الحرب في سوريا: لماذا تحض شابة أبناء وبنات جيلها على عدم الإنجاب؟
دمشق- (بي بي سي):
"غالباً ما أحث أصدقائي الشباب والشابات على عدم الزواج، وإن فعلوا ذلك بدافع الحب، أقول لهم فكروا ملياً قبل أن تتورطوا بإنجاب طفل لتضعوه في هذه الحياة لأنه سيُرمى بين فكي الحرب والجوع تماماً كما حدث لنا".
هذا جزء مما روته سارة البالغة من العمر 19 عاماً، لبي بي سي عربي، عن بعض الآثار السلبية التي خلفتها الحرب عليها وعلى الكثيرين من أبناء جيلها السوريين منذ اندلاع الحرب في البلاد قبل عقد من الزمن.
تقول سارة التي عاشت طفولتها في مدينة اعزاز شمالي البلاد: "لقد قررت ألا أتزوج مهما زادت ضغوطات أسرتي والمجتمع علي، لأنني لا أريد أن أرتكب جريمة بحق الطفل وأرميه للشقاء الذي نعاني منه الآن... لقد رأيت ما فيه الكفاية من أطفال يتامى وجوعى ومرضى وقتلى".
وكانت سارة تخضع لعلاج نفسي منذ أكثر من ثلاث سنوات، بسبب الحرب التي تركت أثراً سيئاً على حياتها، بعد أن عاشت تفاصيل الحرب وشاهدت الدمار من حولها حتى بعض الأشلاء البشرية المرمية على الطرقات.
وتقول: "كم هي رخيصة دماء هذا الشعب، وكم هي غائبة الرحمة من قلوبنا، لا أحد يقول كفى للحرب".
تقول أمينة، والدة سارة، وهي امرأة أربعينية، كانت تعمل مدرّسة قبل أن تندلع الحرب في سوريا، إنها كرّست كل وقتها وحياتها لابنتها الوحيدة التي كانت على شفا خطوة واحدة من الانتحار عدة مرات.
عندما أرهبتني عبارة "الله أكبر"
أصيبت سارة بحالة من الهلع والفوبيا من عبارة "الله أكبر" وكلمة "تكبير" التي كانت ولا تزال تُستخدم بكثرة من قبل الفصائل الإسلامية المتشددة عند هجومها على موقع ما.
وتصفهم بقولها: "كانوا يرددون بشكل جماعي كلمة "تكبير" وعبارة "الله أكبر"، يليها إطلاق رصاص وتفجيرات وصراخ النساء والأطفال، وغيرها الكثير من الأفعال التي طُبعت في ذاكرتي وأصابتني بالرهبة من المشاهد والمقاطع الكثيرة التي كانت منتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى شاشات التلفزيون".
وتوضح سارة كيف إن استخدام هؤلاء لشعار ديني في عمليات العنف التي يقومون بها قد شوهه في ذهنها فتقول: "كنت أرتعد لتلك الكلمات حتى لو نطقتها والدتي أثناء دعواتها وصلواتها، أو سمعتها من الجامع المجاور عند آذان الفجر، كنت أستيقظ وأنا أرتجف وأتنفس بصعوبة، لأنها ارتبطت في ذاكرتي وقتذاك، برجال أشرار، يذبحون ويقتلون ويخطفون ويحرقون ويسبون النساء، بلا رحمة".
وتقول أمينة إن حالة طفلتها تطورت لدرجة أنها كانت ترتعد خوفاً وتهرع للاختباء في أبعد زاوية في المنزل.
خشيت الأم من أن تكون ابنتها قد أصيبت بالجنون على حد تعبيرها. "لم أتركها ولا لحظة لوحدها منذ ذلك الحين بعد أن نجحت مرتين في إنقاذها من الانتحار".
وتشرح سارة، حالتها النفسية التي عانت منها قبل سنوات قائلة: "كنت أشعر كما لو أن جسدي قد شُلَّ تماماً عندما كانت عيناي تقع على أولئك الملتحين المسلحين، كانت نبضات قلبي تتسارع، وأشعر باختناق في صدري في كل مرة كنت أسمع فيها تكبيرات وأقول لنفسي هذا هو يومي الأخير، هذه هي اللحظة الأخيرة في حياتي".
وتضيف: "كنت أتخيل نفسي في طابور طويل لا نهاية له على باب جهنم، وغالباً تخيلتهم يركلون باب منزلنا الأمامي بأقدامهم ويأخذونني معهم، كنت أتساءل هل سأكون جارية وأُغتصب من قبل جميع أولئك الرجال ذوي لأشكال الغريبة، أو أتحول إلى خادمة مهانة ومُذَلة أم أن رأسي سيُقطع بالسيف لو حاولت مقاومتهم، كانت الساعات القليلة التي أبدأ فيها سماع تلك التكبيرات أشبه بدهر لا ينتهي".
كانت حالة عائلة سارة المادية جيدة جداً قبل الحرب، فقد كان والدها مقاولاً في أعمال البناء، وكان حلم شقيقها - الذي قُتل برصاصة طائشة في حلب - أن يصبح عازف غيتار مشهور، وكثيراً ما كانت تغني معه أثناء تدرّبه على آلة الغيتار في غرفته.
عاشت سارة مع والديها، حالها حال مئات الآلاف من النازحين داخل البلاد؛ فقرا وجوعا وخوفا وبردا وحرمانا من التدفئة، بعد أن كانت تتمتع بالعيش الرغيد والرفاهية قبل الحرب.
وانتهى بأسرتها المطاف في السنوات الأخيرة في حي عشوائي في حلب، تعيش على المساعدات والأموال التي يرسلها إليهم أقاربهم في أوروبا.
وفي بداية العام الحالي، شعرت سارة بتحسن ولم تعد تزور الطبيب النفسي، الذي بدأت معه علاجها على نفقة أقاربها المغتربين. واستعادت علاقتها بمحيطها من جديد، إلا أنها عادت بأفكار تصفها والدتها بـ "الغريبة واليائسة وغير المألوفة".
قررت سارة متابعة دراستها قدر المستطاع، فهي فتاة ذكية وعلمتها والدتها الكثير في ظل غياب دور المدارس.
بدأ بعض الشباب يتقدمون لطلب يدها، لكنهم يُفاجأون عندما تحكي لهم صراحة أنها ألغت فكرة الزواج من ذهنها بشكل كلي، لا بل وتشجعهم على اتخاذ نفس القرار لئلا "يُصنفوا هم الآخرون كمجرمين بحق الأطفال والطفولة".
تقول سارة: "إنها لجريمة كبرى أن نتزوج وننجب أطفالاً في ظل ظروف الحرب ونعرضهم للخوف والموت ونطعمهم من صدقات الناس ونداويهم بدموعنا وأحزاننا، إنها جريمة أن نجعلهم يعانون من حر الصيف وبرد الشتاء والظروف القاهرة والحرمان من التعليم والشقاء ... هذه أبسط حقوق الطفل وحقوق الإنسان، فلماذا نشارك في شقائهم؟".
ولكن ما الحل؟
تقول سارة: "لماذا لا نساهم في تربية ورعاية اليتامى الذين فقدوا أمهاتهم وآبائهم في الحرب، لماذا لا نحافظ على الموجودين بيننا مسبقاً ونتورط بإنجاب المزيد إلى هذه التعاسة التي نعيشها؟ فقد بتنا نتصدر العالم في عدد اليتامى".
ولم تعد الشابة خائفة من عبارات التكبير التي استخدمها المقاتلون الإسلاميون المتشددون بكثرة قبل البدء بأي هجوم، وتقول بروح الدعابة: "لقد كبرت الآن وأستطيع تمييز الأفكار الحقيقية وتمييز المزيفين الذين يتسترون على أفعالهم بهكذا عبارات".
وتسترسل في حديثها قائلة "رغم خسارتنا لمنزلنا الكبير وسيارتنا وأموالنا، إلا أنني أقول في قرارة نفسي إننا حقاً محظوظون لأن لدينا أقرباء يساعدوننا في نفقاتنا اليومية، ولكن ماذا عن مئات الآلاف من الأسر والأطفال الجياع الذين لا أقرباء أو معارف لهم يدعمونهم، قلبي يعتصر ألماً لرؤيتهم بتلك الحالة السيئة، لكن ليس باليد حيلة".
نسبة الفقر
ووفقاً لتقرير الأمم المتحدة، يعاني أكثر من 70 في المئة من السوريين من الفقر المدقع، وخاصة بالنسبة للذين نزحوا عن مدنهم أو قراهم ومصدر رزقهم، ولا يملكون المال من أجل أبسط الاحتياجات مثل وقود التدفئة والطعام والأدوية".
وقال مارك لوكوك، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، أمام مجلس الأمن الدولي الشهر الماضي، إن "حوالي 60 في المئة من السكان السوريين، أي 12.4 مليون شخص، لا يحصلون بانتظام على ما يكفي من الغذاء الآمن". مضيفاً أن الرقم ارتفع بشكل مخيف إلى حوالي 17 مليون شخص في أواخر العام الماضي.
وأظهر استطلاع جديد أجرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر على 1400 مواطن سوري، تتراوح أعمارهم بين 18 و25، داخل وخارج سوريا، أن ما يقرب من نصف الشباب السوريين فقدوا دخلهم بسبب الصراع، وأن حوالي 8 أشخاص من بين كل 10 أشخاص يكافحون من أجل توفير الغذاء والاحتياجات الأساسية الأخرى.
وقالت اللجنة: "تعرضت النساء بشكل خاص لضربة اقتصادية قاسية، حيث أفاد الاستطلاع أن 30 في المئة منهن داخل سوريا، دون مصدر على الإطلاق لإعالة أسرهن".
شهادات علمية معلقة وأخرى ذهبت في مهب الريح
لورا ونيفين، شقيقتان، درستا الرياضيات والكيمياء، لم تتخرجا من الجامعة بعد أن نزحتا عدة مرات خلال سنوات الحرب الماضية، التي تركت أثراً سلبياً للغاية في نفسيهما، وقلبت حياتهما رأساً على عقب على حد قولهما.
تقول لورا، الأخت الكبرى وتبلغ من العمر 24 عاماً، لم نستطع إكمال دراستنا بعد أن مات والدي، وخسرنا مصدر رزقنا وأراضينا التي احتلتها الفصائل المعارضة والجيش التركي. ولا توجد في المدينة وظيفة لنا وخاصة أننا لم نتخرج بسبب الانقطاع المستمر عن الدراسة وتغيبنا عن حضور الجامعة.
وتضيف "لكن الأصعب من كل هذا بالنسبة لي هو عندما أضطر للانضمام إلى طوابير الناس بانتظار المعونات الغذائية، وكنا نحن من يوزع الصدقات ذات يوم على المحتاجين. إنه شعور لا يمكن لمن لم يعشه، الإحساس به، أقسم أنه بالنسبة لي أقسى من الجوع".
وتضيف نيفين، وتبلغ من العمر 22 عاماً: "بعض النساء من حولنا ينصحننا بالزواج، ليتحمل أزواجنا مسؤولية كل هذا، لكن كيف نشرح لهن أننا لا نقبل لأنفسنا ذلك، ونحن من ننادي بالمساواة بين الجنسين وضرورة عمل المرأة واستقلالها مادياً، لتكون حرة ومستقلة، لكن لا يبدو لي أن هذه الحرب ستنتهي على الإطلاق، ليس أمامنا سوى الانتظار، أما عن المستقبل فلم أعد أفكر بالغد، فلتأخذنا الحياة أينما تشاء".
أما جواد ورلى، اللذان تخرجا من كلية الهندسة، وباتا يعملان في مطعم للوجبات السريعة، فيقولان إن معظم زملائهم لا يعملون بشهاداتهم التي حصلوا عليها، وحتى وظيفة المطعم تعد رفاهية، لأننا على الأقل نملك دخلاً ولو قليلاً.
وتقول أميمة الخضر، البالغة من العمر 25 عاماً، إن والدها منعها من متابعة دراستها وزوّجها بابن عمها رغماً عنها هي وِشقيقتيها لتخفيف النفقات على نفسه، بعد أن عمّت الفوضى البلاد.
أنجبت أميمة 5 أطفال أكبرهم يبلغ من العمر 8 سنوات، ولم يحظَ أي منهم بالتعليم حتى هذه اللحظة.
وتقول: "لا أحد من أطفالي يستطيع قراءة أو كتابة الحروف والأرقام، ولولا عطف الجيران علينا، لمات أطفالي جوعاً".
ليس لأميمة مصدر دخل، بعد أن تركها زوجها لأنه لم يستطع تأمين احتياجات الأطفال، تركها تواجه مصيرها وحدها.
وتضيف: "أما أحلامي فهي كثيرة جداً، أهمها أن أحصل على أبواب ونوافذ لمنزلي تقينا البرد، وملابس دافئة لأطفالي وأدعو من الله ألا يصيب أيا من أطفالي بمكروه لأننا لا نملك مالاً نسد به جوعنا فكيف بالأدوية في ظل هذا الغلاء؟".
وتضيف: " أنا حقاً متعبة جداً... خمسة أطفال صغار، إنه عبء ثقيل جداً أحمله لوحدي طوال سنوات الحرب والنزوح".
فيديو قد يعجبك: