نازحو سيناء.. هاجروا هرباً من جحيم الإرهاب ولاحقتهم رصاصاته في الروضة
كتبت - مها صلاح الدين:
بعد 24 ساعة من الحادث الإرهابي الذي استهدف مسجداً بقرية الروضة بالعريش، عاد السكون إلى بئر العبد من جديد، صحراء تحاوط المدينة من كل مكان، وطريق دولي سريع تنتهي حدوده المصرية عند معبر رفح، يمر على العريش والشيخ زويد.
على امتداد الطريق الدولي، افترش الفارون من نيران رفح والعريش والشيخ زويد عششاً من البوص في عمق الصحراء، اختاروا بئر العبد لكونها الأكثر أمانا في شمال سيناء، حتى لا يبتعدوا عما تبقى لهم في مدنهم الأصلية، ولكن الإرهاب كان في انتظارهم.
امتدت النيران إلى قرية الروضة المجاورة لحي الرحماني المشهور بـ "الفلوجة المصرية"، واتخذه النازحون قرية لهم، تجول "مصراوي" داخل الحي، واستمع إلى حكايات ساكنيه، متى نزحوا؟ كيف استقبلوا حادث الروضة.
تجاوزنا الممر الأسفلتي الصغير، الذي انحدر على يمين الطريق الدولي، الموازي لقرية الروضة، عشة من البوص، لا تتجاوز مساحتها 4 أمتار، غير مسقوف منها سوى غرفتين، تأوي بداخلها عائلتين، سيدتان لا يظهر من خلف شالهما سوى عينيهما، وأولادهما الستة ووالدهما.
منذ ثلاثة سنوات فروا من الشيخ زويد، "لم يجبرهم أحد على الرحيل"، تقول صبيحة - اسم مستعار اختارته لنفسها- بلهجة سيناوية، جاءوا خوفا على الصغار بعد أن اختفى زوجيهن، شيدوا هذه العيشة واستقروا فيها، وظل والدهن بينهن وبين الشيخ زويد، حيث مازالت تستقر زوجته. تعيشان مما يجلبه لهما الأب، ومن بضعة دجاجات يربيهن داخل العشة.
"سيبنا ضرب النار بالشيخ زويد.. جالنا ضرب النار هنا"، قالتها أخت صبيحة الصغرى، وهي تروي لنا كيف علمت بحادث الروضة الإرهابي. طلقات نيران استمرت قرابة نصف ساعة، لم تثير ذعر الأختان "كنا فاكرينه الجيش"، حتى هرول في اتجاه عشتهم صبي صغير ملطخ بالدماء استطاع الهروب من "الروضة"، تعبيرات وجهه تملك منها الفزع يصيح "إسعفونا.. بيموتوا الناس"، حالة من الرعب انتابت السيدتين، وحبسن أبنائهن داخل غرفات العشة، وانتظرن خلف أبوابها "الرجال عائدون ليعرفوا منهم ماذا جرى؟".
هدّأ خبر هروب المسلحين وقدوم رجال الجيش من سكان العشة، وانطلقت السيدتان نحو "الروضة" ليشاطرن أحزان نسائها، ولكن هناك سمعوا بخبر استشهاد اثنين من الأقارب، بدأوا يتبادلن مع النساء استقبال كلمات العزاء.
داخل الحي، وجدنا غرف خرسانية مغلقة، تتناثر أمامها بعض الأغراض والأحذية، طرقنا أبواب بعضها، لم نسمع مجيباً، خرجت فتاة لا يتجاوز عمرها الـ 10 أعوام من عشة مجاورة، قالت إنها نزحت من العريش مع والدها منذ 5 سنوات، ودخلت لتوقظه من غفوته ليقُص علينا تفاصيل ما جرى.
بينما كان "راجح" يُصلي الجمعة، داخل ساحة الرحماني، سمع مع رجال الحي أصوات وابل من طلقات النيران، لم يقطعوا الصلاة، ظنوا أن هناك هجوم على الكتيبة 101، المجاورة لقرية الروضة "مخدناش في بالنا.. كل حين بيطخوا في الكتيبة".
بعد انتهاء الصلاة، لم يتوجه أغلب رجال "الرحماني" نحو القرية: "خوفنا.. إحنا قولنا ممكن يضربونا"، حبسوا الأبناء داخل العشش، وبدأوا يتلقون اتصالات هاتفية تؤكد تساقط الموتى بقرية الروضة. ذهب "راجح" بخطى متثاقلة نحو قرية الروضة بعد ساعة ونصف من إطلاق النيران، الرجال نقلوا الجثث وأسعفوا المُصابين: "المنظر كان صعب". يؤكد بعبارات قلقة توحي بالحذر، أنه لم يشاهد شيئاً، ولا يعلم أكثر من ذلك.
كان "عابد" شاب في بداية عقده الثالث، نزح مع أسرته بالكامل من منطقة "مطار العريش" منذ 4 سنوات، نظراً لظروف المنطقة الاستراتيجية، انتقل مع زوجته وهي ابنة خاله ليعيش بغرفة والدها الخرسانية التي بنيت على أطراف حي الرحماني، ظل يسافر عودة وذهاباً من بئر العبد إلى القاهرة من أجل العمل.
يستطيع الشاب النحيل من أمام غرفته أن يرى الجانب الأيسر من قرية الروضة بالكامل، وقبل اندلاع المعركة بنحو 10 دقائق، فوجئ بسيدة من آخر بيوت القرية تهرول نحوه في ذعر: "الحقني.. قتلوا جوزي وعيالي".
تردد عابد للحظات، قبل أن يتّبع ظل السيدة، حرصا منه ألا يظهر في هيئة رجل بجوارها حتى لا يُصفيه المسلحون، وقف مشدوها على مقربة من بيتها، زوجها وابنيها ذُبحوا وهم في طريقهم إلى المسجد ليؤدوا صلاة الجمعة، جدالا دار بينهم وبين بضعة ملثمين يرتدون ملابس الجيش وقميص واقٍ للرصاص، استوقفوهم وسألوهم عن وجهتهم، أجابوا "إلى مسجد الروضة للصلاة"، ولكن تلك الإجابة لم تنل إعجابهم فذبحوهم بدماء باردة، وأخذوا يرددون "الله أكبر"، هكذا استجمع "عابد" خيوط الحكاية من السيدة المقهورة.
وصل متأخراً، فارق الرجال الثلاثة الحياة، وبعد دقائق، بدأت طلقات النيران تتعالى حول المسجد، هرول "عابد" نحو غرفته مذعوراً، لاحقه خبر استهداف رجال القرية، فور اعتلاء الخطيب المنبر، عاود إلى القرية مرة أخرى بعد قدوم القوات المسلحة بعدما يقرب من ساعة، وشارك في نقل الجثث وإسعاف المصابين.
فيديو قد يعجبك: