إعلان

قرية المعصرة.. متحف مفتوح يروي قصة حضارات قديمة فى صحراء مصر الغربية -صور

01:09 م الإثنين 30 سبتمبر 2024

الوادي الجديد – محمد الباريسي:

في عمق الصحراء الغربية بمصر تتربع قرية "المعصرة" كواحدة من أهم وأقدم القرى في واحة الداخلة محافظة الوادي الجديد، لجمعها بين التراث الزراعي العريق والموقع الأثري الفريد "بيت العرائس"، وتجسد مزيجًا نادرًا من الحضارة والتاريخ المجهول.

يعود الاستيطان في هذه المنطقة إلى آلاف السنين، حيث تركت حضارات قديمة بصماتها على الرمال، لتظل المعصرة شاهدة على تقلبات الزمن وإرثًا غير مكتشف تمامًا.

من معاصر الزيت القديمة إلى مقابر "بيت العرائس" الرومانية، تقف المعصرة كرمز للصمود والتراث، بانتظار أن تُسلط الأضواء عليها لتأخذ مكانها اللائق على خريطة السياحة والتراث المصري.

إرث يمتد لآلاف السنين

أكد الباحث محمود عبد ربه، المتخصص في تراث الواحات بالوادي الجديد، أنه تاريخ الاستيطان الأول في منطقة المعصرة يعود إلى العصر الحجري القديم، وهو ما بين 7200 و6500 قبل الميلاد، خلال هذه الحقبة، كانت الصحراء الغربية تمر بفترة من الرطوبة النسبيّة، ما جعلها بيئة مناسبة للصيادين الرحل وجامعي الثمار.

وأوضح أن الأدوات الحجرية والحلقات الدائرية التي عُثر عليها في محيط القرية تشير إلى استقرار هؤلاء السكان، حيث شكلوا مجتمعات بدائية وأقاموا أكواخًا دائرية، تُعد من أقدم البنى السكنية المكتشفة في الواحات.

وأشار عبد ربه، إلى أن هذه الحقبة التاريخية شهدت بداية تكوين المستودعات الزراعية، والتي تشير إلى أن سكان المنطقة كانوا يديرون مخزونًا من الحبوب والغذاء، مما يعكس التطور التدريجي من نمط الحياة البدائي إلى حياة شبه مستقرة.

الازدهار الزراعي والمعاصر القديمة

وأضاف عبد ربه: "على مر التاريخ، ازدهرت المعصرة كقرية زراعية، خاصة بزراعة الزيتون والنخيل. اشتُهرت القرية بمعاصر الزيت التي كانت تنتج زيت الزيتون عالي النقاء، وهو السبب وراء تسمية القرية بهذا الاسم، رغم أن المعاصر القديمة توقفت عن العمل في الوقت الحاضر، إلا أن الذاكرة الشعبية تحتفظ بتفاصيل هذا النشاط الزراعي الذي جعل المعصرة مركزًا اقتصاديًا مهمًا في الواحة، مع مرور الزمن، أُنشئت معاصر زيت حديثة خارج القرية، بينما تلاشت المعاصر التقليدية".

وأكد، أنه إلى جانب الزيتون، كانت زراعة الأرز تزدهر في محيط القرية، ما أثار اهتمام المؤرخين والمسافرين الذين زاروا الواحة في العصور السابقة، إلا أن هذه الزراعة اختفت مع الزمن بعد فرض حظر على زراعة الأرز في الوادي الجديد حفاظًا على مخزون المياه الجوفية.

المعصرة في السجلات التاريخية

أكد بهجت إبراهيم، مدير الآثار بالوادي الجديد سابقا، أنه جرى ذكر المعصرة لأول مرة في السجلات التاريخية على يد المؤرخ المصري إبراهيم بن محمد بن دقماق (1349-1407)، الذي أدرج القرية ضمن قائمته للقرى الواحية، كان وصف القرية يتضمن إشارات إلى زراعة الأرز، التي كانت واحدة من الأنشطة الزراعية الرئيسية فيها.

ولفت بهجت، إلى أنه في القرن التاسع عشرأشار الرحالة البريطاني جون جاردنر ويكينسون إلى أن عدد سكان القرية كان لا يقل عن 250 شخصًا، كما لفت الانتباه إلى خصوبة الأراضي المحيطة بالمعصرة.

ولفت إلى، أنه في عام 1912، ذكر الرحالة البريطاني ويليام جوزيف هاردينغ كينغ القرية أيضًا، مشيرًا إلى أن المنطقة الواقعة بين إسمنت والمعصرة كانت تعاني من تغطية ملحية كثيفة على سطح الأرض، مما أثر على خصوبتها.

مشاريع الصرف الصحي والتنمية الزراعية

على الرغم من الإرث الزراعي الغني الذي تتمتع به المعصرة، إلا أن القرية شهدت تحديات حديثة تتعلق بالبنية التحتية، نفذت القرية مشروعًا متكاملًا للصرف الصحي لخدمة ثلاث قرى مجاورة منذ أكثر من عشرين عامًا، لكن هذا المشروع تعرض لعدة مشاكل بسبب تزايد عدد السكان وعدم رفع كفاءة خطوط الصرف الصحي. ما أدى إلى تسرب مياه الصرف في بعض المناطق المنخفضة، وهو ما تحاول السلطات المحلية حله من خلال إحلال وتجديد شبكات الصرف.

ورغم هذه التحديات، قدمت المعصرة نموذجًا للقرية المنتجة من خلال تنفيذ مشروع "صوب الخير"، الذي يهدف إلى إنتاج محاصيل بيئية نظيفة لصالح شباب القرية، وهو ما يعزز روح العمل الجماعي والتنمية المستدامة في المنطقة.

بيت العرائس: الموقع الأثري المجهول

أكد محمد إبراهيم، مدير الاُثار بالوادي الجديد حاليا، أنه أبرز ما يميز قرية المعصرة هو موقع "بيت العرائس" الأثري، الذي يُعد واحدًا من أندر الاكتشافات الأثرية في الوادي الجديد، تقع هذه المقبرة على بعد نحو 4.5 كيلومتر جنوب شرق القرية، ويعود تاريخها إلى العصر الروماني، ما بين القرن الأول والثالث الميلادي. تضم المقبرة سبع غرف للدفن مبنية من الطوب اللبن، إلى جانب العديد من القبور العمودية المحفورة في الحجر الجيري.

تشبه تصميمات الدفن في "بيت العرائس" تلك التي وُجدت في منطقة "أسمنت الخراب"، لكنها أبسط من حيث الحجم والتفاصيل، لم يتم إجراء حفريات أثرية واسعة في الموقع حتى الآن، ما يجعله غير مكتشف بالكامل. ورغم عزلته، فإن الموقع يثير فضول الباحثين والمهتمين بالتاريخ القديم للواحات المصرية.

يقول الباحث في التراث الواحاتي، محمود عبد ربه، إن "بيت العرائس" يشكل جزءًا هامًا من تاريخ المعصرة، إلا أن هذا الموقع لا يحظى بالاهتمام الكافي، سواء من الناحية الأثرية أو السياحية، ويضيف: "يجب إدراج هذا الموقع ضمن خريطة المعالم السياحية للوادي الجديد، حيث يتميز بتاريخه العريق وإمكاناته الكبيرة لجذب الزوار."

بين الحاضر والمستقبل

وأكد عبد ربه، أنه مع مرور الزمن، تغيرت ملامح المعصرة، إذ تم استبدال العديد من المنازل القديمة المبنية بالطوب اللبن بمنازل حديثة من الخرسانة والطوب الحجري، ورغم ذلك، لا يزال مركز القرية القديمة مأهولًا جزئيًا، حيث بقيت بعض المنازل القديمة قائمة شاهدة على التراث المعماري الواحي التقليدي.

وفي النهاية فإن القرية تحتاج اليوم إلى اهتمام أكبر من جانب السلطات المحلية، خاصة فيما يتعلق بترميم المنازل القديمة وتطوير البنية التحتية، بالإضافة إلى الترويج لموقع "بيت العرائس" كوجهة سياحية ذات قيمة تاريخية.

قرية المعصرة ليست مجرد قرية زراعية عريقة، بل هي متحف مفتوح يروي قصة حضارات قديمة واستقرار الإنسان في الصحراء الغربية.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان