سامي عبد الراضي يكتب عن مأساة شطورة و''تسيس'' التوك شو
بقلم – سامي عبد الراضي:
عزيزي.. قارئ هذه السطور .. ربما لم تسمع من قبل أو حتى هذه اللحظة عن قرية في شمال محافظة سوهاج ( 460 كيلو متر جنوبي القاهرة ).. وربما سمعت عنها بعد الكارثة التي حلت بأهلها ''الطيبين'' وقتلت حتى كتابة هذه السطور 25 غالبيتهم من شباب ''زي الورد ''.
شطورة قرية بها نسبة التعليم تتجاوز 95 في المئة بها أكبر نسبة لأساتذة الجامعات في مصر، قرابة 500 من حملة الدكتواره والماجستير وبها مثل كل قرية مصرية أطباء واساتذة ومهندسون وقيادات تنفيذية وشعبية .
الجريمة
الكارثة.. نتجت عن جريمة مكتملة الأركان.. صنعها واحد من الأهالي وسط تراخي حكومي وغياب ضمير مفتشي التموين في سوهاج.. ''صانع'' الكارثة حول منزله إلى مخزن به كميات تجاوزت 20 ألف لتر بنزين وسولار.. التخزين كان في براميل.. وتحت الأرض في غرفة مجهزة بالسيراميك ''مانعة للتسرب''.. واشتعلت النيران فجأة في محل يمتلكه ملاصق للمخزن.. وكعادة أهل الريف ''بحري وقبلي''.. تجمعوا بـ''شهامة وجدعنة ورجولة'' وحضرت سيارات الإطفاء وأخمدت النيران.. وحضر أفراد من الشرطة أثناء اللحظات الاخيرة من الإطفاء لإجراء معاينة.. وانصرفوا على التو عندما قال لهم البعض: ''ارجعوا بعد شوية.. نكون بردنا النار''.. ودقائق وكانت هناك محاولات لإخفاء البراميل الممتلئة بالبنزين.. وانفجر برميل وتبعه براميل أخرى.. الغرفة الممتلئة بالبنزين تحت الارض.. وتحول المكان الى كتلة كبيرة من اللهب.. امتدت افقيا قرابة 200 مترا ..ورأسيا الى 70 مترا ..مات 8 في الحال ..تعرف الاهالي على جثامينهم بصعوبة داخل المستشفيات المختلفة لتبدأ اول جنازة جماعية بالقرية فجر الاحد قبل الماضي.. واحتشد الاف في رحلة الوداع و مواكب الموت التي استمرت حتى أمس السبت عندما ودعت القرية آخر ضحية حتى الآن ..ليصل العدد إلى الرقم 25 .
ميسرة والعريس عماد
عزيزي .. النيران كانت قاسية وشديدة والبنزين كان فاعلا في كتابة السطر الأخير لحياة الضحايا.. تشوهت الوجوه ..وتعطلت أجهزة حيوية في الأجساد ..وتدخلت القوات المسلحة وتقرر نقل 19 من المصابين بطائرة عسكرية إلى مستشفى الحلمية العسكري من مستشفيات سوهاج ''المتواضعة في خدماتها ..الكئيبة في غرفها ..قليلة الحيلة في التعامل مع هذه الكارثة.. التائهة في مداواة مرضاها''.. وتزايد سقوط الضحايا.. هذا الشاب الشهم فارس ماضي.. رفض ان يحملوه.. وصعد الطائرة بنسبة حروق تجاوزت ال 90 %.. كان قويا وصلبا ..لكنه مات بعد 24 ساعة من الوصول ..بعد يوم من وفاته كان العريس عماد رشاد طلب 30 عاما.. مصابا بنفس النسبة من الحروق.. تحسنت حالته قليلة في ''الحلمية''.. عماد كان زفافه يوم الخميس الماضي 10 أبريل.. عماد لم تكن والدته تناديه باسمه.. أو تقول له يا ''عمدة''.. كانت تقول له يا ''نور عيني''.. طلب من مرافقه أن يتحدث الى والدته تليفونيا.. قال لها : ''أمي.. أنا باحبك جدا.. أنا كويس.. انا اتحسنت.. هاجي لك قريب. .وسامحيني اني اتاخرت.. مع السلامة ..اطمني'' ..نص المكالمة قالها لي بعض ''المقيمين مؤقتا'' إلى جوار المصابين.. بعدها بدقائق فاضت روح عماد، وعاد الى امه كما وعدها.. عاد في صندوق ليلحق بشقيقه محمود 19 سنة ..الذي مات في مسرح الكارثة .
أصغرهم ميسرة .. عمره 7 سنوات ..كان عائدا من درسه.. مارا بالقرب من المكان عند الانفجار.. روى لي عمه محمود خلاف ''ميسرة.. النار مسكت فيه وهو على بعد 200 متر ..وهم بيطفوا فيه.. كان بيقول لا اله الا الله ..لا اله الا الله ..'' ميسرة ممن حضروا بطائرة عسكرية للقاهرة.. ظروف خاصة وبعد المسافة منع الأم والاب أن يكونا رفيقين لـ ''الصغير''.. كان بجراحه هنا يصرخ ويقول :''عايز اشوف امي وابويا ''..وفي يومه الأخير ..لم يصرخ ..كان هادئا ..لم يطلب رؤية والديه ..صعدت روحه الى بارئها في هدوء .
السياسة والاخوان و ''التوك شو ''
بعيدا عن '' عداد الموت ''.. كان الحزن حاضرا بقوة. القرية تنام مبكرا.. المحال أغلقت أبوابها.. السيدات ارتدين الملابس السوداء ..حتى نساء الاقباط في القرية ارتدين ملابس الحداد.. القرية لم تشهد عنفا طائفيا أو حتى ''شتيمة طائفية '' بين أهلها على مدار عشرات السنين.. هنا نصري هرمينا.. ووليم هرمينا.. والدكتور فوزي.. ورشدي.. وأبنائهم.. واقاربهم ''انصهروا '' جميعا و''ذابوا'' مع الأهالي.. هذا يذهب إلى ''مسجده '' والثاني إلى ''كنيسته'' ولهما رب واحد .
وبعيدا عن هذا المشهد.. حاول البعض صنع ''فتنة''.. خرج برنامج توك شو مسائي ويعلن بعد أسبوع من الكارثة أن الإخوان هم من جمعوا البنزين والسولار، وأن أهل القرية اعترفوا بأن عناصر الإخوان هي صاحبة المخزن والمستودع، وأن القرية ''مأوى'' للإرهابين.. وساق ضيوف تقرير عن القرية اتهامات ليس بها.. وكتب مراسل البرنامج على الشاشة اثناء عرض التقرير ''أهالي شطورة يتحدثون ويعترفون''.. وزادت الام الأهالي وجراحهم.. من ذا الذي يفتش.. ويتهم ويصفهم بـ''الارهابيين''.. ويكتشفون أن مراسل البرنامج ''فبرك وزيف'' التقرير وسجل مع أهالي قرية مجاورة لشطورة .. ومن سوء حظه أن أحد المتحدثين هو عمدة القرية المجاورة.. وعرفه الأهالي من أول كلمة قالها ومن لهجته الغريبة عن لهجتهم.. وتساءلوا لماذا فعل ذلك ..وما مصلحته؟
المراسل يملي على المتحدثين
وكادت تحدث فتنة بين أهالي القريتين.. وكاد السلاح أن يحضر ليعلن عن حرب بين القريتين أقرب لـ''كارثة اسوان'' و تدخل كبار القريتين.. وحضر نائب سابق في البرلمان _شقيق العمدة _ إلى مستشفى الحلمية العسكري بعد ساعات من عرض التقرير.. واعتذر للأهالي وقال إن مراسل البرنامج ''ضحك عليهم وخدعهم''، وافهمهم أنهم يتحدثون فقط عن الكارثة وأملى عليهم كلمات من نوعية ''الإخوان هم اللي ولعوا.. البلد دي كلها إرهاب.. شطورة معقل الإخوان.. والحمد لله ان ربنا حرقهم وقتلهم بالطريقة دي ''. النائب قال إنهم لا يقصدون الإساءة نهائيا، وأنه مستعد أن يعتذر لـ ''بيت بيت'' في القرية .
اعتذار؟
وجرت محاولة لتوضيح الامر مع مقدم البرنامج ''على الهواء مباشرة '' وأن التقرير الذي أعده مراسله به خطأ مهني كبير قد يحدث في فتنة.. وأن المراسل لم يسجل مع أهل القرية المنكوبة.. واكتفى بالتسجيل مع أهالي قرية مجاورة، كاد هذا التسجيل أن يتسبب في فتنة وكارثة جديدة.. ومساء السبت الماضي أعلن مقدم البرنامج لمشاهديه اعتذاره عن ''جريمة مراسل'' لا علاقة له بالمهنة أو المهنية وقال الرجل بشجاعة ''اعتذر لأهالي شطورة وعائلاتها عن خطأ مهني ارتكبه المراسل وسجل مع أهالي قرية أخرى ..و ... و .. ''. كان شجاعا عندما اعتذر عن خطأ مهني كاد يسبب جريمة أكبر، خطأ اسمه ''التسيس'' ..تسيس مأساة ..لا يزال بعض أصحابها يرقدون في المستشفيات بحروقهم وجراحهم، ولا تزال أسر من ماتوا يتذكرون أجمل لحظات لهم مع الضحايا.. يتذكرون ودموعهم حاضرة.. تتساءل بأي ذنب ماتوا.. بأي ذنب تشوهوا.. أحياءً واموات.. شوهتهم اتهامات باطلة و''فبركة'' مراسل.. كان غائبا عن ''المهنية''.. هدفه التسيس والفرقعة على جثامين مشوهة .
حكومة غائبة
أهل القرية وأن ''برّد'' الاعتذار جزءا من جراحهم، إلا أنهم ينتظرون حكومة تتحرك.. ترتب وتتولى أمر أسر ضحايا بتخصيص معاشا استثنائيا لهم.. ينتظرون حكومة توفر بنزين مشروع.. ينتظرون حكومة.. لم تأت، ولن تأت، ولكنهم ينتظرون مثل انتظارهم لعودة من ماتوا.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: