مصراوي داخل مصانع (ألواح الذهب).. عمال الغِرا يصرخون: "الروبيكي" هتخرب بيوتنا
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
-
عرض 15 صورة
معايشة - علياء رفعت:
ما إن تعبر فتحات سور مجرى العيون إلى الناحية الأخرى منه، حتى تجد حياة مختلفة تمامًا عن تلك التي يعيشها سكان القاهرة خارج حدوده؛ أكشاك صغيرة تتراص إلى جوار بعضها البعض فيما ينادي البائعين بأعلى أصواتهم على أسعار الحبال، الخطاطيف والسكاكين. تمر بناصية أو اثنتين فتستقبلك حينها روائح الجلود وروث الحيوانات، بينما تميز عينيك قبل أذنك صِبية صغار تعلو أصواتهم وهم يلهون مع الخِراف والماشية أمام بيوتٍ تتكون من طابق أو اثنين على الأكثر وتقع في الدور الأرضي لمعظمها ورش للحِدادة.
المرور بطرق مُتعرجة، وحواري ضيقة أرضها مُغطاه ببواقي الجلود المُصنعة يقودك إلى "المدابغ"، والتي تجاورها على بُعد كيلو مترات قليلة "مصانع الغِراء"، فلا يفصلها عن بعضها البعض سوى ساحة كبيرة مليئة بأكوام القمامة، الصفائح الفارغة، والجير الأبيض الذي يتناثر هُنا وهناك.
"مصراوي" اخترق عالم صناعة الغِراء في المدابغ، عايش أصحاب مصانعه، والعاملين بها، اطلع على الأسرار الخاصة بصَنعة (ألواح الذهب) كما يلقبها أصحابها، رصد مُعانتهم، مخاوفهم، أمانيهم، ورغباتهم في حياة أفضل لأبنائهم اللذين لا يريدونهم أن يرثوا ذات المهنة، رغم أنهم توارثوها من أباءهم، وأجدادهم جيلًا بعد جيل.
في الطريق المؤدي لأحد أكبر مصانع الغِراء بالمدابغ "مصنع عيسى"؛ التقينا وائل أبو العِز، رئيس العُمال، والذي ما إن علِم بتوجهنا للمصنع حتى تهللت أساريره واصطحبنا وهو يردد "اسم الريس عيسى ده ماركة، وألواح الغِرا بتاعته بتطلب بالإسم". أمام المصنع توقف وائل ليُلقي التحية الصباحية على العُمال اللذين يُجمَعون "الجير الأبيض" و"السِلاتة" في قُفف استعدادًا لنقلها للمصنع لبدء العمل.
داخل المصنع، شرح لنا وائل ماهية "السِلاتة" والتي تُعد المادة الرئيسية في صناعة الغِراء، وهي عبارة عن طبقة رقيقة فاصلة تقع بين جلود الماشية ولحومها، ويتم استخلاصها في المدابغ -عن طريق نقع الجلود بالجير ومواد كاوية كالأجزا لتطهيرها من الجراثيم والبكتيريا، ثم شطف الجلود لتمر على ماكينة "المقلوبة" فتفصل "السلاتة" عن الجلود- استعدادا للدبغ، ثم تبتاعها مصانع الغِراء لاستخدامها في عملية التصنيع.
"الانجليز هما أصحاب صَنعة الغِرا الأصليين، دخّلوها مصر في عهد الملك، ومن يوميها واحنا بنورثها من جيل للتاني"، قالها وائل الأربعيني وهو يقودنا عبر مدخل المصنع نحو حوض مليء بالجير، المياه الباردة والسِلاتة، فيما يقف "أحمد علي" العشريني وهو يقلب ما يحويه الحوض ليدمج مكونات الخليط جيدًا. يشير وائل نحوه وهو يردد: تلك هي أول مراحل صناعة الغِراء، ليقاطعه الشاب العشريني بلهجة صعيدية ووجه ضحوك "خليهم يصوروني عشان أبويا يعرف إني شقيان مش بتدلع!".
سُلَم ٌ ضيق صغير يفصل ذلك الحوض عن ماكينة "الفرفرة" التي ينقل إليها العمال الخليط السابق تحضيره في الأحواض لكي يتم إزلة المواد الكيماوية عن السِلاتة من خلال شطفها بالمياه، لينقلونها بعدها مرة أخرى إلى "الغلايات"، وهي عبارة عن براميل كبيرة توقد تحتها النيران، لتنصهر داخلها السِلاتة المياة الساخنة لمدة ثماني ساعات تتحول بعدها إلى سائل لزج تقوم المواتير بسحبه من الغلايات وضخه في آذاناتٍ كبيرة، ومنها إلى عُلب يقوم العُمال برصها في غرفة التبريد حيث يتركونه لمدة 12 ساعة حتى يتماسك تمامًا.
"أنا معايا دبلوم خدمة اجتماعية، ولو كنت عرفت الاقي وظيفة واتوظف مكنتش اشتغلت في الغِرا، رغم انها شغلانة كل رجالة عيلتنا"، قالها وائل في الطريق إلى الدور الثالث والأخير من المصنع وهو يتذكر ثلاثة عقود ونيف قضاها عاملًا بصناعة الغِراء منذ كان في السابعة من عمره، حيث كان يأتي للقاهرة بصحبة والده في الأجازات الصيفية ليساعده في العمل، حتى تعلم الصَنّعة واتقنها تمامًا وعمل بها بعد انهاء دراسته لعدم عثوره على الوظيفة التي كان يتمناها.
فوق سطح المصنع، استقبلنا سبعة عُمال يعملون بهمة ونشاط لإنهاء مراحل تصنيع الغِراء الأخيرة. بوجهٍ ميزته تجاعيد حفرتها سنوات الشقاء شرح لنا الحاج محمد الخمسيني -عامل- استعدادت آخر هذة المراحل "بنفضي عِلب الغِرا في أحواض مية باردة بعد ما نخرجه من التلاجة، بيكون اتجمد واتشكل على هيئة مكعبات بنسحبها على المكنة ونقطعها لشرايح، وبعدين نرصها ع السلك عشان تنشف، بتاخد حوالي 3 أيام، وبعدها بتنزل ع المخرن لحد ما تتشحن عشان تتباع"، ليُقاطعه محمود عامل النقل مازِحًا "كده يا حاج محمد تنسى دوري، هي ألواح الغِرا دي بتتنقل لوحدها يعني من المكنة لعُمال السِلك عشان يرصوها، ولا مين اللي بينقلها؟!"، فيضع الحاج محمد له فوق القصعة التي يحملها على رأسه ألواح إضافية للغِراء وهو يداعبه مُرددًا "طب يلا بسرعة انقلها لعُمال السِلك".
عِند آخر الممرات الضيقة التي تزدحم بأوتاد الخشب لتحمل بدورها شبك السِلك؛ تسلق كمال -عامل- بمهارة شديدة مكنته من وضع قدميه كُل في ناحية، ليرص بمنتهى الإتقان ألواح الغِراء على الجانبين شارحًا الفرق بين أنواعه وتأثير ذلك على جودته "الغِرا ده بيسموه الغِرا الحلال لأنه حيواني مش نباتي ولا كيماوي، ورغم انه أحسن أنواع الغِرا، لكن بيفرق في جودته من مصنع للتاني، لازم يكون لونه أصفر دهب مش مِحمر واللوح سُمكه رقيق، وريحته تشبه للشمع عشان يبقى درجة أولى". يصمت كمال بُرهة يُحكم فيها قبضته على وتد الخشب وهو ينقل قدميه من موضع إلى آخر ليستطرد "المهنة دي كلها شقا ميعرفش عنه حاجة إلا اللي جربه، الواحد شاف فيها المُر بس معندناش بديل غيرها ناكل منه عيش".
يلتقط منه "وائل" طرف الحديث ليُكمل"عشان كده نفسي ولادي ياخدوا شهادات كبيرة يتوظفوا بيها، يبقى حالهم أحسن من حالنا، ويعيشوا عيشة مستريحة".
رغم صعوبة مهنتهم -التي لا يعلم عنها الناس الكثير- إلا أن الخوف لا يفارقهم بسبب قرار نقل المدابغ للـ"الروبيكي"- المنطقة الصناعية الجديدة للمدابغ- بالقرب من مدينة بدر. فيقول وائل" اللي هيستفيد من النقل ده أصحاب المدابغ الكبيرة، لكن عمال مصانع الغِرا هيتشردوا وتتخرب بيوتهم لما يحلوا محلهم بالآلات الحديثة اللي ناوين يجيبوها، واحنا ملناش صنعة غير الغِرا ناكل منه عيش".
على كنبة بجوار ماكينة "الفرفرة" كان يجلس صاحب المصنع "الريس عيسى" كما يلقبه العمال، يتابعهم عن كثب، ويأذن لبعضهم بالراحة أو الانصراف إذا استشعر تعبه، فيما يعطي البعض الآخر لدى انتهاء الوردية يوميته والتى تبلغ قيمتها 130 جنيه لكل عامل. ورغم تخرج عيسى، صاحب الثماني والثلاثون عامًا من كلية التجارة، إلا إنه لم يعمل بشهادته قط كما يقول "كان لازم أدير المصنع اللي ورثته أبًا عن جِد بعد وفاة أبويا، الواحد بقالة 25 سنة في الشغلانة دي لدرجة إننا منعرفش نشتغل غيرها".
"الصيف بيجي علينا بخراب البيوت، الحر بيسيح الغِرا وبنخسر الجِلد والسقط"، قالها الريس عيسى وهو يرثي خسارته وخسارة العديد من أصحاب مصانع الغِراء التى أغلقت فهجرها أصحابها وشُرِد عُمالها، مُستطردًا "ده غير إن الغِرا ملوش سعر ثابت، كل يوم بسعر، والمادة الخام غالية وبعد تصنيعها بتتباع بسعر أقل من اللي المفروض تتباع بيه حتى لو جودتها عالية لأن الزبون دايمًا عاوز السعر الأقل، وأحيانًا بنضطر نبيع بأسعار أقل رغم جودة الخامة عشان منخسرش لأن السوق زحمة ومليان خامات ردئية أسعارها قليلة".
الخامات الرديئة التى تملأ الأسواق ليست السبب الوحيد في خسارة مصانع الغِراء ولكن الغِراء الكيماوي الأبيض، والغِراء المستورد دمروا الشغلانة حسبما يقول عيسى "جودتهم أقل، وسعرهم أقل مننا بردو، هما المنافس الوحيد، خلوا سعر الغِرا بتاعنا في الأرض، ورغم كده مبيستخدموش في صناعة الموبيليا اللي أساسها الغِرا الحيواني لأنه أقوى منهم مليون مرة".
الخسارة ليست المشكلة الوحيدة التى يواجهها العاملين بصناعة الغِراء كما يُقر عيسى "الشغلانة تقيلة ع العمال، صعبة ومتعبة، ورغم إن يوميتها عالية بالنسبة لأشغال تانية كتير لكنها متوازيش التعب اللي فيها، يا دوب العامل ياكل ويشرب".
أما عن النقل لمدينة "الروبيكي" فهو أمر لا يخشى الريس عيسى على نفسه منه "أنا لازم هنقل وهاخد كل مُعداتي وكصاحب مصنع هاخد تعويض مادي كمان عن النقل من مكاني، لكن العُمال هيعملوا إيه، احنا مش هنستغنى عنهم بس العدد هيقل جدًا باستخدام المكن والآلات الجديدة اللي هيخلونا نجيبها إجباري، العمال هتتشرد لأن ملهمش صنعة تانية غير دي".
على بُعد أمتار قليلة وفي الجهة المقابلة لمصنع الريس عيسى؛ يقع مصنع الحاج "شوقي عبد الرحيم"، والذي أغلقه منذ ما يقارب العامين بعد خسارة ضخمة، وقام بتأجيرالمكان لأحد الأشخاص ليعيد إنتاج الغِراء فيه من جديد، ولكنه قرر إنتاج الغِراء السائل هذة المرة بدلا من الألواح على أمل الكَسب.
ورغم أن الحاج شوقي قد باع مصنعه وتوقف هو وأولاده السبع عن ممارسة الصَنّعة إلا أن جميعم كالسمك الذي لا يستطيع الخروج من الماء، فالحاج شوقي يذهب يوميًا إلى مصنعه القديم ليقدم الاستشارات للمستأجر الجديد الذي أصبح أولاده السبع يعملون لديه - بعد أن كانوا يعملون مع والدهم- في تصنيع الغِراء السائل، فهم لا يملكون لصنعة الغِراء بديلًا.
قرارغلق المصنع لم يكن سهلًا على الحاج شوقي خاصة وأنه مصدر رزقه، ورزق أولاده السبع وأحفاده أيضًا ولكنه كان مضطرًا لذلك كما يؤكد قائِلًا "يعز عليَّ أقفل مصنعي وعيالي يشتغلوا عند حد تاني لأني اتولدت في المدابغ وفتحت عيني ع الغِرا وريحته، قرش على قرش اتحولت من عامل في مصنع لصاحب مصنع، بس أعمل ايه وهما بيغلوا علينا فواتير الكهربا، الماية والضرايب، اتدينت فكان لازم اقفل، وأجرته عشان أعيش".
ورغم أن الحاج شوقي قد أغلق مصنعه منذ ما يُقارب ثلاث سنوات إلا إنه لم يستطيع البُعد كُليًا عن عالم الغِراء، فحبه للمهنة جعله يقوم بعمل العديد من التجارب -كما يُطلق عليها- حتى نجح في صناعة الجيلاتين الطبي من الغِراء الحيواني، والجيلاتين الطبي هو المادة المُستخدمة في صناعة كبسولات الدواء والمُضادات الحيوية بأنواعها المختلفة، "عملت التجارب ولما نجحت، روحت بالعينات الأولية (المصل واللقاح) عرضتهم على الناس هناك، مبقوش مصدقين إنه معمول في مصر أو إني اللي عملته، وطلبوا منى أعملهم كمية كبيرة، بس مقدرتش لأن الموضوع محتاج إمكانيات مادية كبيرة، وعزل عن التلوث وضمان مستوى نضافة عالي جدًا والحال في المدابغ ميخليناش نقدر نعمله هنا".
لذلك تحديدًا ينتظر الحاج شوقي وأولاده أن تنتقل المدابغ لمنقطة "الروبيكي" بفارغ الصبر، فعلى عكس الكثيرين ممن يخشون فقدان عملهم ومواجه المصير المجهول، فالروبيكي بالنسبة لشوقي وأولاده أرض الأحلام الخالية من التلوث، والتي ستُمكنهم من صناعة الجيلاتين الطبي بدلًا من العمل بالغِراء، ورُبما يشجعهم على ذلك ما سمعوه من العديد من المسؤولين ووسائل الإعلام بأن الحكومة سوف تقدم تعويضات لأصحاب المصانع التي ستنتقل كما يؤكد شوقي "سمعت إنهم هيسهلوا لنا كل حاجة، هيدونا تعويضات، وهقدم على قرض أشتري بيه المكن وأشتغل في الجيلاتين ونعوض خسارتنا"، ليرد عليه أحد أبنائه ردًا مُقتضبًا يحمل في طياته معانٍ كثيرة "ادعي انهم يصدُقوا في كلامهم بس يا حاج المرة دي لا نخسر ونتداين من تاني".
فيديو قد يعجبك: