من الشرقية إلى شمال سيناء.. كيف تغيرت "الروضة" في عين شاب فقد أعمامه؟
كتب- إشراق أحمد:
طيلة السنوات الماضية، كلما سمع محمد الزير أنباء عن وقوع انفجار أو حادث في شمال سيناء، سارع للتواصل مع راغب، ابن عمه رضا الطناني للاطمئنان على أقاربه، وطالما أخبره ابن العم "يا بني ده في العريش –أو رفح- لكن في الروضة أحنا هنا في أمان".
كانت القرية التي تبعد عن مدينة العريش قرابة 50 كيلومترًا أكثر الأماكن راحة في عين ابن محافظة الشرقية. اعتاد الشاب أن يزور أقاربه فيها لنحو ثلاث مرات سنويًا، لكن الحال تغير يوم الجمعة المنصرف؛ قطع "الزير" رحلة غير مخطط لها، لتزكم رائحة الدم أنفاسه، ويغوص قلبه في حزن على فقد أعمامه، والمكان الهادئ الذي تبدل كيانه.
قبل أقل من أسبوعين، تحدث "الزير" مع زوج عمته رضا الطناني، سأله الأخير أن يزورهم قريبًا، فأبدى الشاب رغبته بأن يفعل ذلك في أقرب فرصة ممكنة، فللروضة يحمل "الزير" كل طيب عن أهل المكان "الناس هناك مشوفتش فيهم حد وحش". وجاءت الفرصة لكن اضطرارًا.
في قرية سعود، التابعة لمركز الحسينية في محافظة الشرقية، قضى "الزير" صلاة الجمعة، وعاد لمنزله لتناول الإفطار "لسه بناكل أول لقمة لقينا اتصال.. إلحقونا أبويا مات وعم رضا مات" كذلك أخبرهم أحمد ابن العم فتحي الطناني، مؤذن مسجد الروضة المقيم في سيناء منذ قرابة 40 عامًا هو وشقيقه رضا كما يقول القريب الشاب.
ثوانٍ ودوى الصراخ أرجاء المكان؛ "ريم" ابنة العم رضا، المتزوجة والمقيمة في سعود –الشرقية- تنهار بسماع الخبر؛ تلملم الأسرة شتات نفسها وتنطلق في سيارة "ميكروباص". رافق "الزير" ابنة العم رضا وزوجها خالد، ابن عمها محمد، الذي صحبهم أيضًا، إلى جانب ابنه الأخر أحمد وإحدى عمات الشاب.
قرابة ساعتين في الطريق مرت كالدهر رغم تسهيل وصولهم حسب قول "الزير". في السيارة أخذ طالب طب الأسنان يتابع الأخبار عبر هاتفه المحمول "قريت في الأول أن مفيش ضحايا والإصابات حوالي 80"، فأخبر ابنة عمه التي أرادت أن تصدق أي شيء إلا وفاة ابيها، لكن الدمع لم يجف؛ اتصل راغب بزوج شقيقته ريم، أخبره أن يسرعوا إليهم، ومع كلماته إلى أخته انهار كل ظن خلاف الموت "الحمد لله على كل حال أبوكي وعمك توفوا".
وصلت سيارة القادمين من الشرقية إلى "الروضة" في غضون الثالثة عصرًا. ما كان يدور برأس "الزير" قبل بلوغ القرية لا يخرج عن "أن في قنبلة أو واحد لابس حزام ناسف دمر منطقة في المسجد وحوالي 50 ولا 60 واحد ماتوا والبقية قاعدين حواليهم بيقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله". لكن الواقع كان مزلزلً "أول لما نزلت لقيت عيل ميت على الأرض وفي واحد بيجري مضروب في إيده بالنار والدم مالي المكان" يروي الشاب بنفس غير منقطع.
تغيرت ملامح المكان الذي زاره "الزير" وصلى في مسجده لمرات عديدة؛ اختفى السكون والابتسامة المستقبلة للغريب "لما كنت أقعد على قهوة يجيبوا لي مشاريب وميردوش أحاسب يقولوا لي الضيف واجبه على راسنا"، أما أذان العصر فلم يرفع من "الروضة" لأول مرة، حل محله ذهول ووجوم يأسر النفوس وينفجر في الوجوه "الستات كانت قاعدة اللي جنبها جوزها ولا ابنها أو الاتنين ومستنية اللي يساعدها عشان تدفنه". أمام المشاهد الجديدة تسمرت قدما الشاب، وانفجر في البكاء برؤية أبناء أعمامه.
في منزل العم فتحي، الأقرب إلى مسجد الروضة، استقر الوافدين هرعًا، ومنه بدأ "الزير" في لملمة تفاصيل ما حدث بنجاة الأبناء من الموت، فابنيّ رضا "راغب ورائد اتأخروا في الشغل وكانوا رايحين قبل الصلاة بحاجة بسيطة"، لكن إطلاق النيران كان أسبق "قعدوا في أوضة يصلوا ويدعوا حوالي ساعة وربع" كما يروي القريب الشاب.
أما أبناء المؤذن، فاستطاع "مصطفى" أن يفر من شباك المسجد مع الطلقات النارية الأولى كما يقول "الزير"، فيما بقي "محمد" منبطحًا على وجهه وفوقه تساقط جمع من المصلين "وعمل نفسه ميت.. لكن قعد يتشاهد ويقول يارب أعيش عشان الحريم اللي في البيت" حسبما حكى لابن عمومته، في الوقت الذي ظن أن جميع أسرته لقوا حتفهم، لكن بعدما انفض المسلحون وهرع للمنزل وجد شقيقه "أحمد" ليدب فيه شيء من الفرح رغم الألم برؤية أخيه على قيد الحياة.
لم يكتف "الزير" بالبقاء في المنزل، ذهب برفقة أبناء عمومته إلى مسجد "الروضة" للمساعدة في تشييع الشهداء "مكنتش عارف أحرك رجلي من كتر الجثث" يصف الشاب المشهد، الذي طالما رآه مختلفًا "القرية تقريبًا في العادي كلها بتصلي. في الفجر حتى تلاقي مش أقل من نص المسجد.. الصف عندهم بخمس صفوف في أي مسجد تاني".
كل ما حول "الزير" يزيده شعورًا بأنه "مش عايش" حسب تعبيره. عويل النساء، نداءهم على أحبتهم "مع السلامة يا دكتور.. مع السلامة يا بشمهندس.. مع السلامة يا ولدي.. هتوحشونا.. في الجنة إن شاء الله". ثم ما يتبعه من صبر يفيض على المتواجدين.
بالمساء دفن أبناء الأعمام رضا وفتحي والديهم حال أهل "الروضة". في مقابر مزار التي تبعد قرابة كيلو مترًا عن القرية استكمل ابن محافظة الشرقية معايشة اليوم الأليم، لأول مرة يرى ذلك الجمع من الجثث يُدفن بمجرد حفر الرمال عبر اللودر "أنا كنت لما يدفنوا ميت أروح أبص كده على اللي بيحصل"، فيما انتبذ آل الطناني قبرًا لذويهم وحدهم "عشان نعرف مكانهم ونزورهم" خاصة أنه تعذر نقلهم لمكان ميلادهم في الشرقية، كأن ذلك استجابة لما أرادوا في الدنيا.
"كانوا بيحبوا سيناء أوي.. عمي رضا كان يقول لي والله ما أقدر أسيب سيناء دي العشق. كفاية القعدة فيها وريحة ترابها" يتذكر "الزير" رد عمه باللهجة العرباوية التي أتقنها، حينما قال له ذات مرة أن يغادروا المكان، بينما يزيد تأثره باسترجاع كلمات العم فتحي، الذي رغم خروجه على المعاش قبل نحو عامين –كما يقول الشاب- إلا أنه رفض ترك عمله كمؤذن للمسجد "كان يقول لغاية ما أموت هافضل أذن.. وسبحان الله أذن الأذان التاني ومات".
في صباح اليوم التالي للفاجعة، عاد ما تبقى من آل الطناني إلى محل ميلادهم في الشرقية كما يقول "الزير"، لأول مرة يغادرون جميعًا من "الروضة". استعجلوا الرحيل ولم يُشاء للمخطط المعتاد بتبادل الزيارة مع حلول المولد النبوي أن يحدث "عمي رضا كان نازل الشرقية الخميس الجاي يشوف ريم بنته ويودي لها الموسم وبدلتين اشتراهم لأحفاده أدم وعبد الله". غادروا لكنهم احتفظوا بحسن الظن في الخاتمة كما يقول الشاب مستحضرًا آية سورة النساء " (ومن يَخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله)... نحسبهم شهداء".
فيديو قد يعجبك: