''الجرافيتي'' يقول كلمته: ''حق رجالة محمد محمود مش هيروح هدر''
كتبت - دعاء الفولي:
تصوير : اشراق احمد
''فُرشة'' وبعض الألوان ورسومات، ربما تعتبرها أدوات قليلة لا تفعل شيئا سوى رسم بعض الأشكال على الحوائط في هذا الميدان أو تلك الجامعة، لكنها تغير مع ذلك في كيان آخرون، على الأقل تغير في كيان من اعتبروا هذا الرسم هو الرمق الأخير الباقي من الثورة التي طالما حلموا بها وعندما قامت صوروها على ''الحيطان'' كي لا ينساها الناس.
أما هو فرسام آخر من رسامين فن ''الجرافيتي''، بدأ الرسم كشباب آخرين بعد أن أبهرته فكرة تدوين ذكريات الشد والجذب والموت والضرب والقضايا العامة، فقرر تعلم الفكرة مع وجود موهبة لم يفكر بأن ينميها قبل الثورة خاصة أنها ليست في مجال دراسته.
''إبراهيم الباز'' الشاب العشريني وخريج كلية التجارة لم يكن يعرف عندما قامت الثورة أنه سيكون من رسامين الجرافيتي الأساسيين الذي دونوا أحداث '' محمد محمود'' وما أعقبها من أحداث على ''حيطان'' الجامعة الأمريكية وغيرها من حوائط ميدان التحرير، حتى أنه لم يكن يعلم أن ''الجرافيتي'' سيكون سبب رئيسي في القبض عليه واحتجازه في مكان لا يعرفه لمدة ثلاثة أيام كاملة.
''محمد محمود أحد الحاجات اللي غيرت اتجاهات ناس كتير مننا..لأني لحد الأحداث ما كنتش متخيل إن عنف الشرطة ممكن يوصل كدة ''.. هكذا بدأ ''الباز'' كلامه، مشيرا إلى أن ''فكرة الرسم وقت أحداث محمد محمود نفسها كانت صعبة جدا، بس كنا بنرسم أول ما الأحداث تخلص، يعني مثلا رسمة ''الماريونيت'' بتاعة المجلس العسكري كنت انا اللي راسمها بعد الأحداث مباشرة''.
لم تكن فكرة إصابة ''الباز'' في قدمه بأحداث ''محمد محمود'' تمثل معضلة، مقارنة بما رآه من إصابات أخرى '' أنا شفت ناس كتير جداً بتموت قدامي وشلت ناس منهم على إيدي، وإصابتي مكنتش ولا حاجة قصاد اللي عينهم راحت''.
إلا أن أحداث إصابته أيضاً لم تغب عن باله؛ حيث يروي ''الباز'' أنه أخذ أكثر من رصاصة خرطوش '' في البداية لكنه لم يشعر بشيء بسبب ''الجاكت'' الذي يرتديه ولم يصل شيء لرأسه بسبب ''الخوذة''.
غير أن الحال لم يبق على ما هو عليه كثيراً، بعد أن أصيب في قدمه بأكثر من رصاصة ''خرطوش'' فسقط أرضاً، ولم يجد من يسعفه فاضطر للاختباء أسفل أحد السيارات التي كانت موجودة وقتها لأن الضرب كان ''شديد جداً''، وظل حتى ''الضرب قل شوية'' واستمر في الزحف إلى أن استطاع الدخول بإحدى الشوارع الجانبية للاختباء .
وربما لا تكون ذكرى الضرب بـ''الخرطوش'' هي الأصعب على ''الباز'' إذا قورنت بذكرى اعتقاله على حين غره في إحدى الكمائن التابعة للداخلية ويحكي عن ذلك '' كنت ماشي واتقبض عليا في كمين، وأعدت ثلاث أيام عينيه متغمضة، وبعدين رموني على الطريق الدائري ولما خرجت عرفت إني روحت مدينة نصر، وبعدين اترحلت على اكتوبر، ومعرفش ومشوفتش اللي بيحققوا معايا لكن فهمت من أسئلتهم أن السبب كان رسمة ماريونت المجلس العسكري''.
وعلى الرغم من الوجع والغموض المحيطان بهذا الاعتقال، فلم يحزن ''الباز'' بدرجة كاملة ففي النهاية يعتقد أن مجرد القبض عليه بدون تهمة سوى أنه رسام ''جرافيتي'' فهذا يعني أن ''الشرطة بتخاف من رسوماتنا.. وبتعمل لنا ألف حساب.. بدليل إنها كل شوية تمسح الرسم ''.
لكن ما يحزن ''الباز'' أكثر هو نظرة الناس التي لم تتغير للثوار حتى الآن بعد سنة من أحداث ''محمد محمود'' وبعد عامين من الثورة، فيتعجب ممن يقول إن الثوار أرادوا اقتحام وزارة الداخلية ويرد على من يزعم ذلك ساخراً '' يعني أنا لو عايز اقتحم الوزارة ايه اللي هيجبني من محمد محمود.. ما كنت هروح من شارع ريحان وخلاص!، زائد إن الشرطة كانت ممكن توقف المجزرة من أول يوم لو عملت الحواجز وانسحبت لأنهم كان معاهم خرطوش وحي وقنابل فطبيعي يبدأوا هما بالانسحاب عشان الخساير تقل'' .
وعلى جانب الأخر، ففكرة اعتقاد الناس بأن ''الثوار ممولين وخاصة بتوع الجرافيتي'' فكرة عبثية - على حد قوله - فمثلا '' الإستنسل اللي بيبقى مطبوع و بيتفرغ دة الــ100 واحدة منه بـ20 جنيه، والجداريات الكبيرة اللي بتترسم بتتكلف على بعضها حوالي 200 جنيه، وبيرسمها حوالي عشر أشخاص؛ فاحنا مش محتاجين تمويل أصلا عشان نرسم''.
يتوقف ''الباز'' قليلا عن الكلام متذكرا المشاهد التى رأها في أحداث '' محمد محمود '' والتي يؤكد أن '' لو أعدت أحكي عن اللي شوفته من المهازل مش هخلص أبدا''، ويتذكر بعضاً منها ويقول '' القنابل اللى كانت بتنضرب علينا عجيبة، قنابل الثورة بالنسبة لها ''بونبوني''، وشوفت بنفسي ناس جالها هستيريا من ريحة القنابل، وولد بيخبط دماغة في الحيطة من كتر الوجع واتعور وكان هيموت نفسه، وأخر يومين في الأحداث كان فيه قنابل بتترمي من عند الشرطة مبتعملش دخان بس اللي بيشمها كان بيقع ''.
حتى أنه لم يستطع ''الباز'' أن ينسى تلك الفتاة التى قررت فجأة أن تجري متجهه نحو قوات الشرطة وهي لا تحمل شيئاً في يدها وتصرخ بهستيريا حتى أنها كانت تدفع كل من يحاول منعها ولم يوقفها سوى قفز الشباب ومحاولة تثبيتها أرضاً .
بعد عام على الأحداث لا ينتظر ''الباز'' الكثير من الحكومة فهو يعتقد أن '' محدش عمل حاجة قبل كدة، مفروض الحاجات اللي ليها علاقة بالناس اللي ماتت تبقى محتاجة قرارات ثورية لكن مع ذلك فاتت سنة ومحصلش حاجة ''.
لكن باعتباره أحد رسامي ''الجرافيتي'' فإنهم كالعادة وجدوا طريقتهم للتعبير عن الغضب بجانب المظاهرات التى ستخرج يوم 19 نوفمبر؛ حيث قرروا أنه '' هيتم رسم جدارية كبيرة جدا اليوم ده عن الولد اللي وقف قدام المدرعة وهي بترش مياه وقت الثورة، وهنرسمه عشان نقول للناس إن اللي ماتوا في محمد محمود رجالة ولسه في رجالة هيخدوا حقهم ''.
فيديو قد يعجبك: