"أخرجوني من هنا".. رسائل تركها الطفل ريان للمغرب والعالم
(دويتشه فيله)
"أخرجوني من هنا" كانت هذه رسالة التقطت بصوت الطفل المغربي ريان عبر كاميرا هاتف تم إيصالها إلى قعر البئر التي كان عالقا بها. وثمة رسالة أخرى قد تكون أبلغ ويتعين قراءتها مليّا مادام في الزمن فرص متبقية وقبل فوات الأوان.
إنقاذ ريان أمل تعلقت به قلوب ملايين المغاربة ومعهم فيض من المتعاطفين في العالم مع قصة الطفل العالق في البئر. دام الأمل مائة ساعة مرت وكأنها دهر من الزمن، قبل أن تنفطر القلوب للعثور على ريان وقد فارق الحياة في عمق ثلاثين مترا تحت الأرض.
جهود فرق الإنقاذ مكّنت من العثور عليه وحققت له طلبه بإخراجه من البئر، لكن تلك الجهود البطولية لم تدركه حيّا، والآن بعد أن وُوري التراب على جثمانه الصغير في مسقط رأسه بقرية إغران في منطقة شفشاون بشمال المغرب، سيكون من باب الوفاء لروح ريان أن ينكب كل من موقعه لقراءة رسالته التي تركها في قلوب وعيون الملايين الباكية على النهاية المأساوية لقصته.
لماذا قصة ريان مختلفة؟
موجة التعاطف الإنساني في العالم مع نداء الاستغاثة لإنقاذ ريان، يعود الفضل فيها أولا لوسائل التواصل الاجتماعي عبر البث المباشر والتراند الذي حققه هاشتاغ #أنقذوا_ريان في أنحاء عديدة من العالم. السلطات المحلية في المغرب باشرت عمليات الإنقاذ في اليوم الثاني بعد وقوع ريان في البئر وإبلاغها من أسرته بالمأساة.
وتحت وتيرة اهتمام عالمي متصاعد بالقصة، خاضت فرق الإنقاذ بخلاياها المتعددة: التقنية والعلمية والطبية جهودا ملحمية، يمكن القول إنها غير مسبوقة في المغرب وحتى خارجه.
فقد حدث أن عالجت دول عديدة عشرات حالات إنقاذ ضحايا حوادث مشابهة. بيد أنه لم يسبق أن سُخرت لها مثل تلك الإمكانيات حتى بدا للعالم أن المغاربة تجنّدوا معا لهدم جبل من أجل إنقاذ طفل. وهو ما حدا بالحبر الأعظم البابا فرنسيس بالقول: "اعتدنا على سماع ورؤية الكثير من الحوادث والأشياء والأخبار القبيحة عبر وسائل الإعلام، لكن كان جميلا أن نرى كيف تشبث المغاربة ببعضهم البعض لإنقاذ ريان".
مواقع التواصل ووسائل الإعلام تنشر باستمرار قصصا تراجيدية وضمنها مآسي أطفال في حروب وكوارث، ولكن ما الذي جعل قصة ريان مختلفة؟
أولا، عندما يتعلق الأمر بحالة فردية ومجسدة في معاناة شخص ما وخصوصا حالة طفل عمره خمس سنوات عالق في بئر سحيقة بمنطقة نائية وفقيرة، تصبح القصة أكثر جاذبية لرواد مواقع التواصل الإجتماعي وحتى وسائل الإعلام التقليدية، مقارنة بالحالات الجماعية كونها تبدو في تناولها وكأنها حالات مجردة أو مألوفة رغم ما تنطوي عليه من مآس ودمار في حياة الملايين من الأطفال في مناطق عديدة من العالم وفي مقدمتها سوريا واليمن.
وثانيا، لفتت طريقة تفاعل المغاربة مع الحادثة، ولا سيما آلاف المتضامنين منهم الذين هبوا من كل حدب وصوب وأحاطوا نهارا وليلا بموقع الحادثة على تلّة جبلية يبلغ علوها أكثر من 700 متر في أجواء شتوية باردة، (لفتت) إلى عمق تضامني بين أطياف المجتمع ومؤسسات البلد، بشكل هز مشاعر الناس خارج المغرب وأيقظ روح التضامن الإنساني العابر للحدود، والذي يكاد العالم يفتقده إزاء دوامة من مشاهد المآسي والكوارث والأخبار السيئة المتداولة، وأجواء الاحتقان ومشاعر الخوف التي خيمت على المعمورة في ظل جائحة كورونا.
وبقدر ما أظهرت قصة ريان وجها إنسانيا مشرقا لدى شعوب العالم وحرّكت ضمائر شخصيات سياسية ونجوم ومشاهير، وكسرت الحدود السميكة التي تضعها السياسة وخصوماتها حتى بين الجيران (المغرب والجزائر)، فقد أبرزت البعد الإيجابي لخدمات تكنولوجيا الاعلام والاتصالات إذا كانت في خدمة قضايا إنسانية.
لكن الصورة في المشهد الإعلامي لم تكن كلها مشرقة، فقد كشفت قصة ريان وجها قبيحا لكيفية استغلال مآس وقضايا إنسانية من أجل تحقيق أغراض وأهداف غير نبيلة وتحريف الرسالة الإعلامية عن سكتها السليمة. وقد وثقت هيئات مجتمع مدني مغربية وضمنها النقابة الوطنية للصحافة والمجلس الوطني للصحافة، عشرات حالات التجاوزات في تغطية حادثة الطفل ريان، ضمنها أخبار كاذبة وتزييف لوقائع وخرق لقواعد الخصوصية.
وقد باشرت تلك الهيئات في استخلاص العبر مما حدث لعدم تكراره، سواء من خلال نقاشات عامة في وسائل الإعلام للتوعية بمخاطرها على المجتمع، أو عبر رفع دعاوى أمام القضاء ضد المتجاوزين، بالإضافة إلى إطلاق مبادرات من أجل سنّ تشريعات جديدة لتنظيم عمل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي بشكل يضمن صيانة أكبر لأخلاقيات مهنة الصحافة ولحقوق الأفراد والمجتمع.
عملية إنقاذ ملحمية
أظهرت عملية إنقاذ الطفل ريان أن تعقيدات وصعوبات الحفر والإنقاذ تتطلب كفاءات عالية في الإنقاذ المدني والإسعاف الطبي وميادين تقنية تتعلق بحفر الآبار والجيولوجيا والطبوغرافيا (قيس الأراضي)، بالإضافة إلى الفرق الإدارية والأمنية الممنظمة والمرافقة.
وهو ما يفسر تعبئة الدولة المغربية بمؤسساتها المحلية والمركزية لمئات من المتخصصين الذين عملوا ليلا نهارا دون توقف ووفق سيناريوهات علمية من أجل الوصول للطفل ريان. وذلك بعدما تعذر إنقاذه بواسطة عمليات دخول مباشرة من حفرة البئر شارك فيها شبان متطوعون، بسبب ضيق قطره وخشية إنهياره على الطفل العالق على صخرة في منتصف عمق البئر.
ومن ثَم بدأت عمليات حفر حثيثة بواسطة الآليات بشكل مواز للبئر، وفي طور ثان دخلت فرق الإسعاف من ثغرة أفقية تم حفرها شِبرا شِبرا، وحفرَ عناصرها بأيديهم وبوسائل تقليدية لتجنّب أي انهيار أرضي وتفادي الصخور. وأظهرت هذه المرحلة الحساسة من الحفر أهمية الإعتماد على الحرفيين التقليديين في حفر الآبار.
وكانت شخصية على صحراوي الذي يُلقب بـ "عم علي"، عنوانا بارزا للمهنية والتفاني والتضحية، وقد وصف ظروف العمل هناك قائلا: "كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر لكن ظلّ لديّ أمل بالعثور عليه حيّاً".
قدم المغاربة نموذجا رائعا ورسالة قوية في التضحية من كل حدب وصوب ومهنية عالية لفرق الإنقاذ المحلية المحترفة بتخصصاتها المتعددة، ووصلت إلى الطفل وانتشلت جثته رغم أنها لم تدركه حيا. وأظهرت هذه التجربة كيف جعل المغاربة من حادثة ابنهم ريان، قصة مختلفة عن محاولات عديدة سابقة في بلدان عربية وآسيوية وأوروبية أحدثها مأساة مماثلة وقعت مطلع 2019 في الأندلس (إسبانيا) حيث توفي الطفل جولين البالغ عامين إثر سقوطه في بئر قطرها 25 سنتيمترًا وعمقها أكثر من مائة متر. وانتشلت جثته بعد عملية استثنائية استغرقت 13 يوما.
والرسالة الأهم من حادثة ريان بالنسبة للمستقبل هو النقاش العلمي والتقني الذي فتحته التجربة المغربية بشكل مقارن مع تجارب أخرى في العالم، وذلك من أجل العمل على تطوير أساليب وتقنيات الإنقاذ وتوظيف أحدث ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا في هذا الصدد.
"بئر البؤس"
اسم ريان في القاموس العربي يعني المرتوي من الماء بعد عطش، ويطلق أيضا على أغصان الشجر الخضراء بفضل ارتوائها من الماء. وأن يقضي الطفل ذو الخمس سنوات في قعر بئر ارتوازية، ربما تكون رسالة للتأمل في ثنايا ما حدث في القرية الجبلية النائية. إذ تكشف قصة البئر المهجورة منذ سنوات، وجها للبؤس الاجتماعي الذي تعيشه فئات من سكان البوادي في المغرب ومعاناتهم من أجل الحصول على الماء الصالح للشرب ولري زراعتهم.
في تدوينة له على فيسبوك وصف الباحث في علم الإجتماع المغربي الدكتور محمد الناجي البئر التي وقع فيها ريان، بـ "بئر البؤس"، وكتب باللغة الفرنسية إنها "حفرة لا قاع لها، ولا نسقط فيها على سبيل الخطأ، بل مدفوعين بسياسات جائرة".
وقد ارتفعت الأصوات في المغرب بعد حادثة ريان إلى ضرورة التعجيل بإيجاد حلول وبدائل لمشكلة تشمل عشرات الآلاف من الآبار الارتوازية ومعظمها حفرت بطرق غير قانونية، وتترك مهجورة بعد تعذر إستغلالها، وتُعرّض حياة الكثيرين للخطر. ناهيك عن التداعيات السلبية للاستغلال العشوائي للمياه على الموارد المائية الجوفية، وهو حذر منه خبراء محليون ودوليون.
يسكن قرية إغران بجماعة (مقاطعة) تمروت التابعة لإقليم (محافظة) شفشاون، قبائل أمازيغية تشكل امتدادا بشريا بين منطقتي جبالة وكتامة، وترتبط جغرافيا بسلسلة جمال الريف شمال المغرب. وتعد هذه المنطقة واحدة من أقل المناطق اندماجا في التنمية بالبلاد، بسبب عوامل تاريخية ضمنها العزلة التي عاشتها على امتداد عقود وانتشار اقتصاد التهريب والمخدرات والهجرة غير القانونية نحو أوروبا.
ورغم أنها تقع على مسافة قريبة نسبيا من مدينة شفشاون التي تعتبر من أجمل المدن الأندلسية في شمال أفريقيا، وأكثرها جاذبية للسياح، فإن قرية إغران تمروت وغيرها من بلدات إقليم شفشاون ما تزال بحاجة إلى جهود كبيرة في مجالات البنيات التحتية وخلق فرص للشباب وتطوير الزراعة، رغم الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة، وساهمت في تقليص مساحات الأراضي التي كانت تستعمل في زراعة القنب الهندي.
وبحسب تقرير لوزارة الداخلية المغربية صدر في نهاية سنة 2019 فإن الرصد بالأقمار الصناعية كشف تراجعَ المساحات المخصصة لزراعة الكيف (القنب الهندي) من 134 ألف هكتار إلى 47,5 ألف هكتار أي بنسبة 64 في المائة.
وبعد سن البرلمان العام الماضي لقانون جديد يقننّ استخدام القنب الهندي لأغراض طبية وصحية، مايزال سكان تلك المناطق ينتظرون البدائل الجديدة التي تساعدهم على اندماج أفضل في التنمية الاقتصادية.
ويمكن أن يُفهم من تحرك الدولة المغربية وتعبئتها لموارد ضخمة من أجل إنقاذ الطفل ريان، أيضا على أنه إدراك من صانع القرار المغربي وعلى أعلى المستويات إلى حساسية المنطقة التي وقعت فيها الحادثة ورغبته في توجيه رسالة إلى سكانها بأنهم يقعون في صلب الإهتمام الرسمي.
وإذا كانت هذه الرسالة قد وصلت فيما يتعلق بأجواء حادثة الطفل ريان، فإن الرسالة الأعمق ستكون بوضع تنمية المناطق الريفية الفقيرة في رأس أولويات عمل المؤسسات المحلية والمركزية، على الأقل وفق ما جاء في وثيقة النموذج التنموي الجديد الذي أقره المغرب العام الماضي ويشكل خارطة طريق للحكومة في العقدين المقبلين.
ليست حادثة ريان الوحيدة في المغرب ولا في دول المنطقة، إذ تحذر تقارير لجمعيات ووسائل إعلام محلية سنويا من عشرات حالات الغرق في آبار غير محروسة بالمغرب، كما تؤكد تقارير عديدة أوضاعا مشابهة في الجزائر وتونس ومصر والسودان والعراق. وحسب منظمة الصحة العالمية فإن مات آلاف الأشخاص يقضون سنويا في حوادث سقوط ومعظمهم في قارتي أفريقيا وآسيا وهم من الأطفال وكبار السن.
فهل تكون الرسالة من مأساة الطفل ريان إشارة تحذير من خطر "بئر البؤس" وضرورة العمل لتحسين أوضاع سكان الأرياف والقرى النائية؟
فيديو قد يعجبك: