مُشرف مسعفي الجمهورية لـمصراوي: ''العمل أثناء فض رابعة كان مُرهقًا''
كتبت-دعاء الفولي:
الحرارة مرتفعة حد الاختناق، السيارة البرتقالية التي نام ''محمد عبد السلام'' أسفلها بدت كمثوى أخير، منكفئًا على الوجه يُغطي بذراعيه رأسه ظل لعشر دقائق، أقدام تُهرول، غاز خانق يتسرب، سائق السيارة ألقاه الرصاص على الأرض جانبها، يُبسمل ويحوقل وينتظر القضاء، استطاع المسعف الفرار بسيارته من جحيم ميدان رابعة العدوية وقت الفض حتى إشعار آخر، واضعًا سلامة رجاله أولًا، إليه عاد بعد ذلك ليواصل دوره، ابتداءًا من الثورة وحتى الآن لم يترك مشرف المسعفين حدثًا إلا وكان في الشارع، غير أن بعض الأيام أصعب من غيرها، مع ذلك يُصر عبد السلام على استكمال العمل، مهما كلفه الأمر.
38 عامًا عُمر المشرف، عاش منها ست سنوات في كنف هيئة الإسعاف، عندما بدأت الدولة تطويرها عام 2008 كان ضمن المتقدمين إلى الاختبارات والدورات التدريبية ''رغم إني خريج كلية تربية رياضية''، شغفه بالمهنة لم يكن كبير حينها، مع الوقت استحوذت عليه، خاصة بعد ثورة يناير، حيث انفرط عقد الأحداث الدموية بمصر، ماعدا الأحداث المصرية كان هناك حرب غزة 2008، عمله بالهيئة كان في الشهور الأولى عندما سافر مع الفريق الطبي للحدود ''شوفت الصواريخ بتنزل على البيوت.. كنت أول مرة أشوف مصابين بالعدد والإصابات دي''، التجربة علمته أشياء كثيرة عن التعامل في تلك الظروف، كما أن نزوله لأول مرة أيام الثورة جعله أكثر حنكة في التعاطي مع الجموع الغاضبة ''العربيات كانت بتتكسر.. كانوا بيتفكروا إننا داخلين الميدان نقبض عليهم''.
الأحداث على اختلافها غيّرت شيئًا في عبد السلام ''ساعة حرب غزة اترعبت من الصواريخ.. بس بقيت مبخفش بعد كدة''، تدرّج الرجل الثلاثيني في المناصب حتى أصبح المشرف على الإسعاف في أنحاء الجمهورية، حمل ثقيل اُلقي على كاهله، تنظيم تحرك السيارات وتواجدها بالمحافظات خاصة مع قلة أعدادها ''عشان نغطي الجمهورية محتاجين 3500 سيارة.. الموجود حاليًا ما يقارب ال3000''، لذا يكون التوزيع طبقًا لما تحتاجه كلٌ منها ''بالإضافة للنقاط السوداء اللي هي الأماكن المأهولة بالسكان على الطرق السريعة''، حيث تتوافر سيارات إسعاف على مسافات قريبة، رغم عبء التنظيم ففي حالة الأحداث الضخمة ''لازم أبقى في الشارع وسط الفريق وبنتواصل مع بعض''.
تعوّد عبد السلام بعد المرة الأولى له وسط الجثث أن يُلقي الحدث خلف ظهره بمجرد الخروج منه، تعامله مع فض ميدان رابعة العدوية لم يختلف، لكن الخوف كان أكثر وطأة هناك''فض رابعة كان الأصعب''.
السادسة صباحًا، إخبارية يستقبلها آل الهيئة بالتحرك تجاه ميدان النهضة ورابعة العدوية، ترتيبات أعدوها قبل التحرك، كنقاط تمركز السيارات وكيفية التحرك والمستشفيات التي ستستقبل الجرحى ''كنت موجود عند شارع النصر بالعربيات عند المنصة''، ما يقارب الـ150 سيارة توزعت على مداخل الاعتصام، بين طيبة مول إلى مبنى التأمين الصحي، قبل الفض وطوال أيام الاعتصام كان ما يعادل 10 سيارات إسعاف متواجدة قريبًا من محيطه، على حد قول عبد السلام.
مع توافد المصابين قرب السابعة صباحًا بدأوا التحرك للداخل لنقلهم، قنابل الغاز المسيل للدموع كانت كثيفة ''بس شيلنا ناس كتير جدًا''، بعد عدة ساعات أمسى ضرب الرصاص عشوائيًا ''بقيت بجري في كل الاتجاهات مش عارف الضرب جاي منين''، البعض لم يكن حظه وافرًا كعبد السلام الذي خرج من أسفل السيارة وعاد أدراجه خارج الاعتصام بمعجزة؛ فهناك ''إبراهيم''؛ المُسعف الذي جاءته رصاصة في الرأس بينما ينقل أحدهم على الترولي ''رصاصة دخلت وخرجت من الجهة الثانية.. نقلناه مستشفى ومات بعدها بيومين''، كان زيّه حينها هو الزي الرسمي للهيئة، القدر دفعه للذهاب للاعتصام ''ورديته كانت خلصانة وقال أنا هستنى معاكوا أساعدكوا''.
''عذاب''؛ كلمة يوّصف بها المسعف ذلك اليوم، زميلهم الذي سقط والرصاص والجثث، كلها أشياء عليه تجاوزها وقت العمل، بينما زوجته على الهاتف تطمئن على حياته بين الحين والآخر، إلا أن تكون الشبكات ضعيفة فيتعين عليها متابعة التلفاز، مشاهدات عديدة للمشرف حال فض الاعتصام ''انا قعدت فترة بنقل جثث فقط وأصنف إصاباتهم.. شايل ما يقارب ال800 جثة''، لم يجبر زملائه على الدخول ''فيه ناس قلبها ميت تقدر تدخل.. لكن كان فيه خايفين''، مع ذلك استمر تدفق السيارات ببطء عن ذي قبل، أما السيارة التي تحمل عبد السلام وبضعة سيارات أخرى ''اتحبسنا برة الاعتصام حوالي خمس ساعات بسبب حدة الضرب''.
سيدة تقود سيارة حمراء قديمة الطراز، نزلت منها قُرب مبنى التأمين الصحي في الصباح الباكر، معتقدة أن الوضع مستتب، تحمل بيدها حقيبة ''كان شكلها شنطة للخضار أو حاجة''، نصف ساعة حتى أحضرها أحدهم من مكان قريب من الاعتصام جثة هامدة، يومان ظل فيهم المسعف بين السيارات على حدود الاعتصام وداخله، لم يحدث فيها تواصل بين قوات الشرطة وسيارات الإسعاف ''كل واحد كان بيساعد بنفسه''.
''الجثث المحروقة كانت بشعة.. كنت بلمها من الأرض بنفسي''، ذلك أسوأ ما رأى في اليوم، أما شعوره عقب انتهاء ال48 ساعة من الدم ''كنت عايز أنام بس.. ومحدش يتكلم معايا''، يفصل المسعف الثلاثيني بين رأيه الشخصي والعمل، لايعنيه اتجاه المُصاب أو المقتول، كما تواجد بالفض، فعل بتفجيرات استهدفت المؤسسات الشرطية، كاد في بعضها أن يفقد حياته، كحال تفجير الاتحادية، حيث اُطلقت العبوة الأولى ''فتواجدنا في المكان بطبيعة شغلنا''، ثم اتبعتها الثانية بينما يقف هو على بعد ثلاثين مترًا منها ''لقيت وشي كله دم.. الضابط اللي جنبي دراعه طار وزميلي اتعور''؛ فظن أنه اُصيب.
''يوسف'' ابنه الأكبر ذو الثانية عشر يفتخر بعمل أبيه ''عايز يطلع مسعف.. بس بقوله كفاية واحد''، ''مروان'' و''مازن'' أخويه الأصغر يتفهما طبيعة المهنة التي تأخذه منهم ساعات طوال، أما الزوجة فتُشجعه، تحت ضغط الأحداث المتعاقبة لا ينوي ترك المهنة إلا أن يموت وهو يؤديها ''أنا دخلتها من الأول عشان بحبها وعارف إنها صعبة''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: