"دبلوماسية الكوارث".. هل تقدر على التجميد المؤقت للخلافات الجيوسياسية؟
(دويتشه فيله)
عشرات الآلاف من الضحايا، مدن وقرى دمرها زلزال تركيا وسوريا في منطقة على حافة تقاطعات جيوسياسية بالغة التوتر، تستدعي من صناع القرار القفز على الحسابات الجيوسياسية الضيقة لضمان إيصال المساعدات، وفق خبراء ألمان وأوروبيين.
تمتد مشاهد الدمار على طول الحدود التركية السورية، خيط يحاكي الحدود بين الحرب والسلام، في منطقة تعاني أصلا من الجوع والفقر. فسوريا كانت مسرحًا لحرب أهلية دامية على مدى إثني عشر عامًا ولا تزال تبحث عن بريق أمل ينتشلها من نفقها المظلم. وإذا كان الوضع أفضل بكثير في الجانب التركي حيث بدأت عمليات الإنقاذ على الفور بسبب الزلزال، فشمال سوريا يعاني من نقص في الضروريات الأساسية كعناصر إنقاذ محترفين وعجز صارخ في التجهيزات والمعدات والمستشفيات والأطباء، وكأن لعنة القدر مصرة على تعميق جراح بؤرة بالغة التوتر على مستوى الجيوسياسي. قوس من جبهات النزاعات بين مد وجزر، تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى العراق وإيران يتدخل فيها فاعلون إقليميون ودوليون بأجندات يطبعها التناقض. لذاك فإن هذه الكارثة تشكل تحديا لعمل هيئات ومنظمات الإغاثة، ولكن أيضا للعلاقات الدولية بشكل عام.
موقع إذاعة "دويتشلاندفونك" الألماني كتب بهذا الصدد معلقا "إنها المفارقة التركية: لقد طالب أردوغان الناتو بالمساعدة، وهو الذي يختبر صبر الحلف منذ شهور بمنعه انضمام السويد. ألم يهدد الرئيس التركي مرارًا وتكرارًا بغزو المناطق الكردية في شمال سوريا، المتضررة بشكل كبير الآن بالزلزال. وفي سوريا هناك دكتاتور متحالف مع روسيا يقاتل المتمردين في شمال بلاد مزقتها الحرب الأهلية. هناك وجد فلاديمير بوتين أرضية خصبة لتجربة حربه على أوكرانيا. كما لإسرائيل أيضًا مصالحها الخاصة هناك، حيث عينها على مواقع حزب الله، في حرب بالوكالة تشنها إيران في سوريا".
مطالب بتعليق العقوبات على سوريا
تعالت الأصوات الداعية لتعليق ولو مؤقت للعقوبات السياسية والاقتصادية المفروضة على سوريا. وبهذا الصدد دعت الجمعية الدولية لحقوق الإنسان "إي.غي.إف.إم" (IGFM) (التاسع من فبراير) على لسان أمينها العام ماتياس بونينغ في بيان قالت فيه "رسالتنا واضحة وجلية بشأن الموقف من هذه الأزمة وهي: "كارثة الزلزال ليست شأنا سياسيا". وأكدت الجمعية على ضرورة تقديم مساعدة عاجلة وفورية إلى شمال سوريا والقفز على العقوبات المفروضة لأسباب سياسية. وطالب بونينغ بإتاحة تحويل مدفوعات إلى منظمات الإغاثة العاملة في سوريا "نطالب بتعليق العقوبات وأنا أؤكد أنه ليس رفعا ولكن تعليقا للعقوبات، وبالتالي إتاحة تقديم المساعدات الفورية. نحن نطالب بأن تعمل الأمم المتحدة في هذا الاتجاه وتتيح إيصال المساعدات الإنسانية".
وفي نفس الاتجاه، كتبت صحيفة "24 شاسا" البلغارية (التاسع من فبراير) معلقة "في الوقت الذي تصل فيه إمدادات الإغاثة وفرق الإنقاذ والمتطوعين من العديد من البلدان بشكل جيد ومنظم إلى تركيا، لا يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لسوريا. لا يزال الناس يعيشون هناك في مدنهم وقراهم التي تعرضت للقصف. لا تزال حياة الناس معلقة بخيط رفيع بسبب "ألعاب الكبار"، والتي، كما هو معروف جيدًا، لم تكن أبدًا مسألة عدالة، ولكن قبل كل شيء حسابات جيوسياسية، وهو الثمن الذي يدفعه الناس اليوم. لذلك، يجب على المجتمع الدولي تعبئة ومساعدة الشعبين في تركيا وسوريا. لا مكان هنا للحسابات السياسوية. صرخة كل إنسان طلباً للمساعدة هي مأساة، ولكل إنسان الحق في الحصول على الدعم".
فهل يمكن لدبلوماسية الكوارث محو الخلافات السياسية ولو مؤقتًا؟ حتى الدول التي كانت توجد في حالة عداء مع تركيا وسوريا كالسويد واليونان وإسرائيل وأوكرانيا، لم تتردد في عرض مساعدتها. هذا يثبت أن الكوارث يمكن أن تكون مناسبة للقفز على الخلافات السياسية ولو إلى حين. وبهذا الشأن قالت صحيفة "آيرش تايمز" الصادرة في دبلن (الثامن من فبراير) "أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر في مرحلة حساسة قبيل انتخابات حاسمة في مايو المقبل. يجب على المانحين الدوليين حثه على استخدام المساعدات بضبط النفس. قبلت تركيا عروض المساعدة من 70 دولة ومنظمة دولية. وحشد الاتحاد الأوروبي أكثر من 30 فريق بحث وإنقاذ وفريق طبي. ومن المؤمل أن تجد هذه الفرق، وكذلك فرق من دول مثل إيران والصين والإمارات العربية المتحدة، طريقة للعمل معًا في مواجهة هذه المأساة الإنسانية. وبالنظر إلى حجم هذه الكارثة، يجب على السياسيين ألا يعرقلوا جهود الإنقاذ".
برلين تساعد سوريا وتنتقد نظام الأسد
قامت الحكومة الألمانية بإمداد منطقة الزلزال في شمال سوريا بالمساعدات الإنسانية والتجهيزات التقنية الضرورية في عمليات الإنقاذ. رئيسة البرلمان "بوندستاغ" بيربل باس، وكما المستشار أولاف شولتس، أكدت (الثامن من فبراير) أن "الزلزال أثر على الكثير من الأشخاص الذين يكابدون معاناة كبيرة في الأصل وبالذات في سوريا. وضعهم آخذ في التردي من الأهمية بمكان أن تتمكن منظمات الإغاثة من الوصول إلى كل مكان في منطقة الكارثة بسرعة". المستشار شولتس أكد بدوره أن ألمانيا تورد مساعدات عينية إلى تركيا وتجري اتصالات مكثفة مع الأمم المتحدة من أجل توصيل مساعدات إنسانية أيضا إلى منطقة الزلزال السورية لأن حجم المعاناة هناك هائل أيضا".
وفي سياق متصل، أوضحت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك (التاسع من فبراير) في تصريح لبرنامج "مورغن إيكو" الذي تبثه شبكة "في.دي.إير"، نقلته عنها وكالة "د.ب.أ" قالت فيه إن المشكلة هي أن "نظام الحكم" لم يسمح في الماضي بدخول أية مساعدات إنسانية، وتقصد بذلك نظام الرئيس بشار الأسد. واستطردت بيربوك موضحة "حاولنا خلال الأيام الأخيرة، في ظل هذه الكارثة، القيام بكل شيء من أجل فتح معابر حدودية أخرى". رئيسة الدبلوماسية الألمانيةكشفت أيضا أنها بحثت الموضوع مع نظيرها التركي. بيربوك ذهبت أبعد من ذلك حينما سألت عمّا إذا كانت الحكومة الاتحادية في اتصال مع دمشق فردت "إننا على اتصال مع جميع الأطراف الفاعلة التي يمكننا من خلالها حاليا تحقيق وصول المساعدات"، غير أنها أكدت أن حكومة بلادها لا تتعاون مع "نظام الحكم لهذا السبب يتعين علينا السير في طرق أخرى قمنا بالسير خلالها في الماضي عن طريق الأمم المتحدة أيضا، كما أننا نستفيد حاليا من أية فرصة للتمكن من إيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة".
إسرائيل وسوريا المعادلة الصعبة
أكدت مصادر إعلامية إسرائيلية منذ الاثنين (السادس من فبراير) أن الدولة العبرية تلقت طلبا من سوريا للمساعدة في جهود الإغاثة عقب الزلزال، وأن إسرائيل مستعدة للقيام بذلك. وتعتبر هذه المبادرة خطوة نادرة في العلاقات بين الجارتين "العدوتين". وقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بهذا الصدد إن طلب المساعدة الإنسانية من سوريا نقله "مسؤول دبلوماسي" لم يفصح عن اسمه. وأضاف "وافقت على هذا وأعتقد أن هذه الإجراءات ستحدث قريبا". غير أن مصادر إعلامية سورية من بينها صحيفة "الوطن" القريبة من النظام نفت تلك المعلومات. ونقلت وكالة رويترز أن مسؤولا إسرائيليا أكد أن الذي تقدم بالطلب هم "سوريون"، ورفض تحديد ما إذا كان الأمر يتعلق بالنظام أم بالمعارضة السورية. من جهتها كشفت هيئة البث العامة الإسرائيلية (راديو كان)، أن روسيا هي من نقلت الطلب "السوري" إلى إسرائيل. غير أن الأكيد هو أن الأخيرة أرسلت رسميا مساعدات إلى تركيا شملت أغطية وخياما وأدوية، وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أيضا أن حكومة نتنياهو مستعدة أيضا لاستقبال الضحايا إذا طُلب منها ذلك.
في سياق متصل، تخشى إسرائيل من استغلال إيران فرصة مأساة الزلزال لنقل أسلحة إلى سوريا تحت ذريعة المساعدات. وبهذا الصدد هدد مسؤول عسكري إسرائيلي في تصريح لموقع "إيلاف" السعودي بشن هجمات تستهدف تلك الأسلحة. وأوضح أن "هناك معلومات تشير إلى أن إيران ستستغل الوضع المأساوي في سوريا وتحت غطاء المساعدات الإنسانية لإرسال أسلحة ومعدات لحزب الله وأسلحة وأجهزة ومنظومات تساعد في تموضعها بسوريا، الأمر الذي لن تقبل به إسرائيل، وستكون جاهزة لضرب أي معدات أو أسلحة في أي مكان".
صحيفة "زودويتشه تسايتونغ" الألمانية (الثامن من فبراير) كتبت معلقة: "دبلوماسية الكوارث "هو المفهوم الذي يصف عملية تقديم المساعدات لمناطق الكوارث، بمعنى إرسال إشارة إيجابية يمكن استخدامها لاحقًا لتحسين أو تقوية العلاقات بما يتجاوز الإغاثة الفورية في حالات الكوارث. في تركيا، التي حافظت على علاقة دبلوماسية متقطعة لسنوات عديدة مع إسرائيل، تم قبول المساعدة من الدولة العبرية بامتنان ووصلت بالفعل. هذه العملية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي تسمى "عملية غصن الزيتون". كما عُرضت المساعدة على الدولة المعادية سوريا، لكن دون رد إيجابي".
الزلزال يمكن أن يعجل بنهاية أردوغان
تداعيات الزلزال الكارثي تزيد الضغوط على الرئيس التركي طيب رجب أردوغان قبيل ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي يتوقع المراقبون أن تكون فيها المنافسة حامية الوطيس. وتصاعدت الأصوات المنتقدة لبطء عمليات الإنقاذ رغم أن أردوغان حرص على زيارة المنطقة المنكوبة وتفقد أعمال الإغاثة فيها. ويجتاز أردوغان وضعا سياسيا دقيقا حتى قبل الزلزال، بسبب سياسته الاقتصادية والارتفاع القياسي لمعدلات التضخم، إذ بلغ ارتفاع الأسعار على المستهلكين نسبة 85% العام الماضي. وتنتشر مشاعر اليأس والغضب المناطق التي طالها الزلزال، حيث عبرت العائلات المنكوبة عن غضبها ضد الحكومة.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "دير ستاندرد" النمساوية (التاسع من فبراير) "وفقا للطموحات والمعايير التي وضعتها تركيا لنفسها، من المفروض أن تكون مسلحة بشكل أفضل من أي وقت مضى لمواجهة كارثة من هذا النوع. حتى عندما انهارت كتل من الشقق مثل ألعاب الورق. يدفع الناس ضريبة للحماية من الزلزال التي كان من المفترض أن يظهر أثرها في مباني آمنة على مدى العقدين الماضيين، بدلا من أن تستفيد منها الإدارة الفاسدة. سيتم إلقاء اللوم في ذلك بلا شك على أردوغان، الذي أضعفته بالفعل الوضعية الاقتصادية وهو الذي يستعد لانتخابات حاسمة في مايو المقبل يمكن أن يعجل الزلزال بنهاية أردوغان السياسية، وإن كان المرء يتمنى أن يكون ذلك لأسباب أخرى".
امتحان صعب ينتظر المسؤولين الأتراك
يبدو أن المسؤولين الأتراك فضلوا غض الطرف عن التحذيرات بشأن مخاطر الزلازل وفق العديد من المنتقدين. جميع المناطق التركية تقريبا معرضة لخطر الزلازل، لكن يبدو أن المسؤولين يعملون وكأن هذا الخطر غير موجود. بعد كل هزة عنيفة، يصيغ السياسيون وعودا جديدة بأن كل شيء سوف يتحسن، لكنهم بعد ذلك يغضون الطرف عن تحذيرات الخبراء وتستمر أعمال البناء المغشوشة التي تهدد حياة الناس. حتى بعد وقوع الزلزال الأخير، فإن دار لقمان قد تبقى على حالها في انتظار كارثة أعظم، لا قدر الله. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تنتظر مدينة إسطنبول التي يبلغ عدد سكانها 16 مليون نسمة بدورها زلزالاً عنيفاً يحذر منه الخبراء منذ سنوات، لكن لم يتم فعل أي شيء، والكثير من البنايات الجديدة لا تُنجز وفق المعايير المضادة للزلازل. أما في سوريا فيبدو الوضع أعقد بكثير.
صحيفة "لافانغوارديا" الإسبانية (الثامن من فبراير) كتبت "في الوقت الذي تعتبر فيه تركيا بلدا مزدهرا نسبيًا شهد نموًا اقتصاديًا كبيرًا في السنوات الأخيرة (تسعة بالمائة في 2021)، فإن سوريا دولة تعيش حالة من الفوضى، مزقتها الحرب الأهلية على مدى 12 عاما إن الوسائل التي يمتلكها البلدان للتعامل مع الكارثة متفاوتة تمامًا. تطورت صناعة البناء في تركيا بقوة في السنوات الأخيرة، بل إن لها روابط بالسلطة السياسية. تم إدخال قواعد لبناء مبانٍ مقاومة للزلازل. لكن كل شيء يشير إلى أنه لا يتم الالتزام بها بدقة غالبًا ما تكون الكوارث الطبيعية أمرًا لا مفر منه إلى حد كبير. لكن يجب على السلطات والشعوب أن يسألوا أنفسهم دائمًا ما إذا كان قد تم القيام بكل ما هو ممكن إنسانيًا للتخفيف من تأثير مثل هذه المآسي. لا يبدو أن هذا هو الحال في تركيا".
فيديو قد يعجبك: