"نفحات رمضانية" يقدمها الشيخ محمود الهواري: فتح مكة وتمكين المستضعفين (20)
كتب - محمد قادوس:
في حلقات خاصة لـ"مصراوي"، وعلى مدار الشهر الفضيل، يقدم الدكتور محمود الهواري، عضو المكتب الفنى لوكيل الأزهر، وأحد خطباء الجامع الأزهر، إطلالة رمضانية روحانية تتجدد مع أيام هذا الشَّهر الطَّيِّب، متعرضا لنفحات إيمانية قيمة ونصائح نبوية غالية، ومنها فتح مكة.
يقول الهواري، عبر فيديو خاص نشره مصراوى عبر صفحته الرسمية على فيسبوك:
في العشرين من رمضان من العام الثامن للهجرة المباركة وقع الفتح الأعظم، فتح مكة، بعد أن هاجر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات، وهو يحن إليها، وهي مولده، وصباه، وشبابه، وأهله، وحياته، وفيها بيت رفع قواعده جدُّه إبراهيم عليه السلام، وفيها نزل عليه الوحي، وأكرمه الله بالرسالة، وفيها صدع بالدعوة إلى الله، وفيها دل الناس على ربهم، كل هذه المعاني وأكثر مما يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر كثيرا في الرجوع إلى بلد الله الحرام، فضلا عما كانت عليه كفار مكة من عناد، وصلف، ومحاربة، ومحادة، حتى إنهم ردوه قبلها بعام حين خرج لزيارة بيت الله الحرام، واستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى فيه مصلحة عامة يحوطها لطف وعناية ربانية، فرجع بهم بعد صلح مشهور اسمه: «صلح الحديبية».
ومع أن شروط الصلح كانت تقضي بأن يرجع المسلمون إلى المدينة، دون أن يزوروا بيت الله الحارم، إلا أن الله تعالى أكرم نبيه صلى الله عليه وسلم خاصة والمسلمين عامة بهذا الفتح الكريم، فقد جاء هذا الفتح المبارك بعد صلح عده الصحابة حينئذ ظالما، وبعد سنوات متواصلة من الدعوة والجهاد لتبليغ رسالة الإسلام، فتوج مرحلة مهمة من مراحل الدعوة الإسلامية، وكان أشبه ما يكون بإعلان أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى رسالة ربه، وبلغ دينه، وحكم في خلق الله بمراده، وبقيت الأمانة في أعناق أتباعه لبلغوا دين الله في ربوع الأرض من بعده.
وليس من المبالغة أن نقول: إن فتح مكة يحمل من الدلالات والفوائد والعبر والقيم ما لا يحيط به كتاب، ومن الأحاسيس والمشاعر ما لا تعبر عنه لغة، وحسبنا أن نشير إشارات خفيفة سريعة لما في هذا الفتح العظيم.
ومن أول ما نجد في هذا الفتح أنه رد هذه البقعة المباركة لما كانت عليه زمن إبراهيم الخليل عليه السلام، فإنه رفع قواعد البيت مع ولده إسماعيل عليهما السلام؛ حتى يعبد الله وحده، لا شريك له، لكن الأفكار، والأوهام أبت إلا أن تضم إلى الله شركاء من الأوثان؛ ولذا كان أول ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة أن كسَّر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة، وهو يردد قوله تعالى: «وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا»[الإسراء: 81]، ويصعد بلال على سطح الكعبة ويصدح بالأذان، إيذانا بزوال الشرك والكفر والوثنية، والخرافة، وبداية عصر الطهر والنور والنقاء.
ولقد كان من فوائد فتح مكة أن مكَّن الله للمستضعفين من الأرقاء والفقراء، الذين لم يستطيعوا أن يعلنوا بدينهم في مجتمع مكة، خوفا من سطوتهم، وبطشهم -سواء ممن أسلم مستخفيا، أو ممن كان يرغب في الإسلام، وليؤكد حقيقة طالما أعلنتها الآيات، وهو أن الخلق جميعا متساوون عند الله.
وكان من فوائد هذا الفتح العظيم أنه ثبت أفئدة المؤمنين؛ إذ حقق لهم رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، بتحقق وعد ربهم، دخول البيت والطواف به، بعد أن منعهم منه المشركون، فقال سبحانه: «لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون» [الفتح: من الآية27].
ومن أبلغ فوائد هذا الفتح تلك اللمسة الحانية، وذلك القلب الرحيم الذي اشتمل عليه صدر النبي صلى الله عليه وسلم، فها هو يلقى من كان يشتمه، ويسبه، ويكيد له، فما انتقم سبا ولا شتما ولا ضربا، وإنما قدم لهم من خلقه العظيم ما لا يعرفه إلا العظماء والكرماء، فبعد أن أكرمه الله عز وجل بدخول مكة توجه إلى أهلها ليقول لهم ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم» «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، مع قدرته على استيفاء حقه منهم، وهم الذين أخرجوه، وهم الذين اجتمعوا أمام داره ليقتلوه، فما هذه النفس التي رضيت بالله فلم تنتصر لنفسها، ولم تستوف حقها، إنها العظمة تتجسد في النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم هذا التجرد الذي لا تجده إلا في صاحب الخلق العظيم، إذ لم يحمله ما بينه وبين أهل مكة على أن يأخذ الأمنة من أهلها، بل استجاب لأمر الله ورد مفتاح الكعبة إلى أهله، لتبقى فيهم خالدة، لا ينزعها منهم إلا ظالم.
وكثير من القيم والدلالات التي تؤكد عظمة الشخصية المحمدية، اللهم صل وسلم وبارك عليه.
فيديو قد يعجبك: