الكوليرا في لبنان: "بتنا نخاف من كل شيء"
بيروت- (بي بي سي):
لا يبدو محمد عقل قادرا على التنفس، يتقلب على جانبيه، ويتقيأ ويتوسل للحصول على الماء الذي لا يُسمح له بشربه.
وصل إلى قسم الطوارئ بالمستشفى قادما من منزله في قضاء المنية قبل ساعات قليلة. يشتبه الطبيب بإصابة محمد بالكوليرا.
يتأوه قائلا: "كل جسدي يؤلمني، أعاني من حمى وقشعريرة..الآن لا يمكنني تناول أي شيء، وإذا فعلت فسيخرج ما أتناوله من هنا وهنا." يشير أولا إلى فمه، ثم إلى أسفل.
محمد مزارع، ويحتاج إلى العمل في حقله، والمرض يعني مشكلة كبيرة بالنسبة له، يسعل مرة أخرى، يتقلب من جانب إلى آخر على السرير من الألم. لكنه مصمم على إخباري بمن يرى أنه الملام في كل ذلك.
ويتساءل: "هناك جائزة نوبل للسلام؟ إن لبنان يستحق جائزة نوبل للفشل.. كل السياسيين في البلاد فاسدون.. وليس مستغربا أننا وصلنا إلى هذا الوضع المأساوي".
وبطبيعة الحال فإن الإخفاقات السياسية في البلاد تعد سببا أساسيا قد ساهم بصورة كبيرة في تفشي هذا المرض.
وعلى الرغم من إجراء الانتخابات في مايو الماضي، لم يتم تشكيل حكومة جديدة. وتوفر شبكة الكهرباء الوطنية طاقة كهربائية لمدة ساعة واحدة فقط في اليوم، على أفضل تقدير، كما فقدت العملة اللبنانية حوالي 90 في المئة من قيمتها، وبات من الصعوبة بمكان الحصول على الأدوية، كما أن أكثر من
80 في المئة من السكان هنا يعيشون في فقر مدقع.
لقد انهار لبنان وتحول من بلد ميسور إلى حد ما، إلى بلد معرض لخطر الفوضى التي يمكن أن يسببها مرض يمكن الوقاية منه وعلاجه مثل الكوليرا.
وينتقل مرض الكوليرا من خلال المياه غير النظيفة، وفي مكان تعطلت فيه معظم أنظمة الصرف الصحي الأساسية كما هو الحال في لبنان، يمكن أن يكون الانتشار سريعا.
كانت آخر حالة إصابة بالكوليرا في لبنان قبل ثلاثة عقود، وعاد المرض في 6 أكتوبر، ومنذ ذلك الحين باتت هناك المئات من الحالات المشتبه فيها، ولكن نظرا لعدم وجود اختبارات تشخيصية بسيطة، فقد يكون الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير وقد يصل للآلاف.
الآن لبنان هو واحد من 29 دولة أبلغت عن تفشي المرض منذ يناير من هذا العام.
وقد أبلغت سوريا المجاورة بالفعل عن آلاف الحالات، كما أن أفغانستان وباكستان وهايتي من بين البلدان المتضررة.
في السنوات الخمس الماضية، أبلغت أقل من 20 دولة في المتوسط عن حالات إصابة، ووصفت منظمة الصحة العالمية ارتفاع عدد الإصابات في 2022 بأنه "غير مسبوق".
حتى أنها اضطرت إلى تعليق استراتيجيتها للقاح الكوليرا ذات الجرعتين بسبب نقص الإمدادات العالمية.
تكلفة الرعاية
بينما أسير من غرفة إلى أخرى في طابق الأطفال في مستشفى عبد الله الراسي، أصادف أعدادا أكبر من المرضى الأصغر سنا.
زياد العلي في الخامسة من عمره، وهو يرقد في سريره بهدوء، وعيناه البنيتان تحدقان في السقف.
ميرا صوفان، لاجئة سورية، تبلغ من العمر 18 شهرا. تحتاج إلى استبدال المحلول العلاجي الوريدي، لكنها تبكي وتصرخ من الألم بينما تحاول والدتها تهدئتها.
ولد جاد حسام الجندي قبل أربعة أشهر فقط، وجسمه الممدد على سرير المستشفى الأبيض يبدو كنقطة صغيرة. لقد أحضره والداه إلى هنا من طرابلس، التي تبعد ساعة تقريبا عن المستشفى، إذ لم يتمكنوا من العثور على مكان أقرب إلى منزلهم حيث يمكن أن يتلقى صغيرهم العلاج.
الصوت هنا مختلف عن جناح المستشفى العادي، إذ لا يتخلل الصمت صوت صفير وطنين معتاد من الآلات المتطورة. كل طفل لديه كيس سائل لمحلول يعطى في الوريد معلق بهدوء بجوار السرير.
مع توفر الرعاية الصحية المناسبة يمكن علاج الكوليرا بسهولة. لكن الاستجابة يجب أن تكون سريعة.
كان هناك رجل يريد بصورة يائسة إخباري بالصعوبات التي واجهها في تأمين العلاج لابنته.
"لن يقبلوها في المستشفى إلا إذا دفعنا مليوني ليرة لبنانية( أي ما يعادل 50 دولارا حسب سعر السوق السوداء).. ماذا بوسعي أن أفعل؟ هل ينبغي أن أسرق؟ أن أقتل؟ نحن لا نحمل السلاح.. نحن فقراء".
وافقت الحكومة اللبنانية مؤخرا على تغطية التكاليف الطبية لمواطنيها المصابين بالكوليرا.
لكن بالنسبة إلى حوالي مليون لاجئ في البلاد - من الصعب معرفة عدد الذين يعيشون هنا بالضبط - فإن الصورة تبدو أقل وضوحا.
توفر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين رعايتهم الطبية، لكن العديد من السوريين يخشون الاضطرار إلى دفع التكاليف بأنفسهم.
مما يعني أنهم يتجنبون في بعض الأحيان الذهاب إلى المستشفى حتى اللحظة الأخيرة. لكن بالنسبة لمرض ينتقل بسرعة الكوليرا، يمكن أن يكون هذا التأخير قاتلا.
نهر الماء البني
مستشفى عبد الله الراسي هو المستشفى العام الوحيد في عكار شمالي لبنان، الذي يعد أفقر جزء من البلاد. يخشى مدير المستشفى، الدكتور محمد خضرين، أن يؤدي تفشي المرض المتزايد إلى اكتظاظ المستشفى بصورة يصعب التعامل معها.
ويقول: "لقد خصصنا الآن 70 في المئة من أسرتنا لحالات الكوليرا".
"وبعد زيارة وزير الصحة فراس أبيض إلى هنا طلب منا توفير المزيد من الأسرة، وقريبا سيكون لدينا حوالي 120 سريرا، لكن هذه مستشفى صغيرة تخدم منطقة كبيرة، والحالات آخذة في الازدياد.. إذا لم يتم احتواء المشكلة، لن نكون قادرين على التعامل معها".
سجلت معظم أنحاء البلاد حتى الآن حالات إصابة بالكوليرا، كما تم اكتشافها في مياه الصرف الصحي في العاصمة بيروت.
وقد شهدت بلدة ببنين في الشمال أكبر تفش للكوليرا في لبنان حتى الآن.
ويمكن للمرء أن يلحظ قناة صناعية من المياه البنية تخترق قلب المدينة، مياهها داكنة وعكرة، ولا يمكن رؤية أي شيء لما يمكن أن يكون تحت السطح.
تقبع المنازل بجوار حافة المياه التي تتدفق ببطء في اتجاه مجرى النهر، وأحد هذه المنازل يسكنه حسين علي.
توفي شقيقه حسن بسبب الكوليرا قبل ثلاثة أيام من لقائنا. كما تتلقى زوجته وابنة أخيه وابن أخيه العلاج.
يقول: "لا نعرف من أين جاءت الكوليرا، هل هو الهواء أم الماء؟ نحن نعيش في حالة من الذعر، وبتنا نخاف من كل شيء".
ما زال حزينا حزنا بالغا، يمسح وجهه بيده ويقول: "لقد فقدت أعز شخص لدي. كان رفيقي وتؤام روحي، كنا نقضي أيامنا معا ولم نكن نفترق إلا في الليل للنوم".
عادة عندما تحدث حالة وفاة يتوافد الجيران والمعارف والأقارب لتقديم تعازيهم. يمكن أن يصل متوسط عدد المعزين إلى ألف شخص. لكن خارج منزل حسين، ظلت الكراسي البلاستيكية البنية مكدسة وخاوية، وصينية التمر التي تقدم للمعزين لم يمسها أحد تقريبا.
بالكاد زار أي شخص الأسرة، لأن الكثيرين خائفون من الإصابة بعدوى الكوليرا.
وغالبا ما يتم استخدام نهر المياه البنية في ري المحاصيل، مما يزيد من انتشار المرض.
خارج المنازل توجد أنابيب تجلب المياه من القناة إلى الداخل، وأخرى معلقة فوقها لتصريف النفايات المنزلية والمياه الآسنة.
تعيش أم أحمد وزوجها وأطفالها على قطعة أرض صغيرة، وعليهم أن يزرعوا المحاصيل لمالك العقار كجزء من عقد الإيجار.
في غضون أيام قليلة، سيزرعون براعم جديدة في الأرض البنية تحت الأنفاق المتعددة. إنها تعلم أن هناك احتمالا كبيرا أن تجلب الأنابيب التي تسقي قطعة الأرض تلك الكوليرا من المجرى.
لكنها أخبرتني أنه ليس لديهم خيار.
"بالطبع أنا قلقة" ، قالت متجهمة وأضافت "أصيب أخي بالكوليرا وتوفي عدد من جيراننا بسببها، بمن فيهم شاب توفي اليوم، نحاول تجنبها ولكن ليس لدينا دائما الخيار".
قالت إيتي هيجينز، نائبة ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) في لبنان، إنهم كانوا يحذرون من تفشي وباء الكوليرا منذ أكثر من عام.
كانت هناك مؤشرات خطيرة تشير إلى أنها إذا انتقلت عبر سوريا، فإن الظروف القاسية هنا ستؤدي إلى تفشيها لا محالة.
كانت إحدى المشاكل الكبيرة التي زادت الطين بلة هي انهيار محطة معالجة مياه الصرف الصحي في طرابلس، التي تعد ضحية أخرى لأزمة الكهرباء في لبنان، والتي عادة ما تعالج كل شيء من البراز البشري إلى النفايات الصناعية من المصانع والمسالخ. ولكن الآن لا يوجد مكان تذهب إليه هذه النفايات.
تشرح هيجينز: "عادة ما تمر هذه النفايات من خلال فحص أولي، ويتم ضخها إلى عمق 1600 متر في البحر. ولكن بسبب نقص الوقود، لم يتمكنوا حتى من ضخها في البحر. لذلك تم رميها مباشرة على الشاطئ بدلا من ذلك ".
لا تزال حالات الكوليرا في لبنان تتزايد يوما بعد يوم، والمشاكل التي تسببها كثيرة جدا لدرجة يصعب معها حلها.
وما لم يتم إجراء تحسينات حقيقية وملموسة على البنية التحتية للبلاد، فمن الصعب أن نشهد إمكانية للسيطرة على هذا التفشي المقلق للكوليرا.
فيديو قد يعجبك: