يدُ تُعزي وأخرى تُوثق.. صحفيو سوريا وسط أنقاض الزلزال
كتبت- سارة أبو شادي
تصوير من سوريا - ليث الدغيم
خلال نحو 13 عامًا وهم شهود على أحداث بلادهم المؤلمة، الحرب في أيامها الأولى والقصف بالبراميل المتفجرة وقنابل الكيماوي، ثم التهجير من مدنهم الأصلية إلى أخرى ، ووسط تلك الأزمة وما بين فقدانهم إما لعائلاتهم أو لبيوتهم لا خيار لهم سوى الاستمرار في عملهم لنقل الصورة للعالم.
الصحفيون في شمال سوريا يتقبلون العزاء في أحبائهم بيد، بينما الأخرى تحمل الكاميرا والقلم لتوثق ما حدث من دمار نتيجة الزلزال الذي ضرب وطنهم فجر الإثنين السادس من فبراير ، حكايات عدة يسردها بعضهم لمصراوي من المدن المنكوبة التي باتت بفعل الطبيعة "خاوية على عروشها" فقط مجرد أنقاض منازل دون سكانها.
"لم نعرف كيف نخرج من المنزل".. "مصعب الياسين" صحفي سوري يعمل بعدة وكالات محلية وإقليمية، منذ عام 2011 بدأت رحلة مصعب في التهجير، فهو ينحدر من منطقة سهل الغار من محافظة حماة وسط سوريا، لكن وبسبب الحرب واشتداد القصف على مدينته هُجر من منزله لنحو 16 مرة تنقلّ فيها بين المدن المختلفة، حتى استقر بالنهاية في عام 2020 بمدينة سلقين التابعة لإدلب أحد مدن الشمال السوري.
في صباح السادس من فبراير وتحديدا في الرابعة و 16 دقيقة، كان مصعب وأبنائه الـ3 وزوجته قد خلدوا جميعًا للنوم، لكنهم استيقظوا على صوت هزة مخيفة، كان البناء يهتز بشكل صعب وبدأت زوجته تردد "المنزل سينهار علينا أنا أسمع أصوات القطع الإسمنتية وأحجار البناء تتساقط" حاول مصعب وأسرته الخروج من المنزل واجهوا صعوبة كبرى بالرغم من أنّهم يقطنون بالطابق الأول وفوقه نحو 5 طوابق أخرى.
البناية التي يقيم بها مصعب باتت على وشك الانهيار الكامل، الحجارة الإسمنتية كانت تتساقط حوله من كل مكان، باب الخروج على وشك الاختفاء الكامل بسبب الحجارة التي تسقط حوله، كان الرجل أمامه خيارين فقط إما أن يظل داخل البناية وينهار المبنى عليه وأطفاله، وإما الخروج وقطع الحجارة تتساقط وربما تنال من أحدهم، بينما البعض في الشارع يصرخ عليه "لا تخرج لا تخرج"،لكنّه اتخذ قرار الخروج وبالفعل أصيب ببعض الجروح في رأسه.
المسافة من باب منزل مٌصعب لخارج البناء يمكن أن تكون 20 ثانية لكن الرجل وعائلته شعروا أنّ المسافة وصلت إلى 5 دقائق، فور خروجهم ابتعدوا عدة أمتار كان منزلهم ينهار أمامهم، أحد الأطفال من جيرانه حاول الخروج من البيت فسقطت على رأسه حجارة أردته قتيلًا ، وقف مصعب يشاهد الانهيار على الطريق كانت الأرض تهتز من أسفل قدميه والأمطار تتساقط من السماء بغزارة بينما الرُعب والخوف يعتلي ملامح وجوه جميع من حوله.
"كان الهاتف بجيبي أعطيته لزوجتي وقلت لها ابدئي بتصويري" الرابعة وعشرون دقيقة ، بدأ مُصعب في أداء عمله، لم تمر سوى دقائق قليلة على ما أصابه وعائلته، لكنّه نجا رفقة هاتفه الخلوي وهذا يكفي من أجل استكمال مهمته، بدأ بتصوير مقاطع فيديو فيديو توثق الكارثة والحديث عن كل شيئ حوله، "نعم فقد ذهب كل شيئ لدي لكن ما زال الهاتف معي".
مع شروق الشمس ذهب مصعب رفقة أسرته إلى أحد مخيمات بمخيم النازحين القريبة منهم، اطمأن على زوجته وأبنائه بالمخيم رغم ظروفه الصعبة لكنهم لم يجدوا مأوى غيره، وعاد من جديد إلى المنطقة التي وقع بها منزله من أجل أداء واجبه توثيق ما تسبب به الزلزال، كان الرجل يُحاول الاطمئنان على المصابين من جيرانه بينما في ذات اللحظة يوثق عمليات انتشال جثامين المتوفين منهم، كما أنّ العديد من الوكالات الإقليمية جعلته مصدر للخبر في المدينة والتي سقط فيها فقط أكثر من 50 بناء .
"الجميع خسر أقاربه وأصدقائه وجيرانه وأبنائه، لكن من عز علينا هو تخلي المجتمع الدولي عنا لو دخلت المساعدات في اليوم الأول لما وصل عدد الضحايا إلى ما وصل إليه، ولا تزال آلاف العوائل ضمن المفقودين تحت الأنقاض لكن في النهاية مستمرين في أداء واجبنا رغم كل شئ".
من بلدة حيان نزح عبيدة الحياني المصور السوري، وعائلته قبل سنوات نتيجة الحرب واشتداد القصف عليهم، ليستقروا في عفرين إحدى مدن الشمال السوري الواقع تحت سيطرة المعارضة، في فجر يوم الإثنين، استيقظ الشاب وعائلته على صوت هزة شديدة، كانت البنايات تتساقط من حوله وأصوات الصراخ في كل مكان.
كان عُبيدة يقطن بالطابق الثاني، المبنى الذي يعيش به كان على وشك السقوط، كان يعتقد أنّه لن ينجو من الموت وستنهار الحجارة عليه وأطفاله الاثنان وزوجته، لكنّ القدر شاء أن ينحو الشاب وعائلته قبل ثواني قليلة من انهيار المبنى، خرج إلى الشارع بملابس صيفية تحت المطر الشديد حتى أنّ جسدا صغاره كانت تنتفض من البرد الشديد.
"أنا كمصور تركت عيالي وراي وتركت عيلتي وروحت أوثق الدمار اللي صار" فقد عبيدة سيارته ومنزله، ترك عائلته داخل خيمة مع نحو 20 عائلة أخرى، وبعد نحو ساعة واحدة ودّعهم مغادرًا إلى بلدة جنديرس إحدى مدن الشمال التي كانت الأكثر مأساة في تلك الكارثة حيث دمرت المدينة بنسبة 90%..
نجا عبيدة بهاتفه الخلوي وكاميرته التي اعتبرها أحد أبنائه وخرج بها من المبنى، حملها على يديه واستقل دراجة بخارية بعدما دمرت سيارته، وبدأ يتجول في شوارع جنديرس يلتقط صورًا للأنقاض التي ملأت الشوارع، وعمليات انتشال الضحايا، ويوثق الابتسامة الممزوجة بالألم على ملامح المنقذين أثناء العثور على ناجين.
5 أيام قضاها الشاب يتجول في المدينة يلتقط صورًا ويسجل مقاطع فيديو، يسعى لنقل صورة ما حدث بالمدينة، يطمئن على أبنائه الصغار عبر الهاتف يسأله صغيرة "وينك بابا اشتقتلك" لكنّ الإجابة دائمًا " ما فيني أعود أنا واجبي هون، كنا نازحين واليوم صار ننزح من جديد هذه حياة السوريين".
بحكم عملها كصحفية مستقلة فلم ترتبط حنين السيد بموعد دوام ثابت، ما دفعها في ذلك اليوم أن تستيقظ لوقت متأخر من اليوم، لإنجاز بعض الأعمال خاصة وأنّ أطفالها قد خلدوا للنوم، فجلست رفقة زوجها الأمر الذي كان غريبًا عليهم فلم يعتادوا السهر لذلك الوقت، دقت الساعة الرابعة و 16 دقيقة، فإذا بها تتفاجأ بهزة عنيفة لتسرع نحو صغيرها ووالدتها التي كانت في زيارتها.
تعيش حنين في مدينة عفرين، عملت في العديد من القنوات والإذاعات السورية، بعدما بداية الهزة بثواني بدأت الحجارة تتساقط من المبنى الذي تعيش به السيدة، أمسكت طفلتها وأمها بينما حمل زوجها ابنها و هرعوا نحو باب الخروج من المنزل، فبالرغم من أنّهم يعيشون بالطابق الأول لكنّ في محاولة الخروج تساقطت الحجارة الإسمنتية عليهم من كل جانب.
"أنا عشت قصف النظام وطائرات وبراميل عشت كتير شغلات سيئة بالحرب بس الزلزال أصعب شيئ بنعيشه" خرجت حنين مع عائلتها من المنزل بسلام دون إصابات، كانوا يركضون جميعًا نحو سيارتهم والتي طالتها الحجارة فدمرت جزءًا كبيرًا منها، لم يكن أمامهم خيار آخر سوى الدخول إليها ومحاولة استقلالها رغم الزجاج الذي يتثار على مقاعدها بالكامل والذي أصابهم فيما بعد بجروح، خاصة وأنّ أسلاك الكهرباء قد سقطت على الأرض التي تملؤها مياه الأمطار لذا كان عليهم الهروب من المكان حتى لا يتأذوا من الكهرباء.
خرجت حنين من منزلها بدون حجابها وحذائها هي ووالدتها، لم يفكرون في شيء سوى النجاة فقط بحياتهم، بعدما استقلوا السيارة توجهوا على أطراف مدينتهم فاستقبلتهم عائلة كردية تعيش في منزل ريفي ذو طابق واحد على أطراف البلدة مكثوا لديهما ساعات قليلة، وبعد ظهور أول ضوء للنهار ذهبوا إلى أحد أصدقائهم، والذين اعتقدوا أنّهم باتوا في أمان لديهم حتى جائت الهزة الارتدادية فكاد أن يسقط عليهم المنزل من جديد وخرجوا بصعوبة منه رغم أنّه يتكون من طابق واحد.
رغم خروج حنين الآمن وعائلتها لكنّ قلبها كان معلقًا بشقيقيها المتواجدين في مدينة أنطاكيا التركية والتي ضربها الزلزال هي الأخرى، وظلت الفتاة لساعات تحاول الاطمئنان عليهما، حتى تمكن صديق لها من الوصول إلى أحد أشقائها والذي نجا من الزلزال رفقة عائلته، فيما ظل الآخر أسفل ركام المكتب الذي يعمل به لعدة ساعات حتى خرج بسلام هو الآخر.
في اليوم الثاني عادت حنين إلى منطقتها، التقطت العديد من الصور لمنزلها وشارعها، حاولت أن توثق المأساة التي أصابتها وغيرها من أبناء الشمال السوري وإظهارها أمام العالم لإدراك حجم الكارثة رغم المرض الشديد الذي أصابها، ودعت الفتاة مدينتها وبلدتها وقررت مغادرة عفرين نحو منزل عائلتها في إدلب، "في دقائق الزلزال عمل اللي الصواريخ والقصف مقدروش يعملوه لسنوات، كل يوم بشوف في مناماتي كوابيس إن أنا تحت الأنقاض".
لم يختلف الأمر كثيرًا مع المصور الصحفي السوري ليث الدغيم، فالشاب استيقظ على صوت هزة أرضية شديدة غرفته تتحرك يمينًا ويسارًا والأشياء تتساقط من حوله، لكنّ بنايته التي يعيش بها في مدينة إدلب تحملت الكارثة دون خسائر كبيرة، اعتقد ليث أنّ الهزة مرت بسلام دون خسائر كبيرة لكن وبعد نصف ساعة بدأ يتصفح الأخبار متفاجئًا بما خلفته تلك الهزة التي حدثت لثواني معدودة.
"ماتوقعنا المصيبة لهاد الدرجة شوفت مناظر تدمي القلوب" لم ينتظر الشاب بل بدأ في الاستعداد للذهاب إلى عمله ، وبالفعل حمل الكاميرا الخاصة به وتوجه نحو مدينة سرمدة أحد مدن الشمال السوري لتغطية الحادث بها، تلك المدينة التي فقدت من أبنائها الكثير ضمن ضحايا الزلزال، بدأ ليث يوثق ما يحدث حوله، أطفال تخرج من أسفل الركام ما بين ناجين ومتوفين، وعائلات خرجت جميعها جثامين دون أن ينجو من بينهم أحد ، وصغيرة غفل الموت عنها بعدما خطف أسرتها بالكامل، فخرجت وحيدة لتبدأ حياتها بدونهم.
لم تمر الكارثة على ليث هو الآخر هكذا فأبت أن تتركه دون أن تسرق منه أحبائه وبعض من أصدقائه، وبينما يقوم الشاب بعمله تفاجأ باتصال هاتفي يبلغه بوفاة صديقه عبد الكريم، وبعد دقائق معدودة استقبل نبأ وفاة صديقه الآخر عمار، لتنهال رسائل التعزية على الشاب في وفاة نجل عمه وزوجته وأطفاله، لم يستوعب الشاب الصدمات التي توالت عليه في لحظات معدودة، لكن ورغم ذلك لم يترك مكانه بل ظلّ يوثق وينقل الصورة.
"الصدمة كانت كبيرة علينا لكن رغم هيك مافينا نضل بالبيت ما فينا نوقف في العزاء مكتوفي الأيدي" خرج ليث من مدينته "إلب" إلى جنديرس والتي تبعد عنه مسافة كبيرة من أجل توثيق ما يحدث بها، تلك المدينة التي فقدت الكثير من أبنائها ومبانيها وأصبحت مدمرة بالكامل، كان على ليث ورفاقه أن ينقلوا صورتها للعالم، الشاب الذي منذ ولادته ورغم الحرب في بلاده لم يواجه أيام صعبة مثل التي يعيشها حاليا، فقبل سنوات فقد والده المعتقل في السجون، واعتقد أنّه لن يمر عليه يومًا صعبًأ آخر مثل يوم فقدانه لأبيه، لكنّ ليث يعيش اليوم أسوأ أيامه يوثق الكارثة في النهاري ويبكي على فراق أحبائه في الليل.
في الرابعة والنصف صباحًا وبعد انتهاء الزلزال خرج محمد عبيد الصحفي الصوري رفقة عائلته من المنزل الذي لم يتأثر كثيرًا كغيره من منازل المدن التي طالها الزلزال، من أجل الاطمئنان على عائلته وأقاربه وأيضًا لمساعدة رجال الدفاع المدني في عمليات البحث التي يقومون بها، حاول الشاب أن يجمع بين عمله الصحفي في توثيق ونقل ما حدث، وبين إنسانيته في مساعدة عمال الإنقاذ والإغاثة في البحث عن ناجين.
"شاهدنا ووثقنا تلك الكارثة بكل ما أوتينا من قوة، لا يمكن لكلمات أن تصف الكارثة التي حلت بمناطق الشمال السوري" بعد ساعات قليلة من الكارثة استقبل الشاب نبأ وفاة نجل عمله و7 من أطفاله وزوجته، بينما توفى نجل عمه الآخر في تركيا بأزمة قلبية بعد الزلزال بنحو 15 دقيقة ، وقف محمد يستقبل العزاء في نجل عمه وعائلته وبعدما اطمأن عليهم في قبورهم، عاد يحمل الكاميرا الخاصة به من أجل توثيق ما يحدث داخل مراكز الإيواء التي امتلأت بالمنكوبين، الذين هم في حاجة إلى مساعدة كبرى.
"هذه الأيام التي تسجل بالتاريخ كأكبر مأساة مرت على السوريين وكانوا لوحدهم أمام أعين العالم بالكامل في هذه الأيام نساعد من جهة ونحاول نقل الصورة للعالم في ظل انقطاع شبه كامل لخدمات الإنترنت وحتى الكهرباء من جهة أخرى، سجلنا بهواتفنا المحمولة وبعض معداتنا، نحاول إيصال صوت المتضررين للعالم كنا بحاجة للمساعدة لكنّ السوريين كانوا بمفردهم أمام العالم".
فيديو قد يعجبك: