيد-19 على الحياة الاجتماعية والصحة النفسية، إن حس الانتماء الذي تعززه مدن الـ 15 دقيقة، سيجعلنا جميعا أسعد حالا.

ويفسر ذلك بالقول: "ربطت دراسات بين العيش في البيئات الحضرية وبين تردي الصحة النفسية. وبينما أثرت الجائحة سلبا على بعض سكان المناطق الحضرية، فقد أثرت إيجابا على آخرين. إذ أوضحت دراسات أنه كلما زاد التفاعل بين الجيران، زاد الشعور بالانتماء للمنطقة. وهذا الشعور يقي من الاضطرابات والأمراض النفسية".

سكان أكثر انخراطا في المجتمع

وقد أثار البعض مخاوف من أن يسهم نموذج مدن الـ 15 دقيقة في تعميق الانقسامات الاجتماعية، وتوسيع الفجوة بين الأحياء الغنية والفقيرة. فبينما ستستفيد الأحياء الغنية من المرافق والخدمات عالية الجودة، قد تقل فرص سكان المناطق الفقيرة في الانتقال إلى طبقات اجتماعية أخرى.

وتقول إليزا بييري، المحاضرة في علم الاجتماع بجامعة مانشستر: "لكي تصبح الأحياء أكثر ملائمة للعيش، ينبغي الاهتمام بتطوير المرافق والخدمات لتلبي أعلى معايير الجودة، وإلا ستحتضن الأحياء المهمشة أسوأ المدارس والخدمات الصحية، وهذا سيفاقم التمييز وانعدام المساواة والوصم الاجتماعي الذي يلاحق سكان المناطق الفقيرة".

ومن المعروف أن سكان الضواحي الفقيرة الباريسية طالما عانوا من العثرات الاجتماعية والاقتصادية التي حالت دون نجاحهم وترقيهم الاجتماعي. لكن كوبولا يرى أن حماية المدن من هذه المخاطر يتطلب التركيز على الأحياء الأكثر احتياجا للتطوير والتجديد، مشددا على أن الغرض من مدن الـ 15 دقيقة هو "تسهيل وصول السكان لجميع الخدمات وتحقيق الاستدامة".

وأثار البعض مخاوف من أن تفقد المدن الحديثة جوهرها. فقد حذرت إلينا ماغريني، المحللة بمركز أبحاث "مركز المدن" بالمملكة المتحدة، من أن هذا الاتجاه نحو إنهاء المدن الكبرى قد يؤثر على الإبداع. وتقول: "إن المدن تتيح للناس الاختلاط والتجمع وتبادل الأفكار. وهذا يحدث في الغالب في قلب المدينة، فهل يمكن أن نبدع ونبتكر إذا أصبحت مراكز المدن شيئا من الماضي؟"

لكن مورينو يرى أن إشراك سكان مدينة الـ 15 دقيقة في اتخاذ القرارات التي تخص أحياءهم، سيعزز الإبداع ويحسن الشعور بالرضا والسعادة، مشيرا إلى نموذج الموازنة التشاركية في باريس، الذي أتاح للسكان التصويت على خمسة في المئة من خطط الإنفاق في المدينة، بما يقدر إجمالا بنحو نصف مليار يورو.

ويقول مورينو إن الوباء جعلنا نعيد النظر في الطرق التي نتنقل بها وأنماط استهلاكنا وأساليب حياتنا. فقد اكتشفنا أن تغيير أنماط العمل ساعدنا في توفير الوقت وقضاء وقت أطول مع عائلاتنا وأصدقائنا، واكتشاف أحيائنا وتقدير أهميتها، ومن ثم أصبحنا أكثر انخراطا في المجتمع".

ويقول مورينو: "إن إقامة أحياء متكاملة على غرار نموذج الـ 15 دقيقة ليس سهلا كما يبدو. فثمة تفاوت كبير الآن بين أحياء الأثرياء وأحياء الفقراء والطبقة الوسطى والعمال، وأصبح لكل منهم الحي الخاص به. لكن ربما بإمكاننا الاستفادة من نموذج مدينة الـ 15 دقيقة للتركيز على الصالح العام. فإذا وظفت الأموال في محلها، سنضمن أن هذه الأحياء ستخدم سكانها".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان