الجزائر..العاصمة التي تحاول ''الانسلاخ'' عن ماضيها وركوب موجة العصر
الجزائر - (د ب أ):
في مزيج بين الطابع العصري والتقليدي وبلمسة أوروبية غالبا ومغاربية تارة قليلة، غيرت الشوارع الكبرى والرئيسية بالعاصمة الجزائرية واجهاتها ، حتى أصبحت اللمسة الغربية هي الطاغية على مدينة تملك موروثا حضاريا لا يمكن بأي حال من الأحوال التفريط فيه.
لا يتوانى البعض في وصف هذا التغيير بالتقليد والبعض الآخر يصنفه في خانة التماشي مع المقاييس العالمية التي تتميز بها كبريات عواصم العالم، في وقت يعتبره كثيرون نتيجة حتمية لتلك الإسقاطات السياسية والتشريعية التي عرفتها الجزائر في الفترة الأخيرة وما تبعتها من ترسانة قانونية. أما من يحافظ على عراقة المحروسة وكل ما هو تقليدي فلا يتأخر لحظة في انتقاد هذا التغيير بحجة انه تخلي عن التراث المعماري الإسلامي الذي أريد أن تلبسه العاصمة التي تسمى بـ''البيضاء'' وأحيائها العريقة ضاربين المثل بحي القصبة العريق ومحلاته التي تخلت عن كل ما هو تقليدي باتجاه الحداثة والتغيير دون ايلاء الأهمية لهذا التراث العالمي.
الوقوف بشوارع وأزقة مدينة الجزائر يترك الزائر ''المعتاد'' يتساءل حول الذي تغير بهذه المدينة. بعد نصف قرن من الاستقلال لم تعد الجزائر نفسها جزائر السبعينيات ولا الثمانينيات ولا حتى التسعينيات من القرن الماضي، لأن حتى هذا التطور أو بالأحرى التحول مر هو الآخر بمراحل تماشيا مع تطور المجتمع الجزائري وحتى مع التغيرات والتحولات السياسية والاقتصادية الكبرى التي عرفتها الجزائر، بدءا من نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وهو التحول الكبير من النظام الاشتراكي نحو النظام الرأسمالي وما تبعه من حضور لافت لليبرالية.
الجزائري تغير وطباعه أيضا أشياء كثيرة تغيرت بعاصمة البلاد أو حتى بكبريات المدن التي أصيبت هي الأخرى بهذه العدوى ونذكر منها وهران (غرب البلاد) وقسنطينة وعنابة (شرقي البلاد)، لكن الجزائر العاصمة تبقى محط كل الأنظار فمن شارع ديدوش مراد ومرورا بساحة البريد المركزي فشارع العربي بن مهيدي ووصولا إلى ساحة الشهداء، لم تعد المحلات نفسها تلك التي كانت في حقبة ليست بالبعيدة ، كل شيء تغير، التسمية ، طبيعة السلع ، طريقة عرضها وكيفية ايصالها وتسويقها للزبون الذي حقا تغيرت حتى طريقة التعامل معه، ورأيه أصبح محترما جدا مثلما هو معمول به في كبريات العواصم الأجنبية، بل أن هذه المحلات اضطرت الى تعديل ما كانت تكتبه من شعارات داخل محلاتها في وقت سابق من'' المحل لا يقدم قروضا''، إلى ''الزبون ملك والمحل في خدمته''، وهو ما يعني آن الجزائري تغير وحتى طباعه تغيرت أيضا.
لم تكن كبريات الماركات العالمية على التماس من كل ما يحدث في مجتمع عرف عنه بأنه استهلاكي وسهل اقتناصه، فسارعت إلى فتح محلات لها في الشوارع الكبرى بالعاصمة والأحياء الراقية احترمت فيها كل المقاييس الدولية، فالهندسة الخارجية والتصميم الداخلي للمحل هو نفسه بالعواصم الكبرى، ولا فرق بين محل بباريس أو بدبي أو بالجزائر ، لان السلعة نفسها ومعروضة بنفس الطريقة ليبقى الفرق الوحيد والواحد هو التعامل بالدينار الجزائري. وساعد على هذا التوجه التحولات التي ضربت ميولات الجزائريين، فضلا على أن تأثرهم في السنوات الأخيرة بالدراما التركية وجه اهتمامهم إلى السلع المنتجة بهذا البلد والتي لقيت هي الأخرى رواجا كبيرا والمحلات تأقلمت مع الوضع ، بعدما أصبحت وجهة ''البزناسية'' أي تجار الشنطة مدينة اسطنبول. ولم يعد غريبا أن نجد محلات تركية خاصة الكثير منها خصص مكانا للزبون ليرتاح فيه ويطلع على المجلات التي يجد فيها كل سلعة يرغب في اقتنائها، وهو أمر بالتأكيد جديد على الجزائري الذي لم يعد يرضى دون هذا، بل انه أصبح يختار المحلات التي تعرض عليه مثل هذه الخدمات.
محلات للمتحجبات وأخرى للعباءات الخليجية في وقت ليس بالبعيد لم تكن المرأة المحجبة تجد من الملابس ما يرضي ذوقها ، لكن كل شيء تغير وأصبحت اليوم تجد محلات بالكامل في خدمتها ، فالمحجبات أصبحن يجدن كل ما يريدن من سلعة سواء تلك الآتية من تركيا التي أصبحت وحسب أرقام السفارة التركية في الجزائر تستحوذ على 60 بالمئة من حصة السوق أو تلك القادمة من دول الخليج ونخص هنا سلسلة المحلات التي فتحت في الآونة الأخيرة والتي تخص العباءات السعودية و الخليجية بصفة عامة ، وهي نفس السلع المعروضة بكبريات الدول الخليجية .
المساحات التجارية الكبرى فضاءات جديدةأهم تحول شهدته العاصمة الجزائر في السنوات الأخيرة هو التخلي عن البقال وعن حانوت المواد الغذائية العامة الموجود بالحي أو الحارة والتوجه نحو المساحات الكبرى والتي احتلت فضاء واسعا ، وجلبت العديد من الجزائريين الذين تخلوا عن ثقافة ظلت راسخة لعقود إذ تأقلموا بسرعة مع القادم الجديد ، مادام هذا الأخير يقدم عروضا أفضل وبمقاييس دولية محترمة من قبل أكبر الماركاوالمساحات التجارية في العالم.
موجة التغيير طالات العديد من المجالات والقطاعات على غرار المطاعم هي الأخرى عرفت تحولا كبيرا وطفرة جعلتها تحدث القطيعة مع سنوات خلت، وهذا التغيير الذي هز العاصمة نلمسه بدرجة أكبر في سلسة المطاعم التي فتحت في فترة وجيزة جدا ، ففي السابق لم يكن غالبية الجزائريين يسمعون بالطبخ الياباني أو التركي أو الصيني، عكس ما نشهده اليوم، في الوقت نفسه ازدهرت المطاعم التقليدية التي تقدم الطبخ المغربي التونسي والجزائري بمختلف أنواعه، فظهرت مطاعم تشجع الأكلات الشعبية من المناطق الأربع للبلاد ، ناهيك عن محلات الحلويات الشرقية التي احتلت حيزا واسعا، بل أصبح الطلب عليها ملتهبا وعوضت محلات ''الزلابية'' التي اشتهر بها الجيران التونسيين.
وقد تزامن فتح هذه المطاعم مع قدوم العدد الكبير من الشركات الأجنبية والشركات المتعددة الجنسيات من اجل الاستثمار في الجزائر ، فمجيء الأجانب دفع العديد منهم وحتى من الجزائريين إلى التفكير في تقديم أكلات خاصة بهذه الدول ، والاستفادة من تكوين بمختلف نقاط العالم في فن الطبخ بما يسمح بفتح مطاعم فكانت التركية والصينية والمغربية، دون نسيان الطبخ الأوروبي والأكلات السريعة التي تشبه بالدرجة الأولى المأكولات التي تقدمها محلات “ألماك دونالدز''.
يقول صاحب مطعم تركي بحي بن عكنون، وهو حي بأعالي مدينة الجزائر انه في بداية نشاطه قبل نحو 18 عاما كان الإقبال عليه محتشما ، لكن بداية من سنة 2000 تغيرت الأمور كثيرا بدليل فتح محلات أخرى بعدة بلديات وأحياء راقية أخرى، وحتى الإقبال على مطعمه زاد بل أن الحجز أصبح يتم قبل يومين من الموعد ، والسبب الرئيسي هو عدد الأجانب الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم.
قوانين عبدت طريق التغيير يؤكد المستشار القانوني على مستوى لجنة الشؤون القانونية بمجلس النواب، محمد براهيمي، إن جل القوانين التي ناقشها المجلس خلال العهدتين التشريعيتين الماضيتين ، ساهمت بدرجة كبيرة في تعبيد الطريق نحو التغيير وفي مختلف المجالات، وانفتاح الجزائر على الأسواق الأجنبية ، وقدوم مستثمرين أجانب بعد فتح باب الاستثمار، وهو ما ساهم في احتكاك الجزائريين مع مختلف الثقافات والعادات ، وعلاقة كل هذا بالعولمة دفع إلى تغيير نمطي مس كل شيء بما فيه موضوع التغييرات التي مست عاصمة الجزائر بشكل تركها تتأثر بكبريات العواصم الأوروبية .
وإن كان أهل القانون يرون إن للتشريعات التي سنت خلال الأعوام الأخيرة الفضل الكبير في إرساء هذا التغيير وفي إعادة بناء جزائر جديدة تتماشى والتغيرات والتحولات الكبرى التي عرفتها في السنوات الأخيرة، فإن علماء الاجتماع يرون في الموضوع ظاهرة جديدة وهي حقيقة فرضتها التغيرات المحيطة بالجزائري والمحيط الذي يعيش فيه وغزو الثقافات المتعدد الأساليب والأوجه. يجزم عالم الاجتماع ناصر جابي ، أن حالة مدينة الجزائر وما أصابها من تحول يتطلب دراسة معمقة من قبل المختصين بالمدينة وتغيراتها وتطوراتها .
لم يتأخر وزير التكوين والتعليم المهنيين، الهادي خالدي، في التعبير عن انبهاره لما شهدته شوارع العاصمة من التغيرات الكبرى التي طالتها ، ويقول بصوت عال إن العاصمة تغيرت كثيرا وهو ابن باب الوادي أحد الأحياء الشعبية العريقة الذي أصبحت واجهات محلاته تشبه كثيرا المحلات الأوروبية من ألوان وأضواء وأشكال هندسية زينتها. كلام خالدي وهو الذي يتولى منصب وزير منذ سنوات لم يكن اعتباطيا بل فسر على انه احد الانجازات التي لا يجب إغفالها بعد 50 عاما من الاستقلال، في وقت يقول كثيرون أن الجزائر تستحق أكثر مما كان على جميع الأصعدة بالنظر للخيرات والثروات التي تزخر بها إلى جانب الكفاءات المتعددة.
فيديو قد يعجبك: