أزمة أوكرانيا.. برلين تتأرجح بين مطرقة الناتو وسندان موسكو
(دويتشه فيله)
دفعت الأزمة الأوكرانية برلين أمام معضلة مستعصية، كمن يبحث دون جدوى، عن مربّع الدائرة، وفق مثل ألماني شائع. وتتابع العواصم الغربية الصراع في شرق أوروبا بمزيج من الترقب والحذر آملة في حل دبلوماسي عاجل.
تجتاز الدبلوماسية الألمانية منطقة اضطرابات بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية. وكانت أوكرانيا قد تلقت صدمة غير مسبوقة بسبب تصريحات "استفزتها"، كان قد أدلى بها قائد البحرية الألمانية المستقيل كاي-آخيم شونباخ. تصريحات دفعت الخارجية الأوكرانية لاستدعاء سفيرة ألمانيا في كييف، أنكا فيلدهوزن. كما أن الرفض الألماني القاطع لتزويد أوكرانيا بالأسلحة تقابله انتقادات من الجانب الأوكراني. وكان شونباخ قد أدلى بتصريحات خلال زيارة للهند أبدى فيها تفهمه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقال بشأن الصراع بين روسيا وأوكرانيا "شبه جزيرة القرم ضاعت ولن تعود".
يذكر أن أوكرانيا تطالب باستعادة شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو إلى الأراضي الروسية بمخالفة القانون الدولي عام 2014.
وعلقت صحيفة "إيريش تايمز" الإيرلندية، الصادرة في دبلن وكتبت "إذا كان الهدف الاستراتيجي لبوتين، كما يدعي، هو إبطاء توسع الناتو وإضعاف البنية التحتية الأمنية الأوروبية، فإنه يبدو أن سلوكه العدواني حقق هدفا عكسيا في مرماه. فقد أساء بوتين تقدير رد فعل الغرب على نشر قواته على الحدود الأوكرانية، وهو ما أدى، ليس فقط إلى إحياء حلف شمال الأطلسي الخامل الذي وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل عامين فقط بأنه مصاب بـ"موت دماغي"، ولكن أيضًا، عمل على عودة واشنطن، المشغولة بالصين، إلى الساحة الأوروبية حتى المستشار الألماني أولاف شولتس حذر من أنه سيكون هناك ثمن باهظ يجب دفعه إذا تدخلت روسيا عسكريًا في أوكرانيا".
ألمانيا وأوروبا أول من سيكتوي بنار العقوبات
معضلة ألمانيا ومعها أوروبا، تكمن في كون سيناريو فرض العقوبات على روسيا ستكون له ارتدادات عكسية كبيرة، بالمقارنة مع الولايات المتحدة التي ليس لها نفس الارتباط الاقتصادي مع روسيا. وفي تقييم للعقوبات الأوروبية السابقة التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو، بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، يتضح أن تلك العقوبات لم تؤثر على جوهر العلاقات الروسية مع التكتل القاري. فلا تزال روسيا تحتل المركز الخامس بين كبريات الأسواق التي يصدر لها الاتحاد الأوروبي، كما تعتبر روسيا ثالث الموردين للتكتل بعد الصين والولايات المتحدة. وبالتالي فإن أي عقوبات جدية جديدة من شأنها أن تضر بأوروبا، ما يفسر التردد والتحفظ تجاه سيناريو التصعيد مع موسكو، ففرض العقوبات في هذه الحالة سيعني معاقبة ذاتية، ستكون عواقبها كبيرة على الاقتصاد الأوروبي.
رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين أقرت بنفسها في 20 يناير الجاري بأن "العلاقة التجارية (مع روسيا) مهمّة بالنسبة إلينا". وبهذا الصدد علقت صحيفة الأعمال البلجيكية "دي تييد" على احتمالية فرض عقوبات ضد روسيا وكتبت "بالنسبة لأوروبا، هذا سيف ذو حدين. ستؤثر العقوبات أيضًا على أوروبا، كما أن تأثير العقوبات المضادة سيكون في المقام الأول في أوروبا. لهذا السبب لا تزال دول كبيرة مثل فرنسا وألمانيا تحاول جاهدة نزع فتيل الصراع بالوسائل الدبلوماسية وتعاني ألمانيا من معضلة اعتمادها على إمدادات الغاز الروسي، فيما الوضع أسهل بالنسية للولايات المتحدة الأقل ارتباطا اقتصاديا بروسيا".
ضغط الحلفاء الغربيين ـ ألمانيا بين نارين
تعمل ألمانيا بالمشاركة مع فرنساعلى تعزيز جهود للوساطة بين روسيا وأوكرانيا في سبيل نزع فتيل صراع قد تكون لها تداعيات مدمرة على أوروبا والمنطقة. وتطالب الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بسحب القوات الروسية المحتشدة على الحدود الأوكرانية. وفي المقابل تطالب روسيا بضمانات أمنية وإنهاء توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) في شرق أوروبا والذي تعتبره روسيا تهديدا لها. غير أن موقف ألمانيا ليس مرتاحا بالمرة في هذه الأزمة، فهي بين استفزازات بوتين التوسعية من جهة واتجاه الحلفاء الغربيين للرد على موسكو من جهة أخرى. ولحسابات برلين اعتبارات سياسية أمنية واقتصادية، ولذلك فهي كمن يبحث دون جدوى، عن مربّع الدائرة، وفق مثل ألماني شائع، ويقصد به البحث عن شئ مستحيل، فالدائرة لا يمكن أن تتحول إلى مربع أبدا.
وفي هذا السياق، كتبت صحيفة "لا ستامبا" الإيطالية الصادرة في تورين، "ألمانيا تتباطأ، تمشي على رؤوس أصابع الرجل، وهي تقاوم فكرة صراع عسكري محتمل مع روسيا على أعتاب حدودها. تتظاهر بعدم سماع قعقعة السيوف مكررة عبارتها: إذا كان هناك انتهاك لوحدة أراضي أوكرانيا، فستكون التكلفة باهظة للغاية. في غضون ذلك، لا تزال تعارض تصدير "الأسلحة الفتاكة" لأوكرانيا. ولكسر العزلة التي باتت تهددها، بعدما تسابق الحلفاء الأوروبيون في تقديم أنظمة الأسلحة لكييف، تسعى برلين في العثور لدى الحليف الفرنسي على دعم، من خلال زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى برلين ليؤكد مجددا أن هناك "وحدة" بين البلدين بشأن أوكرانيا".
"متفهمو بوتين" يُسمعون أصواتهم من جديد في ألمانيا
عاد حزب اليسار كما هي العادة ليدعم بوضوح عدم تسليم الأسلحة الألمانية إلى أوكرانيا. وقالت جانين فايسلر القيادية في الحزب إن تسليم أسلحة "لن يؤدي إلى تعزيز الأمن أبدًا، بل سيزيد من خطر نشوب نزاع". وفي نفس السياق، الزعيم الكاريزماتي والتاريخي للحزب، غريغور غيزي، المتحدث الحالي باسم السياسة الخارجية للمجموعة البرلمانية اليسارية في البوندستاغ، ينتقد الزيادة المخطط لها للانتشار العسكري لحلف الناتو وقال "الناتو يصعد المواجهة بخطواته العسكرية في أوروبا الشرقية ويزيد من تأجيج الصراع مع روسيا. ومن أجل حل هذه الأزمة، ما هو مطلوب ليس الوجود العسكري، ولكن المزيد من المفاوضات مع مقترحات ملموسة متبادلة لوقف التصعيد".
تفهم الموقف الروسي لا يقتصر على اليسار، فقد وجه المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر انتقادا حادا لوزيرة الخارجية أنالينا بيربوك بعد اختيارها زيارة أوكرانيا قبل زيارتها الرسمية الأولى لموسكو. وقال شرودر في مدونته الصوتية "الأجندة" إنه يعتبر ذلك "استفزازا صغيرا" لروسيا، وأضاف "لقد فوجئت بأن تسبق كييف زيارة روسيا. حسنا، ربما تقبّل الروس ذلك... آمل ألا يتكرر هذا النموذج عند زيارة الصين - أيا كان المكان الذي ستنطلق منه الزيارة". يذكر أن بيربوك اختارت كييف كمحطة أولى في جولة قادتها لأول مرة إلى موسكو، حيث التقت نظيرها الروسي سيرغي لافروف. غير أن شرودر أشاد في الوقت ذاته بتمسك بيربوك الواضح بعدم تسليم أسلحة إلى أوكرانيا موضحا أن ذلك كان موقفا "محترما". يذكر أن أن شرودر صديق مقرب لبوتين منذ أن كان مستشارا (1998 ـ 2005). ويشغل شرودر حاليا أيضا مناصب إدارية في مشروعي خط أنابيب الغاز الروسي "نورد ستريم" و"نورد ستريم 2".
وبهذا الصدد، كتبت صحيفة "هوسبودارسكي نوفيني" الليبرالية التشيكية "من المثير للاهتمام أن التعبير باللغة الألمانية (بوتين فيرشتيهر / وترجمته متفهمو بوتين) تمت بلورته للسياسيين الألمان الذين يتفهمون الحجج والرؤى القادمة من الشرق. فمن ناحية، تعد روسيا سوقا مهمة للصادرات الألمانية، ومن ناحية أخرى، يؤمن عدد غير قليل من السياسيين الألمان بقناعة أن الأمن الأوروبي لا يمكن بناؤه بالاستغناء عن التفاهم مع روسيا. يبقى السؤال الوحيد هو: أي نوع من الاتفاق يمكن قبوله مع موسكو - وبأي ثمن؟ المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتس، يتحمل الآن قدرًا كبيرًا من المسؤولية الأكيد أنه لا ينبغي له التشاور مع المستشار الاشتراكي الديموقراطي الأسبق غيرهارد شرودر، الذي تولى فور تركه السياسة، منصبًا قياديا في شركة غازبروم الروسية".
الغاز مربط الفرس في العلاقات الاقتصادية مع روسيا
يمثّل الغاز الروسي أكثر من 40% من واردات الغاز الأوروبية وأي خلل في إمداداته بسبب عقوبات غربية محتملة، ستكون له تأثيرات مباشرة على تكلفة الطاقة وبالتالي على كامل الاقتصاد الأوروبي وقدرته التنافسية، بل وعلى أسعار الطاقة بالنسب للمواطنين العادية. كما لا توجد بدائل لتعويض الغاز الروسي بشكل كامل. وفي هذا السياق تعمل العواصم الغربية على دراسة كل السيناريوهات، فمن المتوقع أن يستقبل الرئيس الأمريكي جو بايدن نهاية يناير الجاري أمير قطر (أحد أكبر مصدري الغاز في العالم) الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في واشنطن لدراسة "تأمين استقرار الإمدادات العالمية للطاقة" وفق بيان للبيت الأبيض. لكن من المستبعد أن تستطيع قطر تعويض الغاز الروسي لوحدها، وهي التي تعتمد صادراتها على الغاز المسال المرتفع التكلفة.
وذهبت صحيفة "هاندلسبلات" الاقتصادية الألمانية في نفس السياق وكتبت معلقة "تحول وضع إمدادات الغاز إلى اختبار لمستوردي الغاز وللسياسيين على حد سواء. فمع انخفاض مستويات التخزين بشكل كبير، فإن كل الآمال باتت معلقة على الغاز المسال الذي يتم شحنه إلى أوروبا عن طريق الناقلات. قطر تتجه لأن تصبح المورد الرئيسي المحتمل. لكن حمولات السفن القادمة من الولايات المتحدة تلعب أيضًا دورًا مهمًا سيكون من الصعب تعويض أي نضوب كامل للإمدادات الروسية الحالية". ويرى خبراء أن قطر قد تحتاج إلى مساعدة واشنطن لإقناع عملاء الغاز للدوحة بإعادة تحويل بعض الإمدادات إلى أوروبا في حال أوقفت الأزمة الأوكرانية الإمدادات الروسية إلى القارة العجوز.
سلاح إقصاء البنوك الروسية من نظام "سويفت"
لوّحت واشنطن أكثر من مرة بسيناريو إقصاء روسيا من إجراء معاملاتها المالية بالدولار، أبرز عملة في المبادلات التجارية العالمية، أو استبعادها من نظام "سويفت" (Swift) للتعاملات المصرفية العالمية والذي يضمّ 300 مصرف ومؤسسة روسية، وهو ما عارضته ألمانيا وفق مصادر إعلامية ودبلوماسية.
ورغم أن الرئيس الأميركي جو بايدن أكد على ما أسماه بـ وحدة "تامة" بين الدول الغربية الكبرى بشأن ردع أي هجوم روسي ضد أوكرانيا، فإن المصالح الأوروبية قد تتضرر بشكل مختلف عن المصالح الأمريكية في حال صراع مفتوح مع روسيا. وهذا ما يفسر عدم تحمس ألمانيا لاستعمال سلاح "سويفت" لعزل روسيا عن نظام الدفع العالمي، فيما تواصل برلين رفضها تسليم أسلحة إلى كييف.
صحيفة "فاينانشيال تايمز" اللندنية علقت على موقف ألمانيا وكتبت "لقد تساءلت حكومة أولاف شولتس عما إذا كانت مستعدة لوقف العمل بخط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 في حالة غزو القوات الروسية لأوكرانيا وكذلك إقصاء موسكو من نظام الدفع سويفت، وفي كلتا الحالتين بعثت برلين برسائل متباينة. خط أنابيب نورد ستريم 2 كان منذ البداية مشروعًا سياسيًا أكثر من كونه اقتصاديًا، ويهدف إلى تحرير روسيا من الاعتماد على خط أنابيب التصدير العابر لأوكرانيا. غير أن شولتس ألمح إلى أن هذا المشروع، إذا غزت روسيا أوكرانيا، لا يمكن أن يعمل مع قيام شريك أوروبي بتهديد جارته بجيش من أكثر من مائة ألف".
فيديو قد يعجبك: