خزانات المياه فيها سم قاتل (تحقيق)
تحقيق- نور عبد القادر ومحمد أبو ليلة:
في أحد ليالي صيف 2014 وبينما كان محمد سعد أحد سكان منطقة جاردن سيتي، يستعد للوضوء حينما كان يفتح صنبور المياه، فوجئ بمياه شرب لونها صفراء، رائحة المياه الكريهة ولونها أجبروه على إغلاق الصنبور فورا، وأخذ يفكر عن أسباب تلوث تلك المياه، راودته فكرة أن تكون شبكة المياه الواصلة بالعقار الذي يسكن فيه ''فاسدة'' كحال منظومة المياه في قرى وأقاليم مصر والتي اختلطت بمياه الصرف الصحي، لكنه عاود التفكير مرة أخرى فهو يسكن في منطقة يقال أنها ''راقية'' تتجمع فيها السفارات والوزارات وشبكة المياه بها سليمة.
اكتشف محمد سعد الذي يعمل طبيبا أن هناك مشكلة في خزان المياه المتواجد في العقار الذي يسكن به، هذا الخزان المتواجد على سطح العقار يرجع إلى خمسينيات القرن الماضي وليس به صيانة أو تنظيف، ولم يتم تطهيره لفترة طويلة، وعندما فتح سكان العقار خزان المياه وجدوا بداخله مجموعة من الفئران والطحالب، اتصلوا برقم وزارة الصحة 150المخصص لتطهير الخزانات لكن لم يجب عليهم أحد، وقتها اضطروا للاشتراك مع شركة لتطهير المياه بمقابل 300 جنيه شهريا، لكن بعد التطهير لاحظوا تغيير في طعم المياه ورائحتها وزيادة نسبة ''الكلور'' بها.
''امتنعنا عن استخدام المياه للشرب والطهي واعتمدنا على المياه المعدنية، واقتصر استخدامنا لمياه الخزان لأغراض الغسيل والاستحمام، لا يوجد متابعة من أي جهة حكومية لخزانات المياه سواء من وزارة الصحة أو الحى او الشركة القابضة للمياه، ونضطر أحيانا للاستعانة بحارس العقار لتطهير الخزان لعدم قدرتنا على التواصل مع الشركة''.. هكذا يقول سعد في لمصراوي.
في مكان أخر حيث منطقة باب الشعرية وبينما تكرر انقطاع المياه عن المنطقة اضطرت شيرين مصطفى ربة منزل، أن تشتري خزان بلاستيكي سعة 200 لتر من أحدى الشركات المجهولة لتخزين مياه الشرب بداخلها، '' منذ أن اشتريت الخزان وأنا أقوم بتطهيره بنفسي وكل مرة ألاقي طحالب بداخله، وساعات أضع كلور وبعض المنظفات لإزالة تلك الطحالب''.. تقول شيرين.
الرقابة غائبة
القرار رقم 166 لعام 2001 الخاص بوزارة الصحة ينص على تبعية خزانات المياه للوزارة، كما ينص أيضا على ضرورة تأكد مفتشي الصحة من استيفاء الخزانات الكائنة بالعقارات للاشتراطات اللازمة والتي تنص عليها هيئة المواصفات، أهمها وجود مادة عازلة تمنع الرشح ولا تسمح بتكوين طحالب أو فطريات مع مراعاة وجود غطاء مُحكم لمنع دخول الحشرات، بالإضافة لوجود بطاقة صحية لكل خزان مدون بها موقع الخزان ونوعه والمادة المصنوع منها ومادة العزل ومادة التبطين والشركة التي تشرف على تطهيره ومواعيد التطهير، وأنه لابد أن يتم التطهير مرة كل شهر.
تواصلنا أكثر من مرة بوزارة الصحة عبر مكتبها الإعلامي لمعرفة الألية الموضوعة للرقابة على خزانات المياه وطريقة حماية المواطنين من تلوث المياه بداخلها، لكن الوزارة رفضت الحديث عن ذلك الموضوع، بينما مصدر مسؤول بالوزارة رفض أن ذكر اسمه، قال أنه من المفترض أن يتم الرقابة الدورية من قبل مفتشي الصحة التابعين للوحدات الصحية للتأكد من سلامة الخزان وسحب عينات لتحليها بمعامل وزارة الصحة، والتأكد من سلامتها وصلاحيتها للشرب، واذا ثبت عدم صلاحيته يتم إخطار الحى لإزالته، ولكن ذلك لا يتم واغلب الخزانات تعدى عمرها الافتراضي والمياه بها غير صالحة وبها طحالب وبكتيريا قولونية وغير مطابقة للمواصفات ودور وزارة الصحة غائب تماما ''.
العقارات المتواجدة في القاهرة وحدها تحتوى على ما يزيد عن 155 ألف خزان للمياه، منها 5 ألاف خزان للمباني الحكومية.. وذلك حسبما يؤكد مصدر بوزارة الصحة فضل عدم ذكر اسمه لمصراوي.
مواد سامة
جزء من هذه الخزانات مصنع من مادة البولي أثيلين الصالحة لمياه الشرب، لكن الجزء الأكبر مصنع من البلاستيك المُعاد تدويره من مصانع بير السلم والذي ينتج مواد سامة.
ويؤكد الدكتور مجدي ريان مدير مركز بحوث المياه بجامعة المنصورة في حديثه لمصراوي، أن هناك أنواعا رديئة من الخزانات المصنوعة من البلاستيك المعاد تدويرها، والتي انتشرت بشكل مكثف في القاهرة والأقاليم.
ويتابع: ''هذه الخزانات يتم طلائها بمواد كيميائية تتحل مع الماء وتنتج مواد سامة، كما أنها قابلة للصدأ، وكل ذلك يؤدي إلى تراكم البكتريا والطحالب والفطريات في مياه الشرب وتتحل تلك المواد في المياه مما تؤدي للإصابة بأمراض في المعدة والتهاب الكبد الوبائي''.
ويوضح أيضا أن أضرار تلك الخزانات تظهر بكثافة في فصل الصيف حينما ترتفع درجات الحرارة وتتفاعل مادة الخزان ومادة الطلاء مع المياه بفعل درجات الحرارة، بشكل يجعل تلك المياه غير صالحة للشرب، وتزيد المعاناة في حالة عدم الإغلاق الجيد وتسرب الفئران والحشرات الى الخزانات ، وتعد مادة ''التيماتودا واللافقاريات'' من الملوثات المنتشرة للخزانات.
لا يتواجد سوى 20 مصنعا لصناعة الخزانات مقيدون باتحاد الصناعات باعتبار أنهم ينتجون مواد مطابقة للمواصفات البيئية والصحية، بالإضافة لـ 4 مصانع فقط مسجلين بهيئة التنمية الصناعية، خصوصا أن هيئة المواصفات والجودة تضع بعض الشروط والمعايير لمن يريد أن يفتتح مصنع لصناعة الخزانات، أهم تلك الشروط هو دفع رسوم مالية كبيرة ووضع رقابة دورية صارمة على تلك المصانع، مما يجعل انتشار ''مصانع بير السلم'' التي لا تلتزم بتلك الشروط أمر طبيعي.
فحسبما يؤكد رئيس شعبة البلاستيك باتحاد الصناعات خالد أبو المكارم، في تصريحات خاصة لمصراوي، فإن هناك مئات من مصانع بير السلم تنتج خزانات من البلاستيك المعاد تدويره، موضحا أن هذه المواد المعاد تدويرها تتفاعل مع الشمس والمواد الكيمائية وتنتج مواد سامة، ويتابع: ورش بير السلم لا تخضع للرقابة ولا تخضع لتأمينات أو ضرائب، وتنتج ''خزانات سامة'' تضر المواطنين - على حد تعبيره.
مصانع بير السلم
في قرية كفر أبو جمعة التابعة لمحافظة القليوبية، والتي تنتشر بها صناعة الخزانات منذ ما يقرب من 10 سنوات، قام مصراوي بجولة داخل عدة مصانع بهذه القرية، عدد مصانع الخزانات بالقرية يتجاوز الـ 35 مصنع، منهم ثلاث مصانع فقط يلتزمون بالمعايير والجودة البيئية في إنتاج الخزانات، والباقي تعتبر ''مصانع بير سلم''.
قمنا بجولة داخل مصنعين يقومون بإنتاج الخزانات من مادة البولي اثيلين النقية، أحمد فتحي شاب في العشرين من عمره وابن أحد أصحاب مصانع الخزانات، يقول أن هناك نوعان من الخزانات يتم تصنيعهم في مصنعه نوع يسمى ''بيور'' مُصنع من مادة البولي أثيلين وهو صالح للشرب ومعه شهادة صحية، والنوع الأخر مصنع من البلاستيك المعاد تدويره.
''فيه خزان بيبقى لونه أبيض بيعكس ضوء الشمس ونوع تاني لونه أسود مصنوع من البيور، بنجيب مواد التصنيع من شركات بتتنج مادة البيور، بننتج 20 خزان يوميا''، كما أوضح أن هناك مصانع تنتج خزانات غير سليمة من البلاستيك المعاد تصنيعه وعليها مواد أخرى، لكنه نفى أن تكون تلك المصانع متواجدة في القرية، حيث قال''فيه مصانع شغالة من خامات سيئة بتسرطن المية والمصانع دي موجودة بعيد عن الكتلة السكنية، قاعدين في المدن الجديدة مش هنا، يستخدموا خامات بلاستيك ويضيفوا عليها مواد تانية بتسرطن المياه''.
عادل مصطفى، هو الاخر صاحب مصنع لتصنيع الخزانات بقرية كفر جمعة يؤكد لمصراوي، أن الخزانات التي ينتجها مصنعه تتكون من ثلاث طبقات من مادة البولي اثيلين درجة أولى، التي يحصل عليها من تجار التجزئة بمنطقة سيدي كرير بالإسكندرية، قائلا:'' الطبقة الأولى من الخزان لونها أبيض والطبقة الثانية سودا علشان تمتص أشعة الشمس، والطبقة الثالثة بيضاء علشان تمنع وصول البكتريا للخزان.
ويقول أن مصنعه يقوم بانتاج خزانات بضمان 5 سنوات ويتم توزيعها على المناطق الساحلية، وأن المجلس المحلي بالمحافظة رفض حصول مصنعه على ترخيص مزاولة المهنة بسبب وجوده في قرية زراعية، مما يجعله يعمل بدون ترخيص حاله كحال مصانع كثيرة بالقرية.
لمشاهدة الفيديو ... اضغط هنا
خزانات متهالكة
لكنه أكد في حديثه لمصراوي وجود مصانع بالقرية تنتج خزانات من البلاستيك المعاد تدويره، حيث يقومون باستخدامات الخزانات المتهالكة من خلال تكسيرها وطحنها من جديد كي تصبح مادة خام تستخدم في عمل خزان جديد، مؤكدا أن هذه المواد سامة وتلوث المياه.
''كامل'' شاب عمره 17 عام ترك تعليمه وتفرغ للعمل داخل أحد مصانع الخزانات يقول أنه يعمل في تلك الصناعة منذ ثمان سنوات، دوره يقتصر على تشغيل ماكينة تصميم الخزان
ويقوم بوضع المواد المصنوع منها الخزان داخل الماكينة ويقوم بتصميمها'' مطلوب مني عدد خزانات معين بشتغل 12 ساعة في اليوم، المهنة متعبة ومحتاجة تركيز كبير لأن ماكينة تصميم الخزان ممكن تدمرنا''.
في نهاية جولتنا قابلنا صاحب مصنع لتصنيع الخزانات من البلاستيك المعاد تدويره ''بير السلم'' رفض ذكر اسمه، كما رفض التصوير أيضا، وبعد موافقته للحديث معنا بعد اقناعه بأننا نتحدث عن كيفية صناعة الخزانات وطريقة علمها ، قال أن هذا المصنع يعتمد على الخزانات البلاستيكية المتهالكة ''احنا بنعيد تدوير الخزان، يعني بيجيلنا خزانات بلاستيك خردة، نحطها في الماكينة وطحنها لحد ما تسيح وتبقى مادة خام، ونبدأ نصنعها من جديد، كأنها خزان جديد''.
وتابع: طن البلاستيك المعاد تدويره لا يتعدى 5 ألاف جنيها، ساعات بنستخدم مادة البولي اثيلين الخالية من الطحالب والبكتريا، بس فيه مصانع معروفة هنا في كفر جمعة هي اللي شغلها كله من البولي اثيلين.
رئيس شعبة البلاستيك خالد أ بو المكارم قال أن أصحاب تلك المصانع التي تسمى ''بير السلم'' يقومون ببيع الخزان بنفس سعر الخزان الأصلي حتى لا يكتشف المواطن فرق الجودة الخامات، كما أن التجار يستغلون ذلك لأن هامش الربح يكون مرتفع في حال بيع خزانات غير مطابقة.
العقوبة ضعيفة
طبقا للقانون رقم 67 لسنة 2006، فإن جهاز حماية المستهلك هو الجهة المعنية بحماية المستهلكين وتوفير لهم الحق في أن يجدوا سلعة أو منتج بالبيانات التي توجبها المواصفات القياسية المصرية، ومن خلالها تتلقى شكاوي المواطنين للإبلاغ عن وجود سلع غير قانونية في السوق المصري، وعلى أثره يتعاون جهاز حماية المستهلك مع مباحث التموين لضبط وإحضار هذه السلع الغير قانونية.
لكن اللواء مدحت عبدالله، رئيس مباحث التموين، قال لمصراوي أنه لم يتم وضع حصر نهائي بحجم مضبوطات خزانات المياه، التي لا تطابق المواصفات والمعايير، وأنه في حالة وجود شكاوى سيتم ضبط المصنع او الخزانات لدى التاجر ، ويتم إرسال عينات إلي هيئة المواصفات والجودة للتأكد من مدى مطابقتها أو عدم طابقتها.
وتابع: إذا ثبت عدم سلامتها، توجه تهمة الغش التجاري لصاحب المنشأة، وهذه التهمة غرامتها تصل لـعشرة آلاف جنيه، والسجن لا يتجاوز ثلاثة أعوام، مشيرا إلى أن هذه العقوبة ضئيلة وهو ما يتسبب في انتشار مصانع بير السلم في تلك الصناعات.
مجدي ريان مدير مركز بحوث المياه، يؤكد أنه حتى الأن لا يوجد دور لمفتشي وزارة الصحة أو الشركة القابضة للمياه، خصوصا أن أكثر من 90% من أمراض الجهاز الهضمي والكبد والكلى التي يصاب بها المصريين بسبب تلوث المياه
وطالب بضرورة عمل حملات توعية ورقابة جادة من مؤسسات الدولة و سحب عينات من خزنات المياه في كافة المناطق، بالإضافة لعمل دورات تدريبة لعمال تطهير الخزانات والرقابة على شركات تطهير الخزانات لضمان صحة وسلامة عملية التطهير نفسها بدلا من تسمم المياة تحت مسمى التطهير من قبل شركات وهمية غير مرخصة وغير خاضعة للرقابة.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: