لا يُدرك الألم إلا من به ألم.. جدارية من سوريا سلامًا للمغرب
كتبت- سلمى سمير:
على حطام بناء في بلد أنهكه الحرب، وأجهز عليه زلزال مدمر في فبراير الماضي، قبل أن يلتقط أنفاسه من تبعات دمار امتد لسنوات، وقف "الأسمر" ممسكًا بفرشاته ووعاء طلاء، يرسم ما يُوحى إليه من خياله وقلبه، ذكريات تُخلدها أنقاض مدينة إدلب المنكوبة.
استيقظ عزيز الأسمر، صباح السبت، على نبأ زلزال المغرب الذي خلف ورائه آلاف القتلى والمصابين، ليعيد إليه جرح فاجعة الشتاء التي ألمت بالمدن السورية، فما كان منه إلا إمساك فرشاته ووعاء الطلاء والألوان. ذهب إلى إحدى المناطق المقصوفة في مدينته، وعلى الأطلال أحيا للمغرب ذكرى ودعوة.
قضى "الأسمر" الخمسيني صباحه هنا، وقلبه هناك، حتى أبصرت جداريته النور.. "سلامات يا المغرب".
جداريات الأسمر تروي سردية كل وطن متعب بالحرب وبالكوارث، تُخلد آلام شعب ضربه زلزال فتك ببقاياه المدمرة بحرب دامت 12 سنة، عايش "الأسمر" ثمانية عجاف منها، وقد عاد إلى سوريا في 2015 بعد عقدين من الزمان قضاهما في لبنان خطاطًا في مجال النشر والإعلانات.
20 عامًا في بلد غير بلده الأم لم تنسه أبناء شعبه، فعاد إليهم يشاركهم آلامهم في وقت فر ملايين غيره إلى قوارب الهجرة من جحيم الحرب إلى أهوال البحر والبر في دول الجوار. لم يكن يفكر في ترك لبنان إلى بلد آخر غير سوريا.
منذ وصول "الأسمر" لسوريا، أصبح الرسم على الجدران المهدمة بالقصف الصاروخي أسلوبًا له ولفريقه، يتجولون بلدات الشمال السوري، يلونون أحداثًا ظلماء فوق الحطام، علها تستحق أن تكون التوثيق اللائق، فلكل رسمة حكاية وإن لم يعرفها الناس فصاحب الرسمة بها أدرى هي والجدار الذي رُسمت عليه.
يد عاجزة ممدودة لقلب الحبيب
بين لوحات الأسمر واحدة رسم عليها يدًا تمتد إلى قلب لا تكاد تلمسه، قال عنها الأسمر إن أصدقاءه كانوا واقفين قرب الحطام أثناء الزلزال يسمعون أنين أقاربهم تحت الركام حتى انقطاعه بشكل تام وسط عجز المسعفين والأطقم الطبية عن تقديم يد المساعدة. "نصور كيف اليد ممدودة لقلب الحبيب أثناء موته تحت الأنقاض مع عجز كامل عن إنقاذه".
لم يكتف "الأسمر" وقت زلزال سوريا بتوثيق الأحداث على الجدران، بل انضم للمتطوعين محاولًا إنقاذ كل من يحتاج المساعدة، ومع نقص المساعدات التي نالتها سوريا في الزلزال، اقتصرت مهمة "الأسمر" على انتشال جثث موتى لا يعرفهم وتوديعهم إلى مثواهم الأخير، فهذا قبر رقم 1 وهذا رقمه 100، يدون كل ما يعرفه عن أصحاب القبور، فعلى شاهد هذا كتب "طفل يبلغ من العمر 7 سنوات يرتدي كنزة خضراء" أملًا في تعرف أهله عليه لاحقًا، حال استمر البحث عن جثث ضحايا الزلزال.
وحد زلزال المغرب وجعًا واحد عاشه البلدين العربيين، فمشهد الأم الثكلى هنا هو نفسه في سوريا باختلاف الأشهر الفاصلة بين الكارثتين التي فتحت للأسمر جرحًا يحاول تضميده منذ أشهر. يتذكر "الأسمر" متحدثًا لمصراوي مشهدًا لصديقه البالغ من العمر 35 عامًا، كيف مد لزوجته يده لينقذها قبل انهيار المبنى، إلا أن إرادة القدر أذنت بانشطار البناء قبل أن تصلها يده بثانية واحدة، ليتحسر على صرخات شريكة عمره وهي تطلب المساعدة دون جدوى، وتلفظ أنفاسها الأخيرة، ويبقى هو وحيدًا رفقة ابنته الصغيرة.
صديق آخر لا يزال مشهد بكائه محفورًا في ذاكرة "الأسمر" بعد وصول خبر انهيار المبنى على عائلته كلها في تركيا، بينما كان هو في سوريا، قبل أن يخبره أحدهم بإنقاذهم فيفرح ويوزع الحلوى سعيدًا بالخبر، ليتبين لاحقًا كذب النبأ وأن الجميع ماتوا تحت الأنقاض. "كان كغصن قُطع من شجرته".
بين فراق صديق له إثر انهيار المبنى عليه وآخر شت عقله وهو لا يعلم من يقبل من جثامين عائلته بعد استخراجهم من تحت الأنقاض، يرسم "الأسمر" ما ينفجر في خياله ويترقرق من إحساسه انسيابًا على كل حجر، فلم يكتف بترجمة أهوال الزلزال فقط إلى فن، بل انعكف على كل ما تتجمع عليه قلوب أبناء هذا الوطن العربي الكبير من مشاعر وذكريات وآسى تنطق بهويتنا، فيرسم مرة مخلدًا طبيب الغلابة الدكتور محمد مشالي، ومرة عن غرق قارب المهاجرين، ومرات عن التضامن مع غزة الأبية في وجه الحصار والحرب.
فيديو قد يعجبك: