"مصراوي" يرصد عقارات بولاق المُنهارة.. شبح الموت حاضر بين الأنقاض- فيديو
معايشة- علياء رفعت:
بيوتٌ مُتلاصقة حتى يكاد يُخيل للرائي أنها تستند إلى بعضها البعض خِشية الانهيار، شوارعٌ ضيقة تتسع بالكاد لسيارة واحدة كي تمُر بها، وأهالي سَوّد الذعر وجوههم بعد أن فقدوا كل ما يملكون في غمضة عين وارى فيها تراب الأنقاض أحبتهم قبل منازلهم. كان ذلك هو الحال ببولاق أبو العِلا حيث العقارات الثلاث المُنهارة. مشهدٌ لم يفصله عن نظيره بجارد سيتي -التى انهار بها إحدى العقارات أمس- سوى سويعاتٍ قليلة تزعم فيها الخوف والحُزن الموقف. فيما انسابت دموع لم تكف الأعين عن ذرفها.
"مصراوي" انتقل إلى موقع الحدث ليرصد أسباب انهيارالعقارات الثلاثة، ساعات الخوف والوجع التى صاحبتها بحسب شهادات أهالي المنطقة الملكومين الذين فقدوا أربعة جدران كانت كُل ما يملكون من حُطام الدُنيا، بينما بقىَّ ذوي بعضهم مُحاصر بالموت تحت الأنقاض.
الواحدة بعد منتصف الليل..
الهدوء يخيم على أطراف منطقة بولاق أبو العِلا، والسكون يعم الأجواء، لكن بالاقتراب من منطقة "الوكالة" وتحديدًا عند بداية درب نصر الذي يصلك بشارع الخصوصي –حيث العقارات المُنهارة- يبدو الوضع مختلف تمامًا. أربعة سيارات للحماية المدنية تصطف خلف بعضها البعض في درب نصر الضيق وتتقدمهم سيارة إسعاف على أهبة الاستعداد، بينما ينتشر رجال المرور، الحماية المدنية، والإسعاف بالمكان وهُم يتناوبون مع بعضهم البعض التنقيب بين الأنقاض عن المصابين لمساعدتهم.
بجوار الكردون الأمني الذي أقامته قوات الحماية المدنية عِند بداية شارع الخصوصي؛ جلست "فتحية" الستينية. تحوقل تارة وهى تحمد الله على نجاة ابنها من انهيار العقار رغم كونه مصابًا بإحدى المستشفيات، وتبكي تارة لفقد زوجها الذي لا تعلم إن كان حيًا أو ميتًا بعد، ولكنها موقنة بأنه لا يزال تحت الأنقاض.
"كنت بايتة عند أختي واتصلوا بيا قالولي البيت وقع وابنك في المستشفى وجوزك مش لاقينه" قالتها فتحية من بين دموعها وهى تتذكر اللحظات الأولى للرعب الذي استقر في نفسها بعد سماعها للخبر. فور تلقيها لتلك المكالمة هرعت السيدة الستينية إلى حي بولاق حيث تسكن لكي تطمئن على زوجها، بينما توجه أولاد شقيقتها للمستشفى لمعرفة مدى إصابة ابنة خالتهم، واتخاذ الإجراءات لإسعافه.
فوق الرصيف جلست فتحية إلى جوار بعض النساء وهى تضرب كفيها ببعضهم البعض وتُردد باكية "مش لاقيين الراجل ولا عارفة هيجيبوه ازاى، ابني وجوزي في يوم واحد يا رب!، غيتني يا كريم". حالة من الهيستريا تسيطرعلى السيدة الستينية، والتي ما إن تهدأ قليلًا ببعض كلمات المواساة حتى تعود لرواية بداية الأمر.
البداية كما تتذكرها فتحية كانت في العام الماضي لدي انهيارعقارين بنفس الشارع الذي تسكن فيه، ليرسل الحي لجنة لمعاينة أوضاع المنازل بالمنطقة، ورغم أن منزل فتحية لم يكن ضمن المنازل المُقرر فحصها إلا أنها فور علمها بوجود رجال من الحي يقومون بالفحص، ارتدت ملابسها على عجل ونزلت لمقابلتهم، وطلبت منهم معاينة العقار الذي تسكن به لمعرفة إن كان آيلًا للسقوط أو لا.
حسب ما روته السيدة الستينية فإن اللجنة طمأنتها على وضع العقاروجودته، ولكنها فوجئت بقوات الأمن والمسؤولين يرددون عقب الحادث بأن المنزل قد صدر ضده قرار بالإزالة "جايين دلوقتي لما الدنيا خربت بيقولوا كده، وهو احنا لو كنا عارفين ان البيت هيقع فوق روسنا كنا فضلنا فيه!، كنا سيبناه ونفدنا بُعمرنا".
الثانية صباحًا..
استغاثات الأهالي تشق مسامع رجال الأمن وهم يتوسلون إليهم عبور الكردون للبحث ضمن الأنقاض عن متعلقاتهم الشخصية، أموالهم، وملابسهم التي لا يملكون غيرها، بينما ينعي بعضهم حاله صارخًا "هنبات فين، بيوتنا وقعت فوق راسنا وعيالنا اتشردت خلاص، عليك العوض ومنك العوض يا رب".
بالقرب من إحدى الدكاكين الصغيرة في زقاقٍ متفرع من حارة المسايرة بشارع خصوصي، وقف "مجدي" الخمسيني يمد يد العون للأهالي الذين يحملون ما استطاعت قوات الأمن استخراجه من تحت الأنقاض. ينقل معهم أكياسًا بلاستيكية، بعضها يحوي أوراق، والبعض الأخر ملابس مُزِقت.
العناية الإلهية وحدها هي التي أنقذت مجدي وأسرته من تواجدهم بالعقار أثناء انهياره "مكناش موجودين في البيت وقتها، لكن كلموني قالولي بيتكوا بيقع فجيت جري". قُرب الحادية عشر من مساء أمس تلقى مجدي هاتفًا يفيده بانهيارالعقار الذي يتواجد به منزل عائلته، فترك عمله وتوجه لبولاق على الفور.
"لولا إننا نقلنا من بيت العيلة من كام شهر فاتوا كان زمانه وقع على دماغنا كلنا" كلمات لخص بها مجدي وضع أسرته الذي يحمد الله على كونه انتقل بهم للحياة في منزل آخر قبل شهور قليلة نظرًا لخوفه من انهيار عقارات المنطقة بشكل ملحوظ على مسافات زمنية متقاربة "آخر بيت وقع في الشارع اللي جمبنا كان من 6 شهور بس".
العقارات الثلاثة انهارت تِباعًا حسب ما رواه مجدي وباقي أهالي المنطقة، الذين أكدوا على أن أحد هذة العقارات كان مائِلًا على العقار المجاور له وأنه لدى انهياره انهار العقار المجاور له والعقار الذي يتقدمه بالتبعية.
الثالثة صباحًا..
على الرصيف، جلس أغلب أفراد قوات الحماية المدنية يتناولون بعض الطعام، وعلى الناحية الأخرى من الشارع ذاته نِساءٍ وأطفال ملأ الذعر قلوبهم وتقرحت عيونهم من البكاء، بينما انطلق بقوة صوتٌ يشق السكون والظلمة من آخر حارة المسايرة مُرددًا "خالتي، خالتي، سمير كويس، أنا لسه جاى من عنده من المستشفى، كام خدش وكسر بس".
نجاة سمير كانت محض صُدفة كما يؤكد ابن خالته "كريم"، فالقدر قادة للنزول من العقار لشراء بعض الحاجات قبل الانهيار بثوانٍ معدودات، ليُلقي بنفسه عِند الباب مع سقوط أول الحوائط. فيما تعالت صرخاته المصحوبة بالنحيب "أبويا نايم جوا".
"عم حسين لسه تحت الأنقاض وسألنا عليه في كل المستشفيات مش لاقينه" رددها الشاب العشريني بأسى وهو يؤكد أنه قبل أن يطمئن على سلامة سمير لم يكن يدري ما الذي يتوجب عليه قوله ليُهدىء خالته التي ظنت انها فقدت كُل من ابنها وزوجها في يومٍ واحد، إلا أن نجاة الابن لم تهون الأمر على الأم إلا قليلًا.
ورغم ذلك فإن كريم يؤكد أن حادثة الانهيارتلك ليست الأولى من نوعها ببولاق ولن تكون الأخيرة، لتراخي المسؤولين في ترميم منازل المنطقة المتصدع بعضها بالشروخ بينما البعض الآخر آيل للسقوط.
الرابعة صباحًا..
على ناصية شارع الخصوصي، كان "خصوصي عبد المنعم" يقدم يد العون للأهالي كيفما استطاع، يعطي المياه لجيرانه المصابين وهو يهون عليهم، ويحفز عساكر قوات الحماية المدنية وهو يسألهم عن موعد وصول "اللوادر" لرفع انقاض العقارات المنهارة ليجيبوه أن بعضها في الطريق ولكنهم يواجهون المصاعب نظرًا لضيق الشوارع والحواري المجاورة.
"عبد المنعم" هو واحدًا من أبناء بولاق التي لم يعرف غيرها مسكنًا له، ولكنه يجزم كغيره من الأهالي أن كل بيوت بولاق "بايظة ومشروخة"، وأن الحكومة وإدارة الحي لا ترغبان بترميم تلك المنازل أو السماح لأصحابها بهدمها والبناء مكانها مرة أخرى "أم شريف لما اتنبح حِسها وهى بتشتكي للحى ومديرة الأمن إن بيتها هيقع محدش عبرها، فهدت البيت وبنته من أول جديد عملولها غرامة 300,000 جنية"
حوادث الانهيارات المتكررة ببولاق يوثقها الأهالي بنفوسهم التى تفقد عِشرة وجيرة بعض من جيرانهم الذين يصبحون ضحية لتلك الانهيارات دون تغيير الأوضاع "من 3 شهور وقع بيت في آخر الشارع وماتت أم وبنتها، ولما جت الشرطة رفعوا الانقاض ودفنوا الناس ورجع أبوك عند أخوك بعدها ومحدش حس بحاجة".
الخامسة فجرًا..
يُرفع آذان الفجر، ليرفع معه دعوات الأهالي الذين فقدوا مأواهم الوحيد من الدنيا، وأصيب ذويهم، فجلسوا في حالة من الذهول والصدمة لا يعلمون ما الذي تخبئه لهم الساعات المقبلة، بينما تتعالي صرخات فتحية المدوية " يا رب بحق الأدان ده، أنا عاوزة جوزي حى أو ميت يا رب".
فيديو قد يعجبك: