رغم دعوة الأمم المتحدة لوقف التعاون العلمي.. لماذا أجرى معهد ألماني أبحاثًا مع كوريا الشمالية؟
(دويتشه فيله)
يعمد زعيم كوريا الشمالية إلى تحديث أسلحته النووية والصاروخية، ما دفع الأمم المتحدة لدعوة كافة الأعضاء لوقف التعاون العلمي مع كوريا الشمالية. ورغم ذلك، فقد أجرى معهد متخصص في أبحاث الليزر في برلين أبحاثا مع بيونغ يانغ.
خلال العام الجاري، قامت كوريا الشمالية بإجراء تجارب صاروخية باليستية بوتيرة غير مسبوقة، وهو الأمر الذي أثار مخاوف حيال استعدادها لإجراء تجربة نووية سابعة.
يأتي ذلك في إطار مساعي دكتاتور البلاد كيم جونغ أون للحصول على المزيد من أسلحة الدمار الشامل والعمل على تحديث قدرات الجيش الكوري الشمالي، بيد أنه لا يمكن المضي قدما في ذلك دون حدوث تقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا.
ولتفادي ذلك، أقر مجلس الأمن الدولي فرض عقوبات على أي تبادل أكاديمي ونقل للتكنولوجيا مع كوريا الشمالية في إطار حزمة من تسع عقوبات ضد نظام بيونغ يانغ.
وفي نوفمبر عام 2016، وتحديدا بعد إجراء كوريا الشمالية التجربة النووية الخامسة في تاريخها، طلبت الأمم المتحدة من كافة الدول الأعضاء وقف كافة أشكال التعاون العلمي مع كوريا الشمالية باستثناء حالات نادرة وبعد الحصول على تصريح خاص.
وفي هذا الصدد، عمل كاتسوهيسا فوروكاوا، وهو خبير ياباني في مجال نزع السلاح، مع فريق خبراء الأمم المتحدة بشأن عقوبات كوريا الشمالية في الفترة ما بين عامي 2011 و2016.
وينوط بالفريق الأممي مهمة مراقبة مدى الامتثال في تطبيق العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية.
وفي مقابلة مع DW، قال إنه جرى إدخال "تدابير العقوبات في منظومة الأمم المتحدة استنادا على تفاهم بأن كوريا الشمالية يمكنها الحصول على المعرفة والمعلومات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل من خلال إجراء بحوث أساسية أو تطبيقية في مجالات البحوث المدنية".
بحث مشترك مع جامعة كيم إيل سونغ
لكن يبدو أن صدى هذه الرسالة لم يصل إلى معهد ماكس بورن في برلين والمتخصص في أبحاث الليزر المدنية، إذ استمر المعهد في التعاون وبشكل أساسي مع مجموعة من الباحثين في جامعة كيم إيل سونغ في العاصمة الكورية الشمالية بيونغ يانغ.
وتجدر الإشارة إلى أن جامعة كيم إيل سونغ تعد بمثابة جامعة كبار النخبة في البلاد، إذ تعتبر أبحاثها حاسمة بالنسبة لبرامج الأسلحة النووية والبالستية في كوريا الشمالية، فيما أكد فوروكاوا في مقابلته مع DW أن هذه الجامعة كانت عرضة للتحقيق بسبب "انتهاكات للعقوبات بشكل متعدد".
ورغم ذلك، فقد مضى معهد ماكس بورن قدما، على ما يبدو، في البحث المشترك مع جامعة كيم ليس فقط عقب تشديد العقوبات الأممية عام 2016 وإنما أيضا عقب تجربة كوريا الشمالية النووية السادسة والأخيرة عام 2017.
"انتهاكات ألمانية للعقوبات الأممية"
ويتضح أن الدكتور يوآخيم هيرمان، أحد الباحثين في معهد ماكس بورن، قد نشر تسع ورقات مشتركة مع علماء من كوريا الشمالية في الفترة بين عامي 2017 و2020، فيما يشير فوروكاوا إلى أن هذا التعاون "من المحتمل جدا أن يشكل انتهاكا من قبل ألمانيا للتدابير العقابية الأممية".
وتتمحور كافة الأوراق المشتركة حيال الأبحاث الأساسية في مجال تكنولوجيا الليزر، حيث لا يمكن أن تظهر تطبيقات ذلك على أرض الواقع على الفور، بيد أن خبراء عسكريين يتفقون على أن الليزر يعد عنصرا هاما في مجال الحروب المستقبلية.
وخلال تلك الفترة، عمل الباحث يوآخيم هيرمان على وجه الخصوص مع عالم فيزياء من كوريا الشمالية يُدعى إيم سونغ جين، والذي أمضى عامين في السابق في معهد ماكس بورن كباحث زائر.
وكانت العلاقة بين الرجلين ودودة حتى عقب عودة إيم سونغ جين إلى بيونغ يانغ في عام 2010، ظلا يتبادلان رسائل البريد الإلكتروني، فيما استمرا في العمل عن بُعد.
التهديد "واقعي بشكل خطير"
وللوقوف على حقيقة ذلك، قامت DW بمناقشة أحدث ورقة مشتركة بشكل منفصل مع عشرة خبراء مستقلين وستة فيزيائيين وأربعة خبراء في مجال منع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
وقد انقسم خبراء الفيزياء الستة حيال ذلك، إذ رأى ثلاثة منهم أن الأمر لا يشكل خطرا فيما ألمح الثلاثة الآخرون إلى احتمالية استخدام عسكري في المستقبل.
لكن في المقابل، أعرب الخبراء الأربعة في مجال منع انتشار أسلحة الدمار الشامل عن قلقهم بسبب أن الأمر يحمل في طياته مخاطر الاستخدام المزدوج. ويدل مصطلح "الاستخدام المزدوج" أن البحث قد يكون له تطبيقات مدنية وأيضا عسكرية.
وفي مقابلة مع DW، قال مصدر في الأمم المتحدة – طلب عدم الكشف عن هويته – إنه من المعروف أنه "يصعب إثبات التطبيق العسكري المحتمل لأي بحث متقدم، فيما من السهل أيضا إنكاره أو إخفائه، لكن التهديد حيال نقل هذه المعرفة يعد واقعيا بشكل خطير".
من يتحمل اللوم؟
وحاولت DW الحصول على تعليق من الدكتور يواخيم هيرمان، لكنه رفض إجراء مقابلة.
لكن في المقابل، أرسلت الإدارة العليا لمعهد ماكس بورن بيانا لـ DW جاء فيه أن المعهد "لا يجري أي بحث عسكري بينما تقتصر أبحاثه على الأبحاث المدنية الأساسية المعنية باستخدامات الليزر".
وقد أشار البيان إلى أن المعهد لم يكن لديه أي دراية في ذلك الوقت بقيام الأمم المتحدة بتشديد العقوبات على كوريا الشمالية، مضيفا "لم نتلق على سبيل المثال في أي وقت من الأوقات طلبا من وزارة التعليم والبحوث بتعليق الاتصالات العلمية مع كوريا الشمالية".
هل يتحمل السياسيون الألمان اللوم؟
وفي سياق ذلك، أجرت DW مقابلة مع كاي غيرينغ، الذي يرأس لجنة التعليم والبحث العلمي في البرلمان الألماني (البوندستاغ).
وقال غيرينغ، وهو سياسي ينتمي إلى حزب الخضر الشريك في الائتلاف الحكومي، إن هناك "التزامات على عاتق الجانبين، فبالنسبة للأطراف المعنية في المجتمع العلمي الذين لم يلاحظوا أن هناك منظومة عقوبات شاملة ضد كوريا الشمالية، يساورني بعض التساؤلات حيال كيفية حدوث ذلك".
لم يتم استشارة سلطات التصدير
الجدير بالذكر أن الدستور الألماني يحمي حرية العلم، إذ لا يمكن للحكومة وضع خطوط حمراء حيال ذلك، لكن في المقابل تقع مسؤولية تقييم الخطر على عاتق العلماء ما يعني إنه في حالة وجود أي شكوك حيال احتمالية أن يندرج أي عمل بحثي تحت تصنيف "الاستخدام المزدوج"، فإنه يتعين على العلماء الرجوع إلى السلطات المعنية برقابة الصادرات لمراجعة ذلك.
بيد أن الأمر لم يكن كذلك فيما يتعلق بالقضية المثارة حيال معهد ماكس بورن إذ يبدو أن الباحث لم ير أي خطر، بينما علم من يرأسوه بموضوع التعاون مع باحث كوري شمالي في وقت متأخر جدا.
وعلى وقع ذلك، لم تُجرَ أي مراجعة من قبل السلطات المعنية برقابة الصادرات، ما يعني أن قضية العقوبات لم تحظ باهتمام كبير.
لكن يبدو أن الأمر تغير فيما بعد، إذ تعود آخر ورقة بحثية مشتركة بين معهد ماكس بورن مع باحثين من كوريا الشمالية لعام 2020، حيث قرر المعهد وقف التعاون بشكل نهائي.
وقال المعهد إن السبب في ذلك يعود إلى "القلق المتزايد لدى الإدارة حيال دور كوريا الشمالية في السياسة الدولية. لا يتعاون معهد ماكس بورن مع ممثلين للنظام الكوري الشمالية ونود تجنب أي مظهر للتعاون".
خطوط حمراء للتعاون العملي؟
يشار إلى أن نجاح تطبيق العقوبات الأممية يعد مرهونا بإدراج الدول الأعضاء ذلك في قوانينها لضمان الامتثال والتطبيق.
وفي حالة العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، أصدر الاتحاد الأوروبي لائحة تنظيمية ملزمة لألمانيا، لكن ورغم ذلك، لم يلاحظ أي شخص التعاون بين معهد ماكس بورن وباحثين من كوريا الشمالية، ما يعني إخفاق إجراءات الرقابة الذاتية في المجال العملي، إذ لم يكن التواصل مع كافة الأطراف المعنية كافيا؛ رغم أن المعهد يحصل على تمويل من الدولة.
وفي حالة الذهاب إلى الاعتقاد بأن هذه الإخفاقات استمرت لقرابة أربع سنوات في قضية صارخة تتعلق بكوريا الشمالية، فإنه من المنطقي القول بأن المنظومة بأسرها بها بعض القصور.
وفي هذا الصدد، يقترح فوروكاوا تعزيز "التعاون والاتصال بين المجتمع العلمي وسلطات الأمن القومي".
أما فيما يتعلق بالمشرعين الألمان، فحتى الآن ما زالوا مترددين في وضع خطوط حمراء وذلك على الرغم من أن الأمر يثير تساؤلا هاما مفاده: أين ينتهي البحث في ألمانيا؟ وهل يمكن أن تستغل دول استبدادية مثل كوريا الشمالية أو الصين وروسيا ذلك؟"
وعلى وقع الحرب الروسية في أوكرانيا، جرى تعليق كافة أشكال التعاون البحثي بين ألمانيا وروسيا، فيما يحتدم النقاش في الوقت الراهن حيال التعاون العلمي مع الصين، إذ لم تجد ألمانيا بعد الطريقة لتحقيق التوازن بين قيمها الليبرالية ومصالح الأمن القومي في مجال العلوم.
فيديو قد يعجبك: