''جولدا مائير''.. المرأة الحديدية التي كسرتها هزيمة أكتوبر (بروفايل)
كتبت - منى قطيم:
''أشكر الله كل ليلة؛ لأن العريس كان ضعيف وكان من الممكن أخذ العروس منه''.. هكذا كانت ترى أرض فلسطين عندما وصف أحد الكتاب البولنديين أمامها فلسطين بأنها ''عروس جميلة لكن لديها عريس''، إنها تلك العجوز ذات ملامح الوجه القاسية والشعر الأشعث التي تمنت أن تستيقظ يوم لا تجد فيه الأطفال الفلسطينيين، وأمس قد مر 34 عاماً على استيقاظ العالم على عدم وجودها.
قد تكون من هؤلاء اللائي كتب عنهم التاريخ بازدواجية؛ فهي مثال يحتذى به في حب الوطن والتضحية من أجله في أعين قومها، بينما كانت هناك عيون أخرى ''العرب'' تراها على أنها ''امرأة من جهنم''، إنها ''جولدا مائير'' التي جاءت من أمريكا بعدما ضاقت عليها أوكرانيا فقراً، لتسافر إلى فلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل بسنوات لينسج القدر لها سيناريو لم يكن في الحسبان وتصعد تلك المرأة حتى تصل إلى قمة الهرم السياسي في إسرائيل.
استقبل العالم صرخات الوليدة جولدا في 3 مايو 1898 بمدينة ''كييف'' بأوكرانيا، وما هي إلا ثمانية سنوات وانتقلت جولدا بصحبة عائلتها للحاق بالأب الذي سافر لأمريكا قبل ثلاث سنوات، وتبدأ جولدا في تلقي تعليمها هناك، لتتخرج وتستعد لخوض الحياة العملية وقد كانت شخصيتها القوية تشكلت ملامحها وظهرت، لم يمر وقت طويل حتى بدأت جولدا في وضع قدمها على أول طريق السياسة من خلال التحاقها بإحدى الجماعات الصهيونية النشطة بأمريكا، لتسُمع العالم بأسره بعد ذلك بسنوات عديدة صراخات شعوب عانت من جبروتها.
ويدق قلب جولدا التي وصفها بن جوريون - أول رئيس وزراء لدولة إسرائيل - في يوم من الأيام بـ''الرجل الوحيد في الحكومة الإسرائيلية''، لأحد الأعضاء البارزين في تلك الجماعة الصهيونية وهو'' موريس ميرسون''، لتتزوج منه عام 1917، وتمر سنوات قليلة على الزواج، وتعزم ''جولدا'' أمرها على الهجرة إلى فلسطين، واستطاعت من خلال شخصيتها القوية أن تقنع زوجها على الرغم من أن الأمر كان فيه الكثير من المجازفة؛ حيث لم تكن إسرائيل كيان موجود وقتها من الأساس.
رحلة من الشقاء والكفاح خاضتها، جعلت الزوج يشعر أن ''جولدا'' لا وقت متبقي لها لتكون زوجة وأم؛ فقرر الزوجان الطلاق لتنطلق تلك المرأة العنيدة في حب وطنها المؤمنة بقضيته إيمان جعلها، تصل لمكانة مرموقة في المجتمع الإسرائيلي بمجرد أن وُجد على أرض الواقع، لتمنح الوطن كل ما تستطيع أن تمنحه حتى أبنائها التي رُزقت بهم فلقد جعلتهم يدورون في نفس الفلك وهو خدمة إسرائيل.
كانت خطواتها ثابتة بدرجة كبيرة على سلم المناصب السياسية في الوطن الجديد؛ فمن عضو في الكنيست، لوزيرة الخارجية في أكثر من وزارة، مروراً بمنصب وزيرة العمل، وصولاً إلى القمة برئاستها للوزارة في عام 1969، ليستعد التاريخ لكتابة السطور القادمة.
جولدا التي وقفت يوماً على خليج العقبة وقالت ''إني أشم رائحة أجدادي في خيبر''، رأى البعض أنها استمدت قوتها وجبروتها من خنوع العرب ولا مبالاتهم وضعفهم، فعندما حُرق المسجد الأقصى قالت جولدا ''لم أنم ليلتها وأنا أتخيل العرب سيدخلون فلسطين أفواجاً من كل صوب، لكني عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء، أدركت أن باستطاعتنا فعل ما نشاء فهذه أمة نائمة''، ليس هذا فحسب فلقد حاولت تحميل العرب مسئولية من يقُتل من أبنائهم عندما قالت ''يمكننا أن نسامح العرب على قتلهم لأطفالنا، ولكن لا يمكننا أن نصفح عنهم لإجبارهم إيانا على قتل أطفالهم''.
لم تكشف جولدا مائير بجبروتها سوءة بلادها فقط، لكن من خلال مذكراتها كشفت سوءة بعض الحكام العرب، من خلال سرد تفاصيل تعاونهم مع إسرائيل وخيانة عروبتهم في أحضان تلك الدولة التي تمثل للدول العربية العدو الأول المستمر مهما تمر السنين كما يرى الكثيرين.
''أم إسرائيل الحديثة''.. كما كان يلقبها البعض، ظلت تمتلك الكثير من الجمود أمام العرب، وكان تحريك مفاوضات للسلام مع دولتها أمر أصعب من افتراض جعل أمريكا حليف للعرب ضد إسرائيل، حتى جاء ما لا يكن في حسبانها ووقع ما جعلها ترسل برقية تحمل كلمتين إلى أمريكا ''انقذوا إسرائيل''.
حرب أكتوبر هي الشيء الوحيد الذي كسر قوة هذه المرأة وجعلها ترضخ لفكرة المفاوضات، وعن حرب أكتوبر قالت في مذكراتها ''حرب الغفران كابوس مفزع قاسيت منه وسوف يلازمني مدي الحياة''، لتخرج من المشهد بعد خمس سنوات من رئاسة وزراء إسرائيل وتخرج من الوزارة بعد هزيمة بلادها بعد أن دخلت في وقت كانت إسرائيل فيه لا تزال تعيش نشوة نصرها في نكسة يونيو.
لم يكن هناك أغرب من محاولة جولدا بأن تظهر بدور غير دورها؛ فجولدا التي أرادت أكثر من مرة ضرب العرب بالسلاح النووي - كما أشارت عدد من الوثائق - أعربت للرئيس المصري السادات أثناء زيارته للقدس وخلال لقاء صحفي جمع بينهما عن رغبتها في أن ترى اليوم الذي يوقع فيه الجانبين على ورقة تحمل للبلدين السلام الذي يتمناه الجميع، ليشعر البعض أنه كان مجرد كلام دبلوماسي فرضه عليها واقع مؤلم من وجهة نظرها.
وتودع ''جولدا'' الحياة في نفس العام وبعد أقل من ثلاثة أشهر من توقيع اتفاقية السلام بين ''السادات'' و''بيجين'' ويحصلان على جائزة ''نوبل'' للسلام، لتقول أنهم يستحقان جائزة ''الأوسكار'' وليس نوبل على دورهم التمثيلي، ليرى البعض أنها ماتت حزناً بسبب التوقيع على اتفاقية سلام.
فيديو قد يعجبك: