إعلان

هاني الجمل... ذكريات الثورة ومستقبلها

09:33 ص الثلاثاء 22 ديسمبر 2015

حوار – سامي مجدي:
عصر يوم 26 نوفمبر 2013 استقل هاني الجمل مترو الأنفاق من محطة المعادي متوجها إلى وسط البلد ليلحق بوقفة احتجاجية دعا إليها نشطاء حقوقيون وسياسيون اعتراضا على وضع مادة تجيز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في دستور ما بعد 30 يونيو.

وصل الجمل، القيادي في حزب الدستور متأخرا ''كالعادة'' عن الوقفة ولم يلحق منها سوى دقائق تعد على أصابع اليدين كانت كفيلة بأن تزج به في غياهب السجون طيلة أكثر من أحد عشر شهرا حتى جاءه عفو رئاسي في 23 سبتمبر الماضي ضمن 100 شاب وفتاة اخرين، تواكب مع عيد الأضحى المبارك وزيارة يقوم بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الولايات المتحدة.

هبط الجمل في محطة سعد زغلول القريبة من رصيف مقر مجلس الشورى الذي كان يضم أعضاء لجنة الخمسين الذين كانوا يضطلعون بكتابة دستور للبلاد من المفترض أن يؤسس لقيم ثورتين شهدتهما المحروسة في أقل من أربع سنوات، وكان الجدل الحقوقي والسياسي قد احتدم – ولا يزال - على مادة المحاكمة العسكرية للمدنيين. فساقته شهامته إلى قدره المحتوم.

البداية
لم تكن تلك الوقفة بداية التمرد على الواقع بالنسبة للمهندس الشاب الذي يحمل درجة الماجستير في هندسة الاتصالات، الحالم ككثيرين غيره من الشباب الذين نزلوا الشوارع حاملين أكفانهم في ايديهم حتى قبل ثورة يناير 2011، التي حررت البلد لبعض الوقت من استبداد جثم على صدرها طيلة عقود طويلة.

البداية، حسبما يقول في مقابلة مطولة جرت عل مرتين على مقهى في أحد أشهر شوارع ضاحية المعادي وتنشر في أجزاء ثلاث، ترجع إلى سنوات النشأة الأولى حين كان يعترض على ممارسات يراها تمييزية في حياته سواء في الشارع أو المدرسة، ذكر منها ما كان يجري من قبل مدرسيه في المرحلة الاعدادية حينما كانوا يجتمعون في وقت الفسحة ويحتلون الفناء ويجعلونه ملعبا يمارسون فيه كرة القدم مع بعض المحظوظين من الطلبة. كان هو من بين اخرين من زملائه يقفون على جانبي الفناء لا يجدون مساحة للاستمتاع بالفسحة التي ينتظرها الطلاب بفارغ الصبر خلال اليوم الدراسي. لكنه لم يصمت وكان يجادل وعافر من أجل حقه وحق آلاف مثله.

رافقه النضال والاحتجاج حتى وصل إلى الجامعة حيث درس هندسة الاتصالات التي تخصص وبرع فيها. يقول: كان أحد الأساتذة يتعسف ضدنا ويضع امتحانات من خارج المنهج المقرر علينا فنظمت احتجاجا سلميا ضده وجمعت توقيعات من زملائي حتى أجبرنا رئيس القسم على استبعاده وإعادته إلى قسم الرياضيات في الكلية الذي كان منتدبا منه.

التغيير النوعي
ومع بزوغ الحركة الاحتجاجية في بدايات الألفية الجديدة وتصاعد الاحتجاجات العمالية وصعود حركات مثل كفاية و6 أبريل في المشهد السياسي، وبدا أن حجرا ثقيلا ألقي في بحر السياسة الذي استنزفته سنوات الاستبداد والديكتاتورية، وصل ذروته بدعوة الإضراب الذي دعت إليه حركة شباب 6 أبريل في 2008، تلك الحركة التي استلهمت اسمها من إضراب دعا إليه عمال المحلة ذات التاريخ النضالي المشهود.

بدأ الجمل العمل مع رفاقه وفق الآليات التي كانت تتبعها الحركة وغيرها من التنظيمات السياسية الأخرى من أجل تغيير الواقع، حتى جاءت عملية ''التغير النوعي في رسالة التغيير في 2010''، بشكل تدريجي مع وصول الدكتور محمد البرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى مصر. وكان هو من بين توجهوا إلى مطار القاهرة لاستقبال البرادعي العائد ليقود لواء التغيير، الذي بدا انه آت لا محالة.

يقول الجمل ''بعد سنوات من العمل الاحتجاجي، بدأت عملية تحول في طريقة مواجهة النظام. فبعد أن كنا نشارك في الوقفات الاحتجاجية وتعتدي الشرطة علينا، وكان أقصى ما يفعله الناس هو التعاطف معنا: 'ليه يابني كده.. ربنا معاك... أنا خايف عليك '... فضلا عن أن مظهرنا والأمن يعتدي علينا جعل الاخرين يتخوفون من المشاركة''.

ويوضح أنه اكتشف بعد تفكير أن ''دورنا ليس التغيير بل أن نساعد الناس لترى طريق التغيير فتغير بنفسها، فهم أصحاب البلد مثلنا تماما، عملا بالآية الكريمة في القرآن 'فذكر انما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر'.

شكل ذلك فرقا في آليات الاحتجاج بين ما قبل 2010 وما بعدها، وبدا جليا في بيان الجمعة الوطنية للتغيير الشهير خلال ذلك العام الذي كان مليئا بالأحداث التي عجلت بسقوط نظام حسني مبارك الديكتاتوري بداية من عودة البرادعي وطرحه بديلا لمبارك الذي كان يروج نظامه أن معين البلاد نضب ولم يعد هناك من هو جدير بالرئاسة غيره أو وريثه المحتمل – وقتها – جمال.

يقول ''التغيير كان مفاده أن نرمي الكرة في ملعب المواطنين''. كان النشطاء ينزلون الشوارع ويطلبون من الناس التوقيع على بيان التغيير ووضع رقمهم القومي. كان الجمل يرى في ذلك نوعا من أنواع تحميل المسؤولية للمواطن وكانت المناقشات التي يديرها النشطاء مع المواطنين تسير في ذلك الاتجاه وكأننا نقول للمواطن ''إذا كنت شايف ان فيه مشكلة فوقع، لو مش شايف يبقى متشتكيش''.

حتى ذلك الحوار البسيط بدأ الجمل ومن معه يقللون منه ''بدأت اخبئ ورق بيان التغيير وأدير نقاشا حرا مع المواطن نفسه حول قضايا الوطن حتي لا يشعر بالخوف إذا بدأت معه بطلب التوقيع، ولو وجدت منه تجاوبا أطلب منه توزيع بيان التغيير على مواطنين اخرين.. بحيث لا يكتفي بالتوقيع فقط''.
كانت الفكرة ''أن يتحمل المجتمع المسؤولية ويتحرر من بعض حواجز الخوف''.

ويضيف الجمل إن '' كانت تلك وسيلة للتغلب على مركزية الدولة... كانت الاستراتيجية هي الانتشار بين الناس ونشر الوعي في أماكن متعددة وليس تركيزها في مكان واحد لأنك لو نظمت احتجاجا في مكان واحد سيأتي الأمن بأعداد تفوقك بكثير... وكان السبيل للمواجهة هو الانتشار واللامركزية''.

التنحي
نجحت الآليات، ونزلت الجماهير أمواجا هادرة في شرق مصر وغربها، وكان ميدان التحرير في قلب العاصمة بؤرة التحرك الثوري الذي قادته مجموعة من الشباب المؤمن بأن هذه البلاد تستحق ما هو أفضل، وكان نتاج ذلك أن أعلن مبارك تنحيه وتسليم السلطة للمجلس العسكري. وفي ظل الفرحة العارمة وقتها كان هناك من رفض مغادرة الميدان على اعتبار أن النظام نفسه لم يسقط وإنما رأسه فقط هو الذي تنحى، وفي نهاية المطاف غادر الجميع الميادين والشوارع وكلهم أمل في أن القادم أفضل.

رغم سعادته برحيل مبارك، إلا أن القلق كان يدب في قلبه. ''كنت من جوايا مش مستريح''، يقول هاني الجمل، لكنه كان يرى أن الشعب حقق ما لم يكن يحلم به برحيل مبارك و''كان ذلك شيئا عظيما وإنجازا... ليس لأن هذا هو الشيء السليم، لكن لان هذه هي طاقة الشعب في هذا الوقت ... ومن يدعو للتغيير لابد أن يعمل مع الشعب ولا يجوز له أن يسبقه''.

ويضيف بأسى ''كانت هناك طاقة إيجابية، لكن من بيدهم السلطة لم يستثمروها إما لأنهم لا يملكون النية أو لا يملكون الفهم لإدارة هذه الطاقة لصالح البلد...''.

اتضحت هذه المعارضة وعدم القدرة على الفعل فيما بعد عندما انتقل هاني الجمل، الذي أصبح استشاريا في مجال الإدارة، للعمل قرب دوائر السلطة التي جاءت من الميدان محمولة على أعناق الشباب.

انضم مع اخرين من الشباب وشكلوا مجموعة عمل استشارية احترافية للعمل مع رئيس الوزراء الأسبق عصام شرف وكان تصورهم أن المجموعة اختيرت لاحترافيتها ومهنيتها وخبراتها و''كانت الخطة وقتها أن نفتح المجال أمام اخرين بخبرات مختلفة ليقدموا ما لديهم حتى لا يكون الأمر مقتصرا علينا فقط''.

يقول الجمل إن المجموعة، وهي حوالي 15 شابا، عملت بكل جهد: قدمت مشروعات للجهات التنفيذية لم تنفذ منها شيئا، منها المشروع الذي قدمته الدكتورة زينب الديب، خبيرة علم الأجناس (الانثروبولوجي) لتنمية الريف المصري وتحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول القمح، وهو مشروع قديم أملت الديب في إحيائه بعد الثورة.

عرضت الديب المشروع على شرف، رئيس الحكومة في ذلك الوقت، غير أنه ''اعتذر لوجود ضغوط عليه تمنعه من تطبيق هذا المشروع'' ، والذي كان يهدف لتنمية 2 مليون فدان في الصحراء المصرية تنمية شاملة تعتمد علي زراعة القمح كنشاط اقتصادي رئيسي استطاعت من خلال الأبحاث والتجارب أن تصل بانتاجيته لـ 35 أردب في حين لا تتخطي الإنتاجية الحالية 15 أردب للفدان ، حسبما قالت الديب في حديث مع برنامج تلفزيوني في 2012.
ومع الاحباطات التي توالت على المجموعة والشباب عموما، وأسباب أخرى، حلت المجموعة نفسها بعد أن نظم ''بعض الشباب الاخر من كيانات أخرى مصطنعة مظاهرة وقالوا: اشمعنى الشباب دول جوه واحنا لا... فقدم لنا (عصام شرف) الشكر!''.

ويرجع الجمل ذلك إلى ''ضعف'' شخصية رئيس الوزراء القادم من الميدان، رغم أنه يقر بالاستفادة من الاقتراب من دوائر الحكم خلال تلك الفترة التي كانت حافلة بالأحداث الجسام التي أثرت بشدة في مسار الثورة وما آل إليه حال الثوار والشعب معا.

في حديثه عن تلك التجربة قصيرة العمر مع الحكومة ومن بعدها تأسيس مؤسسة الدكتورة زينب الديب لإعادة بناء القرية المصرية وتجارب أخرى كثيرة لشباب أرادوا العمل على تنمية المجتمع والفرد، و''حاصرتهم الدولة''، أشار الجمل إلى أن هناك شبابا مستعدون للتضحية بالكثير في سبيل تقدم البلاد حتى تواكب العصر الذي نعيشه.

ويرى في ذلك الجهد الذي لم يلق عليه الضوء من الإعلام ردا على من يدعون أن ''الثوار يتحدثون فقط.. ولا يعملون''، ويؤكد أن السلطة منذ الثورة حتى الآن تعارض أي مبادرة للتنفيذ، وترى أن أي طاقة غير مرغوب فيها، وتعمل على تفريغ المساحة العامة حولها من أي طاقة''.

تجربة الانتخابات
استفاد هاني الجمل من تجربة خوض أول انتخابات برلمانية بعد ثورة 25 يناير على المستوى السياسي كثيرا. وكان الحوار متزامنا مع أول انتخابات برلمانية بعد ثورة 30 يونيو التي شهدت عزوفا كبيرا من قبل الناخبين أرجعه مراقبون إلى حالة ''إماتة السياسة وإغلاق المجال العام'' أمام المعارضين، والقوانين المنظمة للعملية الانتخابية التي صدرت بدون حوار مجتمعي.

ورأى الجمل أن ضعف الإقبال على التصويب يعود إلى وعي المواطن المصري الذي هاله ما يجري على الساحة السياسية التي تتصدرها وجوه أغلبها محسوب على نظام مبارك الذي أسقطه الشعب وأنهم ''يحتقرون الناس''، واتهامات ''الانتماء إلى الإخوان'' و''الخيانة'' التي توجه إلى كل من يرفع صوتا معارضا للخط الذي يسير عليه النظام الحاكم الآن.

يقول الجمل ''الناس وعيها نضج جدا... والناس لم تنزل لأنها مش عبيطة''. ويوضح أن تجربة خوضه الانتخابات السابقة، جعلته يرى أن ''الناس مش وحشة ولا غبية''، وأن المواطن يبحث ويحتاج إلى أن يجد من يعتبره جيدا يحقق مصلحة المواطن دون أن يتخلى عن المبادئ خاصة تلك التي رفعها في ثورة يناير وذلك ليس به أي تعارض.. ويقول ''نحن حقا بحاجة إلى خطاب يصالح ما بين المبادئ والمصالح''.

ولم تتخط نسبة المشاركة في انتخابات 2015 حاجز ال30 في المائة من جملة من لهم حق التصويت. كما أن ''المال السياسي'' طغى على عملية الاقتراع، بحسب منظمات حقوقية راقبت الانتخابات في مرحلتيها.

ويستخلص الجمل أن الخطاب الطاغي في تلك الانتخابات هو ''خطاب لقمة العيش والاستقرار''، والذي يستبعد خطاب مبادئ الثورة – خطاب الحقوق والحرية والكرامة – ويرى أن ''الثوار لم يستطيعوا بلورة خطاب يحقق الأمرين معا، فقط ركزوا على الخطاب الحقوقي.. هم الآن بحاجة إلى خطاب يدعو إلى تأسيس دولة القانون، حيث مساءلة الكبير قبل الصغير. وهذه الدولة هي التي ستحقق ما نريده، وهي التي ستؤدي إلى تقدم مصر''.

خياران كلاهما مر
ورغم مساندته لأبي الفتوح في الانتخابات الرئاسية إلا أنه لم يكن ليحزن ''لو أن حمدين صباحي هو الذي فاز''. وكان هدفه الرئيس عدم انتخاب الفريق أحمد شفيق، الذي كان يوصف برجل نظام مبارك وأن نجاحه كان يعني العودة إلى ما قبل 25 يناير مرة أخرى، ونفس الأمر إلا قليلا للمرشح الاخر عمرو موسى، فقد كان الأمين العام السابق للجامعة العربية في نظره ''شخصية تقليدية محافظة من القيادات القديمة للدولة... لكن اتضح أن الدولة نفسها لم تكن تريده لأنها رأت فيه قدرا ولو بسيطا من الاستقلالية التي من الممكن أن تشكل خطرا عليها''.

وصل الحال بالثورة جراء انقسام الحالة الثورية إلى أن خُير الناخب المصري في جولة الإعادة بين شفيق، ومحمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان المسلمين ''التي تواطأت ضد الثورة في أحداث كثيرة بعد الثورة مثل محمد محمود ومجلس الوزراء''. ويرى الجمل أن ذلك ''كان الخيار الأسوأ الذي لم يتوقعه أحد''، لكنه ابتعد – ككثيرين - عن شفيق ومنح صوته لمرشح الجماعة لأن الرهان كان ''الإخوان سوف ينحازون للشعب حتى يستمدون منه القوة في مواجهة النظام القديم، وأنهم لو حاولوا أن يتسلطوا فلن يستطيعوا لأنهم لا يملكون شيئا لا إعلام ولا غيره''، وهو ما جرى وأثبتته الأيام اللاحقة.

لم يدم الإخوان في السلطة سوى عاما واحدا، تخللته احتجاجات واسعة من أطياف مختلفة من الشعب المصري الذي رأى أن الجماعة لا تسير في طريق تحقيق ما ثار من أجله ضد مبارك ونظامه. ورغم أن الجماعة كانت أمامها فرصة دخول التاريخ من أوسع أبوابه لو أنها انحازت لمطالب الشعب ولم تعل عليه الجماعة.

كان للجمل تحفظه على الاحتجاجات شبه اليومية ضد الإخوان حيث رأى في ذلك ''نوعا من أنواع التجارة بالدم''، وكانت وجهة نظره أن تكون ''الأولوية لبناء كيان سياسي يعمل الشباب من خلاله، وأن تستغل المساحات والفضاءات التي فشل الإخوان في إغلاقها حتى يكون هناك بديل سياسي قادر على تحمل مسؤولية قيادة الدولة بدلا من الجيش أو الإخوان''.

ويقول ''كنت أرى أن هناك طاقات كثيرة اهدرت في العمل الاحتجاجي''. ووجه سهام النقد اللاذع لحزب الدستور الذي ينتمي إليه، وقال إنه ''تحول إلى حركة احتجاجية في الشارع''، بدلا من أن يكون كيانا سياسيا جامعا خاصة بعد الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي أواخر 2012، حيث أنصب التركيز على الاحتجاجات دون النظر إلى المهام الأخرى التي يجب أن يقوم بها أي حزب سياسي.

وأرجع ذلك إلى أن ''القيادات الكبيرة ''العاقلة'' بدلا من أن توجه الشباب قامت بعكس ذلك''.

شارك هاني الجمل كرفاقه في حزب الدستور في ثورة 30 يونيو، كعادته في قلب المظاهرات، لكنه كان من الزمرة التي كان هتافها مغايرا بعض الشيء للسائد وقتها وهو ''يسقط كل من خان... عسكر فلول إخوان''. ويرى أن ثورة 25 يناير كانت السبب الرئيس في احتشاد الناس بهذا الشكل في 30 يونيو؛ حيث أشعرت 25 يناير المواطن العادي ''الذي كان يسألنا عما إذا كنا سننزل في 30 يونيو ويدعونا للنزول''، بأن البلد باتت ملكه.

مضت البلاد في سبيلها كطبائع كافة الأمور، ومضت معها ما وصفه مراقبون ب''سياسة شد الحبل'' التي اتبعتها جماعة الإخوان المسلمين ومن ساروا في ركبها، والنظام ومن ساروا في ركبه وقد كانوا كثر، وتوالت الاشتباكات وكثر سقوط القتلى من الجانبين، ونشطت الجماعات المسلحة في الجزء الشمالي من شبه جزيرة سيناء مستغلة حالة الفوضى الأمنية والفراغ الذي خلفه نظام مبارك في منطقة رويت بدماء المصريين على مر العصور.

البرادعي والأمل الذي تبدد
كما مضى هاني الجمل وبعض رفاقه الذين اعتقدوا بوجود طريق ثالث يجنب البلاد ويلات العنف والعنف المضاد، في محاولات التواصل مع ''ملهمهم'' البرادعي الذي كان آنذاك نائبا لرئيس الجمهورية المؤقت المستشار عدلي منصور. وعارض بشدة الطريقة التي فضت بها السلطات اعتصام الإخوان المسلمين في رابعة العدوية بالقاهرة وميدان النهضة بالجيزة.

كان لديه واخرون قناعة بأن هناك خيارا اخر يتمثل باختصار في ''أن يتم تضييق الخناق على المعتصمين بشكل تدريجي''، على ما يقول. لكن الأمور سارت إلى ما سارت إليه.

ويوضح أن ''رهاننا كان على البرادعي في إقناع النظام الذي اتى بعد 30 يونيو أن يقوم بما هو صحيح.... بناء دولة قانون تحقق العدالة الانتقالية والالتزام بميثاق شرف إعلامي وما إلى ذلك من أمور. وفوق ذلك كله التأكيد على أن 30 يونيو هي امتداد لثورة 25 يناير وأن ممارسات ما قبل 25 يناير لن تعود مرة أخرى''.

''كان أملي وامل اخرين أن يقوم البرادعي بذلك الأمر من خلال منصبه نائبا للرئيس... وأن يظهر للناس أن هناك بديلا اخر عن الدم وصراع البقاء بن طرفين.... بديلا عن المعادلة الصفرية''.

حاول الجمل ورفاقه الالتقاء بالبرادعي ليتحدثوا معه عن تصوراتهم وأفكارهم واقتراحاتهم للخروج من الأزمة التي كانت تعصف بالبلاد في ذلك الحين، وبعثوا له برسائل عبر البريد الإلكتروني وعن طريق مساعديه وكان الرد أنه متفق مع ما يقولوه لكن ''أنا مش فاضي دلوقت''. وفي مكالمة تليفونية مقتضبة كان الرد تحديدا '' أنا بس مشغول اليومين دول، لكن هاقعد معاكم وهقعد مع كل الشباب... وإن شاء الله قريب جدا''.

بيد أن الأمور سارت عكس ذلك، واستقال البرادعي بعد عملية الفض الدموية التي يتحمل فيها طرفا النزاع المسؤولية عن الدماء التي سالت. ''كنت أرى أن استقالته متوافقة أخلاقيا ما يقوله... وكان محقا في ذلك''.

لكن الوضع اختلف على المستوى السياسي، فالجمل المتوافق مع استقالة البرادعي ''أخلاقيا''، يرى أنه ''فشل إداريا. فشل أن يظهر البديل الاخر خلال فترة وجوده في السلطة. أخلاقيا كنت مع استقالته. ففي تلك اللحظة لم يكن صوت يعلو فوق صوت المعركة.... وفي ذلك الوقت لم يكن يستطيع أن يقول شيئا مخالفا للنهج العام للنظام، وهذا ما أظهرته الأيام، فأي شخص يقول شيئا مخالفا يصبح ''طابورا خامسا وعميلا.... حتى أن بعض من فضلوا الاستمرار في الحكومة مثل الدكتور زياد بهاء الدين اتهموا بأنهم إخوان وأنهم يعطلون مشروع الحكومة، وغير ذلك من اتهامات''.

ويرى أن البرادعي كان ينظر إلى سعي الشباب إلي الالتقاء به بنظرة فيها شيء من الاستهانة، ''ولم يكن يقدر أننا نحاول أن ننقذ البلد... كنا نرى أن القادم أسوأ. وكان البرادعي يستطيع أن يخرج بشيء مختلف عن هذا وذاك'' وكنا نستطيع مساعدته، يقول الجمل.

ويرى أيضا أن مشكلة البرادعي تكمن في أنه يعمل ''من فوق''؛ ويوضح أنه سياسي يعمل على مستوى الدول والحكومات لكنه ''لا يستطيع النزول إلى الأماكن الشعبية – نخبوي إلى حد ما''.

ويقول ومسحة حسرة في صوته، وكأنه يوجه خطاب لوم إلى البرادعي شخصيا، ''كنت تستطيع بخطاب محايد أن تكسب الكثير من هؤلاء الناس في رابعة والمتعاطفين معهم في صفك وتجعلهم ينفضون من حول الإخوان، لكنك فشلت''.

الاعتقال والسجن
مرة أخرى سارت عجلة الزمن، وواصل النظام المضي في طريقه الذي يؤيده فيه أغلبية معتبرة من الشعب، وباتت الساحة لا تحتمل من ينطق بكلمة غير تلك التي يريدها النظام، فالإعلام تحول إلى ''صوت واحد'' والسياسة أميتت مرة أخرى، بزعم الحرب على الإرهاب الذي لن تقتلع جذوره بالحل الأمني وحده، ولن تقتلع إلا بتحقيق العدل وسيادة دولة القانون، على ما يقول مراقبون مستقلون.

كان الجمل برفقة زمرة من الشباب والباحثين عن طريق اخر غير الذي اختاره الإخوان ومشايعوهم وغير ذلك الذي يمضي فيه النظام، يدعون لما يعتقدون أنه ''الأمثل'' لبلد ثار شبابه ضد الظلم والطغيان منشدين العيش الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

وفي تلك الأثناء، بدأت لجنة صياغة دستور 2014، عملها. وكان الكثير من المواد محل جدال وتجاذب، على رأسها تلك المادة التي تجيز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية (المادة 204). وذات يوم دعا ناشطون إلى وقفة احتجاجية أمام مجلس الشورى الذي كان يحتضن مناقشات لجنة الخمسين اعتراضا على تلك المادة.

انضم الجمل إلى تلك الوقفة متأخرا. لكنه كان من ضمن من اعتقلوا وزج بهم في غياهب السجون. قبض عليه ثم أخلي سبيله بعدها بتسعة أيام. ثم قبض عليه مجددا وتحفظ عليه القاض في إحدى جلسات المحاكمة بعدها بعام تقريبا.

''كنا على ما يبدو كبش فداء للسلطة التي كانت مجروحة اثر تفجيرات إرهابية في سيناء'' يقول الجمل، مضيفا أن نفرا من الإعلاميين ''السيئين'' شنوا ''حملة تحريض'' ضدنا، وبعدها بيومين فقط حددت لهم جلسة محاكمة. ذهبوا رغم أن استدعاءً لم يصلهم كما هو متبع. تحفظ القاضي على ''المتهمين'' وأحيلوا إلى سجن في القاهرة، وكان الوضع مختلفا كليا عن الوضع في فترة الحبس الأولى.

ويستذكر هاني الجمل ما جرى معه ورفاقه ممن طالتهم قبضة الشرطة في ذلك اليوم المحفور في ذاكرته بكل تفاصيله. وكما يعامل كافة المساجين أُمروا بنزع ملابسهم، وارتداء ''البدلة البيضاء'' المخصصة للسجناء، وحلقت رؤوسهم. ولم تعد إليهم الملابس مرة أخرى.

في العنابر، وكانوا قد دخلوها حفاة. وزعوا على عنابر أربعة مكون منها السجن إضافة إلى عنبر اخر مخصص لسجناء جماعة الإخوان المسلمين والإسلاميين الاخرين (عنبر رقم 3). ''كنا كل خمسة أو ستة في عنبر. ووزعنا كل واحد على غرفة بقصد التنكيل بنا. علاء عبد الفتاح (وقد كان أشهرهم) وضع في سجن الزراعة بعيدا عنا. أتصور لشهرة علاء وخوفهم من مسائلتهم دوليا إذا تعرض علاء لأي أذى من نوعية المساجين الجنائيين التي كانت معنا وربما لتخوفهم من مجرد وجود علاء معنا''.

كان الخوف يتملك هاني ومن معه ولا يفهمون شيئا. ''فهذه المرة كانت مختلفة عن الحبس في المرة الأولى، حيث كنا حوالي 25 شخصا في مكان يسع أكثر من 50. وهناك أربع دورات مياه. والمعاملة كانت مختلفة تماما''.

أما في المرة الثانية، فالوضع كان مختلفا. ويدلل على ذلك بوصف الغرفة التي كانت مكتظة بالسجناء ''الغرفة كانت ثمانية أمتار في ثلاثة أمتار. بها حمام في أحد أركانها وأمامه مساحة صغيرة تستخدم كمطبخ. هناك حنفية صغيرة في الحمام تستخدم في الغسيل والطبخ وخلافه. وهناك أيضا سخان حراري لعمل الأكل وخلافه أيضا''.

بقية المساحة للمساجين. ''لديك فرشة صغيرة عبارة عن عدة بطاطين تنام عليها. طول الفرشة متر ونصف المتر وعرضها نصف متر ... لا تستطيع مد قدمك وأنت نائم حيث ينام أحدهم بمواجهتك .... ليس هناك أي نوع من أنواع الخصوصية. الوضع بشع بشع بشع''، قالها الجمل وكرر الأخيرة ثلاث مرات.

كان هان الجمل يتحدث وفي مخيلته هؤلاء الذين تركهم وراءه في السجن. يتخيل أوضاعهم ومعاناتهم وكيف يمر عليهم الزمن.

''لدي إحساس رهيب بالذنب تجاه من تركتهم داخل السجن. فالوضع غير انساني بالمرة، الحبس الاحتياطي الذي يستمر لعدة سنوات.. أوضاع المساجين كافة المساجين. بعضهم لا يرون قاضيهم لأكثر من عام. مرات لانشغال الشرطة بتأمين محاكمات أخرى مثل محاكمة مرسي. ومرات لأسباب أخرى!''.

وكما الحياة خارج الأسوار، تتباين المعاملة أيضا خلفها؛ ويتوقف ذلك على ''من أنت؟ ومن تتبع؟ إذا كنت مسنودا فالمعاملة تختلف أما 'اللي ملوش ظهر بيضرب على بطنه '، كما يقول المثل الشعبي والأمثلة ما أكثرها''. وهذا ينطبق على السجين الجنائي، وهم أغلب من وراء القضبان.

لم يكن الوقت يمر على الجمل ورفاقه خاصة في الشهر الأول من السجن. كانت ''حاجة قاتلة''. وما هون من ذلك تلاحق الجلسات وخروجهم ورؤية بعضهم وأصدقاءهم وعائلاتهم. يضاف إلى ذلك قراءة ما طالته أيديهم ''كنا نحاول أن ندخل كتبا. كنت أقرأ بمعدلات كبيرة للغاية. الكتاب بخلصه في يوم أو يومين على الأكثر''.

وبنظرة فلسفية بعض الشيء، يقول الجمل إنهم في السجن كانوا يفكرون في أن ''الحبس نفسه أمر غير إنساني. وقد تكون العقوبة الجسدية من جلد وقطع يد وخلافه والتي يتعامل معها العالم على أنها من القرون الوسطى، أخف وطأة من حبس الحرية وزي ما كان أحد المساجين من البدو بيقول 'مفيش حاجة بتتحبس غير الفراخ'''، بحسب تعبيره.

ويرى الجمل أن ''هؤلاء ليسوا مجرمون بقدر ما دفعتهم الظروف إلى الاتيان بما قاموا به من سرقات ومخدرات وخلافه. فالجهل والفقر عنصران رئيسيان في تفشي الأمراض الاجتماعية التي تنتج منها الجرائم. وهم بحكم غياب الحكومة أو فسادها يحلون مشاكلهم بأنفسهم. وهذا فضلا عن عدم معرفتهم بحقوقهم. وبنظرة أوسع قليلا، أرى أن هؤلاء نتاج الدولة الأمنية التي نعيش فيها التي تلجأ للحلول الأمنية في حل أي مشكلة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية... إلخ''.

وفي المدة التي قضاها الجمل خلف الأسوار، اكتشف إلى أي مدى فشلت القوى الثورية والمدنية عموما، في إيصال صوت الثورة إلى المناطق الشعبية والوصول إلى المهمشين، الذين قامت الثورة في الأساس من أجلهم. يقول ''اكتشفت أن هناك ناس كثيرة لا تعرف شيئا عن الثورة. سألونا: 'كنتوا فين؟! لماذا لم تأتوا وتتحدثوا إلينا؟!' هؤلاء هم الظهير الشعبي ونحن فشلنا في الوصول إليهم. التيار المدني والثوري فشل تماما في هذه النقطة. كان السجن فرصة جيدة لفهم هؤلاء الناس والتواصل معهم''.

وطالب الجمل بتحسين أوضاع المساجين أي مساجين، وألا تكون هنا تفرقة فيما بينهم. ويقول ''لا يصح أن تعامل المشتبه به أو المتهم أو المدان بهذه الطريقة. لابد من توفير الظروف الطبيعة الإنسانية للمحاكمة العادلة أولا. وإذا أدين ينفذ الحكم الذي حكم به القاضي. لا أن يحبس الإنسان احتياطيا لمدة لا تنتهي. وأن يبقى الإنسان في السجن حسب مزاج الشرطة.. هؤلاء لهم حقوق''.

وقال هاني الجمل ''عندما أتذكر فترة السجن تصعب عليّ نفسي جدا ويصعب عليّ أهلي... كان الوضع مرارا''.

فيديو قد يعجبك:

لا توجد نتائج

إعلان

إعلان