تَدْمر.. حين طغى الأسْرُ على الأثَر
كتب - عبدالله قدري:
دماء وطين، ومحاكاة لألوان من التعذيب، حلت مكان المعابد والقلاع الأثرية بمدينة تدمر السياحية، لتعرض في فيلم وثائقي يحمل نفس اسم المدينة، بمهرجان سويسرا للأفلام الوثائقية 21 أبريل الجاري، ولكن بنكهة مختلفة.
تدمر، ليست مدنية سورية فحسب، بل هي مملكة ذاع صيتها حتى ووصلت حدودها في عهد الملكة زنوبيا، إلى مصر جنوبًا، أهميتها التاريخية تنبع من كونها امتداد حدودي لمصر قبل أن تكون مدنية سورية على وجه الخصوص.
عروس الصحراء أو المدينة الحرة كما لقّبها الإمبراطور الروماني هادريان، وأحد أقدم المناطق الأثرية في العالم، والمدرجة على قائمة تراث اليونسكو، باتت سمعتها التاريخية على مستوى المحافل الدولية مقترنة باسم واحد من السجون العسكرية صنفته منظمة العفو الدولية بأنه أحد "أكثر السجون قمعية في العالم".
سجن تدمر، حين طغى الأسْرُ على الأثَر، وتَلخَص تاريخ وآثار تلك المدينة العريقة في بضع شهادات وكتب وأفلام وثائقية، أعدها سجناء سابقين كانوا محتجزين فيه، ليكتبوا شهاداتهم على حقبة زمنية من عمر هذا السجن بدأت منذ افتتاحه من قِبل نظام حزب البعث السوري في عام 1966، وحتى سقوطه في قبضة تنظيم داعش عام 2015 الماضي.
بسجنها..لا بآثارها
"تُعرف تدمر بسجنها لا بآثارها" يقول منهل اليماني (26 عامًا) وهو ناشط سوري في حقوق الإنسان، فرغم قرب تدمر لمسقط رأسه مدنية حمص، إلا أنه كان دائم الخوف من الذهاب إليها، وفقًا لحديثه لمصراوي.
اسم المدينة لم يرتبط عند الناشط السوري، بالآثار وزنوبيا ومملكتها العظيمة، وعدم انصياعها لروما، "كل تلك الآثار والأعمدة التي ظلت شامخة كشموخ المدينة لم يكن يعني لي بالشيء الكثير، فاسم تدمر مجرد أن يقال يتبادر لذهن كل سوري ذلك السجن الرهيب الذي جمع آلاف المعتقلين السياسيين والعسكريين وآلاف المغيبين مجهولي المصير".
ويزيد من مخاوف اليماني تجاه هذا السجن، ما قام به موقع "criminal justice degree hub"-المتخصص في مجال العدالة الجنائية- بتصنيف سجن تدمر بأنه ثاني أكبر السجون وحشية على مستوى العالم بعد سجن "Carandiru " في البرازيل.
هنا جنود الأسد
مشاهد من السجن شاهدها مصراوي من خلال مقاطع فيديو نشرت على شبكة الإنترنت بعد سيطرة تنظيم داعش على مدنية تدمر، بمجرد دخولك من البوابة الرئيسية للسجن تجدك أمام لافتة حمراء تعتلي بوابته، مكتوب عليها "الشرطة العسكرية.. جنود الأسد"، ليقودك مقطع الفيديو إلى جولة داخل السجن.
السجن عبارة عن مساحة كبيرة بها فضاء واسع، يتوسط الصحراء، وتحيط به الأسلاك الشائكة من كل مكان، تتخلل جدرانه بوابات حديدية سوداء، تتسع لسجين واحد، تم ترقيمها؛ لينادى على السجين بالرقم لا بالاسم، وفق ما يقوله علي أبو الدهن معتقل لبناني سابق في سجن تدمر في كتاب أصدره حديثًا عن الفترة التي قضاها في السجن بعنوان "عائد من جهنم".
13 عامًا قضاها أبو الدهن في سجن تدمر، بدأت في عام 1987 وانتهت عام 2000 بعفو أصدره الرئيس الجديد -آنذاك- بشار الأسد، كانت ليلة ليلاء في أواخر شهر ديسمبر من عام 1987 حين دعُي أبو الدهن- أثناء زيارة لسوريا- إلى مكتب المخابرات السورية للتحقيق معه بتهمة انتمائه إلى حزب القوات اللبنانية والعمل لصالحه، خرج ولم يعد.
كل مؤلم مباح
"نحن نحييكم ونحن نميتكم" بهذه الجملة يستقبل عناصر الشرطة العسكرية الوافدين الجدد إلى السجن، وتنطق الجدران بتحية السجن " الداخل مفقود والخارج مولود"، وفق شهادة علي أبو الدهن على سجن تدمر في كتابه "عائد من جهنم". يضيف :"كل مؤلم مباح"
يسرد أبو الدهن بعضًا من تلك الممارسات التي يتعرض لها السجناء، وهي الصعق بالكهرباء في أماكن حساسة بالجسد، وخلع الأظافر والأضراس، وتبول جنود الأسد في الطعام المقدم للسجناء، وكيف كان يتذوق المعتقلون هذا الطعام.
لاحظ سجناء المدينة الحرة، تغير نكهة الطعام المقدم إليهم، فغلب على ظنهم أنه أضيف إليه نوعًا من البهارات الهندي، فأضفى على الطعام مذاقًا آخر، وأصبح السجناء ينظرون لبراز الجندي أنه نوعًا من النكهات الهندية، يقول أبو الدهن "ضحكتُ وبكيتُ".
ضحك، لأنه لم يتخيل أن ينظر السجناء للطعام المخلوط بفضلات الإنسان، على أنه نكهة جديد، وبكى لكونه لم يستطع أن يخبرهم عن سبب هذا المذاق الجديد، حتى لا يتعرض لما لا يحمد عقباه.
يواصل أبو الدهن سرده لـ "وسائل التعذيب السادية" على يد عناصر الشرطة العسكرية داخل السجن، فيتذكر ليلة من ليالي تدمر، حين أمر أحد عناصر الأمن بإحضار ثلاثة سجناء، ودعاهم إلى الانبطاح أرضًا وهم عراة الصدور، وأجبر أحدهم على جلد الآخرين بخرطوم مياه قائلًا:" يلا ولاه! اضرب كل واحد 15 جلدة! بدي أشوف الدم وإلا يجي دورك".
قادت تلك الممارسات في حق أبو الدهن وغيره إلى إصدار كتب توثق ما حدث لهم في تدمر، فأقدم السجين اللبناني السابق، على تأسيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في سجن تدمر، وسعى من خلالها إلى نشر كتابه" عائد من جهنم"، وافتتاح العرض الأول للفيلم الوثائقي "تدمر" في مهرجان سويسرا للأفلام الوثائقية.
يجسّد الفيلم حياة السجناء في سجن تدمر، تلك الحياة التي جعلت الناشط السوري في حقوق الإنسان، منهل اليماني، لم يعد بمقدوره أن يتخيل ذهاب أحد أصدقائه لزيارة آثار تدمر، فهو يعرف أن زيارة شخص ما للمدينة لن تكون إلا لزيارة أخ أو قريب اعتقله نظام الاسد آنذاك.
وبالرغم من الوضع الحالي الذي تمر به المدينة، من استعادة الجيش السوري لتدمر من قبضة تنظيم داعش، إلا أن مثل اليماني وأبو الدهن، لا يزالون على أمل شفاء صدورهم من تلك الممارسات التي حدثت في سجن تدمر، في ظل مفاوضات جنيف التي تقام الآن، بين نظام الأسد والمعارضة السورية بوساطة دولية.
فيديو قد يعجبك: