موظف حكومي صباحا و"رجل الشيشة" ليلا.. "فيصل" قبل وبعد الثورة
كتبت- مها صلاح الدين:
بوجه بشوش، وقامة شبه منحنية، يلقي على الزبائن الجدد السلام، يسألهم بنبرة هادئة "شيشة هنا"، ثم يدير ظهره وينصرف لينخرط في مهام عمله، بإحدى الفيلات القديمة، التي تحولت إلى كافيتريا كبيرة، بشارع أهرامات الجيزة. يمضي ويعود "عم فيصل" بنفس الهدوء، ليضبط "رصة الحجر" الذي طلبه أحد الشباب مع زملائه، ويلتقط من أطراف الحديث عن أحوال البلاد، ويشارك بإبداء الرأي في الموضوعات المطروحة بوجهة نظر رشيدة، ويختتم حديثه: "على فكرة أنا موظف في وزارة الزراعة، باجي هنا بعد الظهر بس".
وحكى الرجل الأربعيني، الذي يبدو أكبر من سنه، بعدما زار الشيب شعر رأسه مبكرا، لـ"مصراوي" عن الظروف التي دفعت الرجل والد الأربعة، ليتحول من محاسب في وزارة الزراعة صباحا، إلى "رجل الشيشة" ليلا، من بعد ثورة يناير.
تزوج "فيصل سيد أحمد" عام 1997، بعدما حصل على وظيفة محاسب في بلاط "الميري"، بوزارة الزراعة عام 1994، براتب لا يتعدى الثمانين جنيها، وعلى الرغم من أن المكسب الوحيد الذي تقاضاه من الثورة - على حد قوله - هو تثبيته في الوظيفة الحكومية، إلا أن تطبيق الحد الأدنى للأجور براتب 1200 جنيه، لم يشفع.
تابع "فيصل": بدأت قصتي مع العمل الإضافي منذ عام 2010، وعملت في الكافتيريا كفرد أمن، قبل أن تحاوط بالأسوار والبوابات الحديدية تصديا للانفلات الأمني ما بعد الثورة، ومن هنا تبدل كل شيء، فمسؤولية رجل الأمن زادت، وأصبحت وظيفة منح الأمان، أكثر خطورة، فيوميا زادت حوادث السرقة والخطف والنهب، وأخفض الرجل صوته وهو يشير على "الشيشة" قائلا: "بسبب ده، بقيت أشتغل في دي".
"الدنيا اتحولت بعد الثورة للعكس 180 درجة"، حاول فيصل حصر الفروق ما قبل وما بعد الثورة، بداية من ضمانة الأمن الذي كان يجعله أكثر حرية في تحركاته أثناء وردية عمله بالمقهى، وطمأنينته على أهل بيته، إلى ساعات العمل التي كانت تمتد ما قبل الثورة إلى 24 ساعة خارج المنزل، وأصبحت لا تزيد بعد الثورة عن 12 ساعة، بسبب الخوف.
"المرتب بتاع الوظيفة ميعيش" هكذا أبدى فيصل أسبابه، ليلجأ إلى عمله الإضافي، فالحد الأدنى للأجور، والذي يحصل عليه ويقدر بـ 1200 جنيه، يقطتع منه تأمينات وضرائب، فيصل إلى 950 جنيها، ليتابع بنبرة قاطعة: "وطبعا لازم أشتغل علشان ممدش إيدي لحد".
"المرتب لا كان بيكفي قبل الثورة ولا بعد الثورة، بس العملية كان فيها خير شوية" عبر "فيصل" ككافة المواطنين المصريين عن استياءه من غلاء الأسعار، مستشهدا سعر السكر الذي كان بـ 175 قرشا، ومن ثم طرق أبوابه الغلاء على استحياء ليصبح بـ 4 جنيهات، إلا أنه لم يكن يتصور أن تعصف به رياحه ليصل إلى 15 جنيها يوما ما.
"الجنيه كان له مقامه".. قالها الرجل الأربعيني، ذو البشرة القمحية، قبل أن يسأل: ما الذي يستطيع الجنيه المصري شراءه حاليا؟ فالآن الـمائة جنيه أصبحت تساوي قيمة الجنيه قبل الثورة، وينفض الرجل رأسه محاولا أن يكف عن التفكير قائلا: "العملية ماشية ببركة ربنا".
لم يقوَ الرجل على كتمان همومه، فعاود الكلام بغضب قائلا: راتبي الحكومي الذي لا يزيد عن 1000 جنيه، بعد الاقتطاعات الرسمية، لا يكفي المعيشة حتى 10 أيام من الشهر، فالدروس الخصوصية للأولاد الأربعة تتراوح بين الـ 800 والـ 1000 جنيه شهريا، ما دفع "رجل الشيشة" تدبير أموره عن طريق عمله الإضافي، ويعول على "التبس" الذي يحصل عليه مقابل وجه الصبوح ومناقشاته الهادئة مع الزبائن، من أجل ألا يشعر أحد أبنائه بأنه أقل من أقرانه في نفس العمر.
وأكد "فيصل" أن الثورة لها بعض المميزات أبرزها تثبيته في الوظيفة الحكومية، بينما يحن إلى أمان ما قبل الثورة، ورخص الأسعار، ناهيك عن المشهد الذي يفتقد أن يرى فيه وطنه، حيث هيبة مصر بالعالم العربي، وإعادتها إلى سيادة الخريطة مرة أخرى، مختتما حديثه لمصراوي: "زمان كان رجال الأعمال هما إلي ماسكين البلد.. دلوقتي هما إلي موقفين البلد".
فيديو قد يعجبك: